منذ مدّت بريطانيا اهتمامها بالسيطرة على البحار إلى البحر الأحمر وبحر العرب مطلع القرن السابع عشر الميلادي، تركزت دراسات موظفي التاج الملكي فقط على تفحص الجدوى التجارية للمنطقة. لم يكن لمدراء شركة الهند الشرقية، الذين اقترحوا على الحكومة البريطانية احتلال عدن في ثلاثينيات القرن التاسع عشر، أن يفكروا خارج نطاق التجارة، ثم إن حكّام عدن وسكانها آنذاك لم يكونوا بالقوة التي كانوا عليها أمام محاولة البرتغاليين احتلالها في 1513. لذلك لم تلجأ الإمبراطورية الإنجليزية إلى الأنثروبولوجيا تمهيداً لاحتلال المدينة كما فعلت مع مستعمرات أخرى، بل اكتفت بإرسال ضابط البحرية ستافورد هينس المعروف في اليمن بـ"الكابتن هينس"، ليستطلع المدينة سنة 1834. هينس هو الآخر اكتفى برفع تقرير عن تضاريس المدينة وتقدير عدد سكانها وحركة التجارة فيها. وبعد أربع سنوات احتلت حكومة التاج "ثغر اليمن" و"دُرّة الجزيرة العربية".
أكثر من 128 ألف وثيقة في 128 سنة
في كانون الثاني/ يناير 2022، نظّم "اتحاد أدباء وكتاب الجنوب" فعالية ثقافية في عدن كُرست لتحريك الاهتمام البحثي بتاريخ مدينة عدن المدوّن في الوثائق البريطانية. تحدث في تلك الفعالية الباحث بلال غلام حسين الذي قال إنه قضى عدة سنوات في البحث عن الوثائق الخاصة باليمن في المكتبة البريطانية الكبرى، ووجد أن عدد الوثائق الخاصة بعدن تزيد عن 128 ألف وثيقة، وغالبيتها تختص بالإدارة المدنية للمدينة. وإضافة إلى ذلك، كشف عن وجود آلاف الوثائق في الأرشيف الوطني البريطاني وفي أرشيف البرلمان.
إقليم عدن: مؤهلات دولة
07-05-2014
وجود هذه الوفرة من الوثائق الخاصة بالجزء الجنوبي من اليمن في الأرشيف البريطاني، تفسّر تمسّك المملكة المتحدة بلقب "صاحبة القلم" في الملف اليمني الذي تتداوله الآن مع أكثر من عشر دول دون تحقيق أي تقدّم باتجاه إحلال السلام في اليمن الحالي. وبينما أتاح القانون البريطاني رفع السرية عن معظم وثائق الحقبة الاستعمارية للإمبراطورية، ما زالت السرية تحجب آلاف الوثائق التي قال الباحث حسين إنها لن ترفع عنها إلا بعد خمسين سنة. مما لا شكّ فيه أن الوثائق التي لم يُرفع عنها الحجب بعد، مصنّفة ضمن الأسرار السياسية والاستخباراتية التي ما زالت صالحة لخدمة سياسة وأهداف بريطانيا في اليمن والمنطقة العربية، لكن هل توجد بينها وثائق أنثروبولوجية؟
هذا السؤال مبني على سؤال آخر عمّا تمثله الأنثروبولوجيا لقادة البلدان الاستعمارية في القرن الواحد والعشرين، حيث أصبحت وسائل السيطرة متعددة في هذا العصر الرقمي. كما يأخذ السؤال وجاهته من العودة الارتدادية التي لم تعد موارِبة لدول الغرب نحو مستعمراتها القديمة، ومن كون الغالبية العظمى من الوثائق المتاحة ما زالت بلغتها الأم، وهو ما يثير تساؤلات أخرى من قبيل: ماذا لو كانت حركة الترجمة العربية واكبت رفع السرية عن تلك الوثائق وأُتيحت للقارئ العربي أولاً بأول؟
الأنثروبولوجيا في سياسة بريطانيا الاستعمارية
تخبرنا قصص حياة جيرترود بيل (1868-1926)، توماس إدوارد لورانس (1888-1935) وجون فيلبي (1885-1960)، على سبيل المثال، أن بريطانيا لم تستغن عن البحث الأنثروبولوجي لرسم وتنفيذ سياستها الاستعمارية في المنطقة العربية. لقد جندت أمثال هؤلاء في جهازها الاستخباراتي، وحوّلتهم من علماء وباحثين لأجل العلم والمشتركات الإنسانية، إلى علماء في خدمة السياسة الاستعمارية للإمبراطورية. لكنها بالنسبة لعدن، لم تكن بحاجة لعلماء آثار وإناسة لكي تضع يدها على الميناء الأهم في طريق التجارة مع الشرق. وبعد نجاحها في ذلك ركّزت اهتمامها على دراسة توزّع السلطة في المشيخات والسلطنات ذات النفوذ في عدن. أما مجتمع عدن نفسها، سكانها البسطاء في محيط البندر والميناء، فلم يكونوا بالنسبة للكابتن هينس وغيره من الحكّام البريطانيين الذين تعاقبوا على المدينة، أكثر من مجرد كائنات غير مفهومة من البدائيين بمعتقدات غريبة يأتي في مقدمتها إيمانهم بالجن والسحر والشياطين.
