التنابز بالألقاب: السياسة في أحطّ مراحلها باليمن

ما لم تكن الثورة تتحوّط له، في دوامة الصراع تلك، أنّ السلالية الهاشمية كانت تعيد تشكيل صفوفها من خلال الحوثيين الذين كانوا جزءاً لا يتجزأ من مسيرة إسقاط النظام، ولذا استغلوا الهشاشة التي اعترت المرحلة الانتقالية لإنشاب أظفارهم
2016-11-07

ريان الشيباني

كاتب وفنان تشكيلي من اليمن


شارك
سيروان باران - العراق

بعد حرب ما عُرف بحصار السبعين يوماً بين العام 1967 والعام 1968، انتهت كل فرص الحكم بالسلالة بإقصاء أسرة حميد الدين، بينما نشأت عصبويات جديدة شكلت هوية الجمهورية اليمنية الأولى.
هيمن القادة العسكريون المنتصرون في فك الحصار عن صنعاء على غيرهم من العائلات والأسر التي استحوذت على السلطة. ومع نهاية السبعينيات انتقل الحكم إلى شبكة معقدة من المصالح القبلية والعسكرية، احتواها حزب المؤتمر الشعبي، الحاكم، بعد السماح الشكلي للتعددية الحزبية بالظهور.

سلالية "الزلط" الحاكمة

يُطلق اليمنيون على العملة النقدية "الزلط". وهي تسمية تحويرية للعملة اليهودية التي كانت سائدة في تاريخ ما: الزلوتي. وتهكّماً، يدعو فقراء اليمن، التجار ومالكي رؤوس الأموال، بأصحاب الزلط. نظام الرئيس السابق علي عبد الله صالح (1979-2012) كان قد وجد في هؤلاء ضالته لبناء تحالفات قوية، هي القوام الكامل لسلطة استمرت 33 سنة.
وهكذا اضمحلّ قليلاً دور السلالة الهاشمية السياسي، والتي كانت حتى العام 1962 تحتكر نظام الحكم في البلد منذ ما يقارب 900 عام. ساهم في هذا التطور عدم انتماء صالح لعائلة هاشمية، وكان قدومه إلى السلطة بسبب من نفوذه داخل الجيش، وبدعم من عمقه القبلي. المؤرخ والشاعر الكبير عبد الله البردوني، الذي ظل يُعرف مدى حياته بالمتمرد والمنشق، قال إنّ ميزة صالح الوحيدة هي كونه أتى من وسط فلاحي. ومع أنّ كثيرين شكّكوا في صحة مديح البردوني لصالح، معتقدين أن كتاب "اليمني الجمهوري" تعرّض للتحريف، إلّا أن صالح فرّط، هو الآخر، في الميزة الوحيدة لنظام حكمه.
ابتعدت أجندة صالح للحكم عن الطبقات الشعبية، وأحاطت به مجموعة قليلة ممن يرون أنّهم متميّزون، ظلوا يمثلون الهيئة التشريعية والتنفيذية، ويديرون القرار ويستفردون بامتيازات وجودهم في القرار.

الأحمر، لقب توسّل السلطة

حظي نظام صالح برعاية الشيخ القبلي النافذ، رئيس مجلس النواب السابق عبد الله بن حسين الأحمر. وهو ينتمي إلى وسط قبلي مشيخي، وكان قد استثمر مسألة التضحية التي قدّمها والده وأخوه في صراعهم مع أسرة حميد الدين (العائلة المالكة آنذاك)، إذ قتلا وحبس عبد الله وكان يافعاً، ليعتبر السلطة استثماره الحصريّ والسهل، ولذا كوّن ثروة اعتبرت الأكبر بين العائلات التجارية التسع الّتي حكمت البلاد. وإلى جانب ذلك ظل الأحمر محتفظاً بصلاحيات وجوده كسياسي وقبلي ورجل أعمال حتى آخر لحظة من حياته.
وإلى وقت قريب، ظنّ الجميع أنّ الرجلين، صالح، وعبد الله الأحمر تربطهما صلة قرابة، وينحدران من قرية واحدة. لكنّ صالح أتى من منطقة سنحان شرق صنعاء، فيما ينتمي الشيخ الأحمر إلى منطقة ظليمة حبور بمحافظة عمران. لكن كان هناك تواطؤ بينهما لإظهار صلة قرابة، لإخفاء ما بدا أنّه نقيصة شابت أهلية تسلّم صالح للسلطة، بعد أن أوحت إليه النخبة القبلية الحاكمة، بأنّ السلالية القائمة على نظام المشيخة والمال هي الامتياز الوحيد للسيطرة والنفوذ.

