"عار" المرض النفسي عوارٌ للمجتمع

منذ بضع سنوات، إثر فقد عزيز عليّ، سقطتُ في نوبة اكتئاب حادة بعثرتْ كياني وشتّتت وجودي، فشرد ذهني وقتها ليتساءل عمّا لم أفكر به من قبل. ومن عتمة السواد بعيني وتغلغله في نفسي، لم أبصرْ أي جواب. كانت أكثر محاولات انتشالي - من هول حزني ومعاناتي - "عنيفة" ترنو بغلظة لانتزاع إرادة المقاومة بداخلي، عنوةً واغتصاباً.
2016-11-04

بسمة فؤاد

باحثة من مصر


شارك
رفيق مجذوب - لبنان

منذ بضع سنوات، إثر فقد عزيز عليّ، سقطتُ في نوبة اكتئاب حادة بعثرتْ كياني وشتّتت وجودي، فشرد ذهني وقتها ليتساءل عمّا لم أفكر به من قبل. ومن عتمة السواد بعيني وتغلغله في نفسي، لم أبصرْ أي جواب. كانت أكثر محاولات انتشالي - من هول حزني ومعاناتي - "عنيفة" ترنو بغلظة لانتزاع إرادة المقاومة بداخلي، عنوةً واغتصاباً. شعرتُ حينها بكم العنف والرفض الذي يستبطنه المجتمع تجاه أي اضطراب نفسي حتى وإن كان موضوعياً وله ما "يبرّره" (ما لا يعني إدانة سواه!). رأيت كيف نعيد تأويل وتوظيف الحكم والأمثال والنصوص الدينية في كل موقف لنستمد منها السند النفسي والطبطبة الروحية. هكذا ببساطة تغالب التناقض نردّد: "النار لا تصيب المؤمن"، وإنْ حدث "فالمؤمن مُصاب"! وتعرّف منظمة الصحة العالمية WHO الصحة النفسية "بأنها ليست مجرد انعدام الاضطرابات النفسية، وإنما هي حالة من العافية يستطيع فيها كل فرد إدراك إمكاناته الخاصة والتكيّف مع حالات التوتّر العادية والعمل بشكل منتِج ومفيد والإسهام في مجتمعه المحلّي". ربما تبعث النظرة الأولى لهذا التعريف على الشعور بأننا جميعاً مرضى. يُفصِّل الأمر د. أحمد قدري، متخصص "علم نفس الإبداع" (جامعة كيوتو – اليابان)، بأن "تمام الصحة النفسية غاية صعبة المنال، ما لا يعني بالقطع أنّ كلنا مرضى، فلا يُعدُّ مريضاً نفسياً إلا ذاك الذي يفقد ــ أو تضعُف لديه ــ القدرة على التكيّف مع ضغوط الحياة بما يصعِّبها لدرجة غير محتمَلة".

"عار" المريض النفسي!

لحدّ بعيد، نخاف المرض ربما لأنه يزيد ضعفَنا أضعافاً، وإذ يفرض المرض "العضوي" نفسه علينا فيجبرنا على الاعتراف به وبحث سبل علاجه، نواجه المرض "النفسي" بكلّ طاقة الخوف المكنونة بداخلنا والتي تترجم لقوة رافضة ومناهِضة له، بل ومتنصلة من وجوده. ومع ذلك، لا يتوانى المرض النفسي ولا يتوارى عن فرض تأثيره حتى يصل به الأمر أحياناً لإزهاق الأرواح. بحسب منظمة الصحة العالمية "ينتحر حوالي 900 ألف شخص على مستوى العالم سنوياً، أكثر من نصف الحالات تقع في الفئات العمرية بين 15 و44 سنة، وتُسجَل الاضطرابات النفسية كأحد أبرز أسباب الانتحار وأكثرها قابلية للمعالجة"، فيما يحرمنا الجهل، بإمكانية الشفاء من بعض الأمراض النفسية، من طلب العلاج. يُعضد الجهل وصمة العار التي ترافق المرض النفسي. فما زال المريض النفسي ــ في منظور قطاعات اجتماعية واسعة ــ هو ذاك "المجنون" ضعيف القدرات الذي تعتزله الناس وتخافه. تُعلّق د. إيناس دويدار، وهي طبيبة مقيمة نفسية وعصبية (مستشفى المعمورة النفسية والمعهد العالي للصحّة العامة في جامعة الإسكندرية): "إن الجهل يمثّل حجر عثرة عتيدا في طريق الصحة النفسية، إذ كثيراً ما تصنّف السلوكيات السالبة للمريض النفسي على إنها "قلة أدب"، لذلك تُواجَه من قبل أسرته ومقربيه بالسعى الدؤوب للردع العنيف والاستنكار المتعالي. كذلك كثيراً ما يُستهلك المريض في وصفات الدجّالين التي تلخّص شكوى المريض على إنها محض "مسّ شيطاني". يُضيف د. أحمد قدري: "انّ الوعي النفسي يمثّل خطوة فارقة في مجابهة الأمراض النفسية، بل إن حتى بعض الأمراض العضوية قد يزيد الوعي الصحي بها من فرص تجنّبها (...)؛ إن البيئة التي نعيش بها والممتلئة عن آخرها بالضغوط الاقتصادية والاجتماعية والشخصية، تمثل مرتعاً خصباً لنمو العلل النفسية، ولا بديل عن الوعي النفسي ليجد كل فرد في محيطه من يعينه على التجاوز، فلا تتحول كل مشكلة عارضة بالتراكم لمرض نفسي يتطلب المشورة الطبية".