عاش هذا المجتمع حياة عزلة شبه تامة عن الإدارة البريطانية بالرغم من إلحاقه إدارياً بالمستعمرة، وقد احتفظ بالعادات والتقاليد والمعتقدات، سواءً ذات الأصول الموغِلة في القدم أو تلك التي تكونت بفعل تمازج ثقافات المهاجرين من أفريقيا والهند وغيرهما. ومع استمرار استعمار الإمبراطورية للمدينة، توافد عليها عشرات الكتاب والعلماء البريطانيين الذين كتبوا عنها وعن جنوب اليمن عموماً، سواءً من موقعهم كموظفين رسميين أو زائرين بهدف البحث متعدد الأغراض. من بين هؤلاء واحد فقط دوّن دراسته لمجتمع محيط عدن بصورة مركِّزة على الفلكلور الديني والثقافي، في محاولة لفهمها، على الرغم من أن الدراسة صُنّفت باعتبارها تقريراً استخباراتياً.
"فلكلور عدن الصغرى"
هذا هو عنوان تقرير/ دراسة عالم الآثار البريطاني أوليفر مايرز (1903-1966)، وهو خلاصة مسح ميداني أجراه في شتاء 1944، على التجمعات السكانية المحيطة بميناء عدن. كان مايرز حينها موظفاً رسمياً في سلاح المخابرات البريطانية أرسل للخدمة في مستعمرة عدن آنذاك، بعد أن خدم في مصر، ليبيا، فلسطين، سوريا ولبنان خلال السنوات الأربع السابقة.
تخبرنا قصص حياة جيرترود بيل (1868-1926)، توماس إدوارد لورانس (1888-1935) وجون فيلبي (1885-1960) على سبيل المثال، أن بريطانيا جنّدت أمثال هؤلاء في جهازها الاستخباراتي، وحوّلتهم من علماء وباحثين لأجل العلم والمشتركات الإنسانية، إلى علماء في خدمة السياسة الاستعمارية للإمبراطورية. لكنها بالنسبة لعدن، لم تكن بحاجة لعلماء آثار وإناسة لكي تضع يدها على الميناء الأهم في طريق التجارة مع الشرق.
"فولكلور عدن الصغرى" هو عنوان تقرير/ دراسة عالم الآثار البريطاني أوليفر مايرز (1903-1966)، ويتناول مايرز الخلفية الطبيعية والأثرية لمجتمع الدراسة، إضافة إلى "الثقافة المادية"، "التاريخ الشعبي"، "الدين والخرافة"، مفصِّلاً تحت هذا العنوان أسماء "الأولياء" الذين كانوا يحتكرون المعرفة بأسماء الجن، وقصصاً محكية لم يسبق أن دوّنها أحد عن "الكرامات" التي تتفنن المخيلة الشعبية في ابتكارها.
في تقديمه، يصف مايرز دراسته الصغيرة تلك بأنها مجرد "ملاحظات"، مشيراً إلى أنها غير مسبوقة في موضوعها بالقول إنه ترك فيها الكثير من الثغرات "أملاً في أن الثغرات الكبيرة ربما تستفز أحد الأنثروبولوجيين المحترفين لإجراء دراسة جادة في بيئة المحمية [عدن] شديدة الثراء". انفراد الدراسة بموضوعها أكده أيضاً مترجمها، الباحث اليمني المختص بالنقوش والمعتقدات الدينية القديمة، محمد عطبوش، وقد ترجمها عن نسخة ضوئية زوده بها أحد زملائه السوريين من "إحدى مكتبات باريس".