الشيخ عبد الله بن حسين الأحمر

في الانتخابات الرئاسية الأخيرة لصالح 2006، خشي النظام من أن يؤدي تدهور علاقته بحليفه القبلي لخسارة الانتخابات، بعد حديث الشيخ الأحمر عن أنّ البلد دخلت نفقاً مظلماً بسبب السياسات القائمة، إلى جانب تصريحات لحميد الأحمر نجل الشيخ عبد الله الأحمر مناهضة لانتخاب صالح. ولذا لجأ إلى حيلة لإعادة ترميم هذه العلاقة. عمد صالح إلى إضافة لقب "الأحمر" إلى آخر اسمه على لوحات الدعاية الانتخابية. في العرف القبلي يأخذ الأمر منحىً شخصياً إذاً، ونصرة المستجير شيء لا يمكن الاستهانة به في نظام الحوكمة القبلية. ومع أنّه لا يمكن إنكار أن صالح تذرع باستخدامه لاسم قرية "الأحمر" كلقب له، إلّا أن التورية هنا جعلت دلالته مختلفة كليةً.
وصلت الرسالة بشكلها الصحيح. كان الشيخ الأحمر قد غادر البلاد في رحلة علاجية إلى السعودية. ومع أنّه صمت حتى قبل انتهاء الدّعاية الانتخابية بيوم، ثم أعلن أن مرشحه للرئاسة هو صالح، معللاً ذلك بالقول "جِنّي تعرفه ولا إنسيّ ما تعرفوش". ومن بين كثيرين خذلهم هذا التصريح، كان حزب الإصلاح الذي يرأسه الأحمر. وكان الحزب قد أقام مهرجاناً كبيراً مناهضاً لصالح في معقل الشيخ الأحمر، وأمل أن يتم استثمار صمت الرجل لترجيح كفة مرشح المعارضة. وفي النهاية أعطى اللقب أكله، وفاز صالح.

عفاش: خبيئة النيل من صالح

توفّي الشيخ الأحمر بعد انتخابات العام 2006 مباشرة، ويعزو الكثيرون لحكمته إبقاء مستوى الصراع داخل السلطة التي كان جزءاً منها، عند الحد الآمن. وفي العام 2011 قامت الثورة الشبابية، فانفرط العقد. انضمّ أنجال الشيخ الأحمر الأثرياء وحليفهم العسكري إلى "ساحة التغيير"، معتقدين أنّهم بذلك يحافظون على مواقعهم في السلطة المقبلة. صالح، والذي كان قد تلقّى من الشيخ الأحمر وصيّة أخيرة بأن يعتبر أنجاله بمثابة أولاده، لم يصمد أمام أول هجماتهم للنّيل منه.
أشاع المنضمون الجدد للثورة اسماً جديداً لصالح: "عفّاش"، وهو اللقب العائلي الخبيء للرئيس آنذاك، واعتبروه مثْلبة حان الوقت لمعرفتها. أدخل الثوّار الغاضبون اللفظة الغريبة إلى هتافاتهم، مستغلين ما تحدثه من إيقاع صوتي ووشوشة: لا أحمد ولا عفّاش، عاش الشعب اليمني عاش.

علي عبدالله صالح

كان المغزى واضحاً. أراد التحالف الثوري القول إنّ صالح لم يكن من سلالة مشيخية، وقد يحيل اللقب إلى كون الرجل آتياً من عائلة فقيرة، إلى جانب ما يعنيه اللقب في القاموس اللغوي العربي ("مَن لا خير فيهم")، مما يعني - من وجهة نظرهم - أنّه غير مؤهل ليكون رئيس جمهورية. وقليلون هم الذين قرأوا هذا التطور الخطير في مسيرة الثورة، وحاولوا تصويبه، بينما انخرط الجميع في الحفلة، بدافع من آلة إعلامية منفلتة وبخطاب واحدي وتخويني. صالح من جانبه، حاول في مقابلات صحافية أن يصحح "خطأ" انتمائه لعائلة فلاحية فقيرة، بقوله: عفّاش كان شيخاً!
وما لم تكن الثورة تتحوّط له، في دوامة الصراع تلك، أنّ السلالية الهاشمية كانت تعيد تشكيل صفوفها من خلال الحوثيين الذين كانوا جزءاً لا يتجزأ من مسيرة إسقاط النظام، ولذا استغلوا الهشاشة التي اعترت المرحلة الانتقالية لإنشاب أظفارهم.

"الدنبوع" نصيب سلطة ما بعد الثورة

بعد أن سلّم صالح السلطة لنائبه "عبد ربّه منصور هادي" في بداية العام 2012، وضعت السلطة السابقة لقب عائلة الرئيس الجديد ("الدنبوع")، واسم قريته ("الوضيع") على الرفّ. وبعد ثلاث سنوات، احتاجت الثورة المضادة المتشكّلة من سلطة صالح والحوثيين للقب للاستدلال على أن الرجل غير مؤهل للحكم، فاستخدموا اسمَي "الدنبوع" و "الوضيع" للحطّ من قيمته.. في الوقت الذي لجأت عائلات شمالية كثيرة لإعادة ألقابها الهاشمية، وربّما التّفاخر بها - بعد أن خبّأتها لما يقارب نصف قرن - طمعاً في التعيينات الجديدة في مفاصل الدولة التي اعتمدتها سلطة الأمر الواقع بصنعاء

عبد ربه منصور هادي

مقالات من اليمن

تحوُّلات العاصمة في اليمن

يُعدّ الإعلان الرئاسي عن نقل العاصمة الى "عدن"، في معناه القانوني، إجراءً رمزيّاً، لأن نقل العاصمة يقتضي إجراء تعديلات في الدستور اليمني، الذي لا يزال ينص على أن مدينة "صنعاء"...

للكاتب نفسه