في أيار/ مايو 2023، أخرج عطبوش ترجمته لتقرير مايرز، مضيفاً إليه تصويبات وتوضيحات لأسماء الأماكن والممارسات اليومية والمناسباتية لبعض المعتقدات استناداً إلى روايات منقولة عن كبار السنّ في عدن. تتضمن تلك المعتقدات طقوس استرضاء الجن عبر "الأولياء" أو "القدّيسين" بحسب المقابِل المسيحي للكلمة. وهي تتشابه مع نظيراتها في كثير من المجتمعات العربية، سيما في بلدان المغرب العربي ومصر، مع اختلاف في الأسماء والمحكيات الشفهية المتناقَلة عبر الأجيال عن "كرامات الأولياء" وقدرتهم على التحكم بالجن وإبطال السحر. وعلى الرغم من استعانة مايرز ببعض زملائه القدامى في الإدارة البريطانية لعدن وبعض الموظفين المحليين أيضاً لتصويب الأخطاء التي وقع فيها، حفلت ترجمة النص العربي بتصويبات إضافية تشير كالعادة، ليس إلى ضعف الثقافة الأوروبية بالمجتمعات العربية وحسب، بل أيضاً إلى ضعف ثقافة غالبية اليمنيين بتاريخهم البعيد.
تناول مايرز في تقريره الخلفية الطبيعية والأثرية لمجتمع الدراسة، إضافة إلى "الثقافة المادية"، "التاريخ الشعبي"، "الدين والخرافة"، مفصِّلاً تحت هذا العنوان أسماء "الأولياء" الذين كانوا يحتكرون المعرفة بأسماء الجن، وقصصاً محكية لم يسبق أن دوّنها أحد عن "الكرامات" التي تتفنن المخيلة الشعبية في ابتكارها. وفقاً للقصص التي رواها مايرز، يعمل الجن خدماً لدى الأولياء ويتم توجيههم عبر الشخص المكلّف بالعناية بضريح "الولي" ويسمّى "المنصِب"، وكان يمكن أيضاً أن تكون "المنصب" امرأة أحياناً وتسمى "جَوحَلة"، (في مناطق أخرى في اليمن يسمى "المنصوب" والمرأة "منصوبة"). هذه القصص بطبيعتها الشعبية لا تزال تتناقلها الأجيال حسب النسق التطوري للمخيلة الشعبية المتأثرة بتطور المجتمع وثقافته. وبالنظر إلى المستوى التعليمي والثقافي الذي صار عليه اليمنيون بعد ثورتي "أكتوبر وسبتمبر" مطلع ستينيات القرن العشرين، لم تعد هذه القصص غالباً محلّ إيمان راسخ من قبل الناس، باستثناء تلك التي تعززها أحداث غرائبية تستعصي على التفسير المنطقي.
حفلت الترجمة العربية لنص "فولكلور عدن الصغرى" بتصويبات إضافية تشير كالعادة، ليس إلى ضعف الثقافة الأوروبية بالمجتمعات العربية وحسب، بل أيضاً إلى ضعف ثقافة غالبية اليمنيين بتاريخهم البعيد.
تُرجّح المصادر التاريخية الاستيطان البشري في عدن إلى العصر النحاسي على أقل تقدير. وخلال العصور التالية فرضت المدينة نفسها، بموقعها الاستراتيجي، عاصمة تجارية للدول التي قامت في اليمن، وصولاً إلى استعمارها من قبل بريطانيا.
مما يلفت النظر في هذه الدراسة اعتقاد الأهالي آنذاك بوجود "جنّي" على قمة جبل شمسان قادر على اصطياد السمك عبر شبكة ضخمة يرميها إلى البحر ثم يسحبها إليه. عندما سأل مايرز أحد الضباط البريطانيين عن ذلك أخبره أن هناك مذبح قديم في قمة الجبل. غير أن اللافت أكثر كان اعتقاد الأهالي بوجود فصيل من الجنّ يتَّسمون بالبشاعة والأذرع الطويلة في منطقة "رأس عمران"، وهي شبه جزيرة بركانية غرب عدن صارت ميناءً بعد الاستقلال. تفيد القصة الميثولوجية بأن أفراد هذا الفصيل يأخذون أي إنسان يذهب إلى هناك بمفرده ما لم يكن من آكلي لحم الخنزير، في إشارة إلى البريطانيين! إلى الآن، لا أحد يعرف تحديداً إلى أي مدى استغل موظفو وجنود الإمبراطورية هذا الاعتقاد لتعزيز وجودهم الطويل، خاصة إذا ما أخذنا بالاعتبار أن مايرز أنجز دراسته بعد مضيّ مئة وخمس سنوات من احتلال عدن.
نظرية أمومية وشيطنة الآلهة القديمة
مثلما توجد نساء يمارسن عمل "المنصِب"، كانت توجد أيضاً جنّيات، مثل تلك المسماة "المَعجِز"، ويصفها مايرز حسب إفادات "الجوحلة" الخاصة بها، بأنها "من مجموعة شياطين ينتمون إلى الله". في تعليقه على الدراسة، قال عطبوش (1) إن "مايرز حاول أن يلفت النظر إلى أهمية تقريره بتكرار ربطه بنظرية المجتمع الأمومي"، لكن الباحث الشاب ليس متأكداً بعد إذا ما كانت هذه النظرية موضع خلاف بين المدارس أم أنها كانت إحدى "تقليعات القرن الماضي" وتخلّت عنها المناهج الأكاديمية. أما الأكيد بالنسبة لعطبوش، فهو ما احتوته الدراسة من "تفاصيل يمكن ربطها بممارسات وثنية عالمية اشتركت فيها شعوب الشرق القديمة ومنها اليمن القديم، مثل تقديم قرابين البخور"، وهي ممارسات قال إن المؤرخ الروماني الشهير، بليني الأكبر (...-79 ميلادية)، ذكرها في دراسته عن "شَبْوَة"، عاصمة مملكة حضرموت في اليمن القديم.
في الواقع لم يعد الغموض يكتنف المعتقدات الدينية لليمن القديم كما كان الحال إلى ثمانينيات القرن العشرين. ومع أن التاريخ المادي واللامادي لليمن القديم لم يحظ بالدراسة الكافية حتى اليوم، أتاحت الأبحاث والدراسات الآثارية المنجزة خلال الخمسين سنة الماضية الكثير من التفاصيل حول التنوع الديني في الممالك الخمس القديمة. في ذلك الزمن تعاقبت على حكم عدن أكثر من مملكة، لكن أقدمها وأكثرها تأثيراً كانت مملكة "أَوْسان" التي قضى عليها تحالف سبأ حضرموت وقتبان في القرن الثامن قبل الميلاد. لا يبدو أن أوليفر مايرز كان يعرف شيئاً عن حضارة اليمن القديم، وكغيره من المثقفين الأوروبيين كان يُرجع أصل بعض الألفاظ التي لا يفهمها من إفادات السكان إلى اللغة "الحِمْيَرية"، علماً أن "حِمْيَر" كانت آخر الممالك اليمنية القديمة التي سعت إلى توحيد الممالك الخمس (115 ق.م-525م).
يحرص مسؤولو بريطانيا الجدد على الظهور بفخر أمام الكاميرا على رصيف الميناء، متمسّكين باللقب الذي أورثتهم إياه الإمبراطورية الاستعمارية: "صاحبة القلم" في الملف اليمني. ربما لا يزال هناك ما يمنعهم من احتلال المدينة مرة أخرى، لكنهم بلا شكّ، مستعدون لذلك بوسائل معاصرة.
بعد ستّ وخمسين سنة من الاستقلال، تقوم عدن اليوم بدور العاصمة المؤقتة للحكومة المعترف بها دولياً، بينما يعاني مجتمعها الكبير من الآثار المدمِّرة للحرب وانقطاع الخدمات الأساسية، ومن تدهور مريع للاقتصاد الوطني والأسري.
وفي حين يؤكد عطبوش ملاحظته لضعف اللغة العربية وقلة الاطلاع على تاريخ اليمن لدى مايرز، يقول إن بعض القصص التي أوردها الأخير، مثل قصة "المعجز"، يمكن تسميتها "أساطير تأسيس"، بمعنى أنها "تؤسس لأسطورة أصل المجتمع الصغير الذي يتداولها". ويضيف أن بعض هذه القصص ألهمت أستاذه الألماني "فيرنر داوم" لكتابة "مقالات أخرى" عن أساطير مشابهة، وكان هذا الأستاذ هو من لفت انتباه الباحث الشاب إلى تقرير مايرز. خلاصة قصة الجنّية "المعجز" أن رجلاً ذهب للصيد في عدن الصغرى - الجزء الغربي من مدينة عدن - وعند عودته لبيع أسماكه شاهد جنّيتين بأثداء تتدلى على كتفيهما، فتمكّن من الإمساك بإحداهما وعاد بها منزله. أطعمها السكر والتمر واللحم ثم ربطها على شجرة "سُمُر" فصارت مزاراً، وبعد زمن قام أربعة رجال بقطع الشجرة، لكن الجنية قتلتهم، وكان ذلك كافياً لدفع الأهالي لإعادة بناء ضريح لها من الخشب ووضع حجر مستطيل بداخله.
"المُسَفِّلة": بريد المقابر في اليمن
17-08-2023
الصواعق الرعدية في اليمن: حرب مع كائنات لا مرئية
25-07-2023
في معظم المواضع التي كان المجتمع في عدن يقدّسها حتى منتصف القرن العشرين، تحضر الحجارة وأعواد الخشب بوصفها مكونات أساسية للمزارات. لعل في ذلك بقايا ديانة غاربة كانت القرابين فيها تتضمن اللوحات والتماثيل الحجرية. وينطبق الأمر نفسه على القرابين من الهدايا العينية الأخرى، كالبخور والطعام والشراب والملابس، وهي قرابين لا تزال موجودة إلى اليوم في طقوس التقرّب إلى الأولياء في اليمن ضمن الطريقة الصوفية. أما الجن المقدّسين في تقرير مايرز، فيقول عطبوش إن "عددهم الكبير حتى لكأنهم مجمع آلهة- بانثيون"، وهو ما يدل على أنهم "بقايا آلهة يمنية قديمة". وهو يتبنى في هذا الاستنتاج ما كتبه المؤرخ الأمريكي المهتم بتاريخ الشرق الأدنى القديم والإسلامي، مايكل ج. موروني، عن "ظاهرة تحويل الآلهة السابقة إلى شياطين": "لقد كان الميل للحط من آلهة الدين القديم إلى مرتبة الشياطين ظاهراً بالفعل في تعاويذ نيبور... كانت الأصنام والعشتارات تُعامل كشياطين يجب طردها".
تحولات مجتمع عدن
تُرجّح المصادر التاريخية الاستيطان البشري في عدن إلى العصر النحاسي على أقل تقدير. وخلال العصور التالية فرضت المدينة نفسها، بموقعها الاستراتيجي، عاصمة تجارية للدول التي قامت في اليمن، وصولاً إلى استعمارها من قبل بريطانيا. وبينما احتفظت المدينة باسمها وخصائصها الاقتصادية طيلة تلك العصور، مرّ مجتمعها بتحولات فرضتها سياسات الدول التي سيطرت عليها. هي أكثر المدن اليمنية تأثراً بالهجرات الخارجية بفعل موقعها على طريق التجارة البحرية، وتعد فترة الاستعمار البريطاني أكثر الفترات التي شهد فيها مجتمع المدينة تطوراً ديموغرافياً مسنوداً بسلطة الإمبراطورية. لكن هذا التطور لم يمتد إلى المناطق المحيطة بالميناء والبندر، حيث كان الزحف العمراني اللاحق للاستقلال لم يقض بعد على المزارع التي تتخللها المستنقعات والغابات، بما فيها من تنوع نباتي وحيواني شديد الثراء. كما أن رحيل المستعمر في 30 تشرين الثاني/ نوفمبر 1967، دفع بالكثير من السكان الذين استوطنوا المدينة أثناء الاستعمار إلى مغادرتها، ففقدت بذلك جزءاً من تنوعها كمدينة كونية متعددة الأعراق. أما من بقوا فيها فقد صهرتهم في نسيجها الاجتماعي المتّصف بالتسامح والتواضع، والنزوع الدائم نحو التحضّر.
بعد ستّ وخمسين سنة من الاستقلال، تقوم عدن اليوم بدور العاصمة المؤقتة للحكومة المعترف بها دولياً، بينما يعاني مجتمعها الكبير من الآثار المدمِّرة للحرب وانقطاع الخدمات الأساسية، ومن تدهور مريع للاقتصاد الوطني والأسري. وبالتوازي مع ذلك، يحرص مسؤولو بريطانيا الجدد على الظهور بفخر أمام الكاميرا على رصيف الميناء، متمسّكين باللقب الذي أورثتهم إياه الإمبراطورية الاستعمارية: "صاحبة القلم" في الملف اليمني. ربما لا يزال هناك ما يمنعهم من احتلال المدينة مرة أخرى، لكنهم بلا شكّ، مستعدون لذلك بوسائل معاصرة.
1- في مقابلة مع الكاتب