المستشفيات النفسية في "أرقام"

بحسب الوارد في "الدليل المجمع للمستشفيات التابعة للأمانة العامة للصحة النفسية وعلاج الإدمان، 2015"، يوجد في مصر حوالي 18 مستشفى للأمراض النفسية العقلية والعصبية، بسعة تتجاوز 6 آلاف سرير. وتتوزع المستشفيات على معظم المحافظات، حيث ثلاثة بالقاهرة الكبرى واثنان في كل من الإسكندرية والقليوبية والغربية، وتتوزع البقية على بعض المحافظات الأخرى مثل بورسعيد والشرقية وبني سويف، ذلك بخلاف بعض المراكز العلاجية والعيادات الخاصة. يبدو عدد الأطباء المختصين بالأمراض النفسية مضاهياً لبعض التخصصات الطبية الأخرى، إذ يوجد حوالي 210 استشاريين، 264 أخصائيا ومساعدَ أخصائي، وحوالي 287 طبيبا مقيما، بحسب إحصاءات الجهاز المركزي للتعبئة والإحصاء في "النشرة السنوية لإحصاءات الخدمات الصحية لعام 2014". وكما أشارت دويدار، قد يعاني المريض النفسي مثل كل المرضى بمصر من عدم توافر أماكن للاحتجاز بالمستشفيات، نظراً للنقص الموجود بعدد الأسرة وعدم كفايتها.

سبل الاستطباب النفسي

تتماهى الحدود الفاصلة في الوعي الشعبي العام بين عيادات الأطباء النفسيين ومراكز الاستشارات النفسية والسلوكية ومراكز التنمية البشرية. فمتى يذهب السائل/ الشاكي لكلٍ منها؟ يُجيب د. قدري: "يفضَّل أن تُقصد مراكز الاستشارات النفسية لطلب مشورة في المسائل الحياتية الفنية، مثل مشكلات الزواج والطلاق وصدمات الفقد والوفاة وما شابه ذلك، بينما يُقصد الطبيب النفسي وبشكل حصري، إن كان السائل يشكو مشاعر سالبة ومزمنة وغير موضوعية وغير مرتبطة بحدث آني، مثل حالات الاكتئاب والقلق والفصام وغيرها، فيما لا يُقبَل بتاتاً إدخال التنمية البشرية كحلقة متقاطعة مع الطب النفسي وعلم النفس إجمالاً، إذ يتركز عمل التنمية البشرية على تحفيز إرادة روّادها وإلهامهم برسائل حماسية رنانة، وهذا دور إيجابي ولكنه لا يمثل علاجاً لمريض". أكدت دويدار على ما ذهب إليه قدري مضيفة: "يجب أن تعمل كل تلك المصادر بشكل متكامل، على ألا يتصدى لعلاج المرضى النفسيين سوى المختص بعلم النفس Psychologist أو الطبيب النفسي Psychiatrist ، وفي ذلك لا يَكتب الدواء سوى الطبيب، بينما قد تُوظف التنمية البشرية في إرساء المبادئ العامة التي تساعد على إكساب وتنمية المهارات الحياتية التي قد تمنع الإصابة من بعض الاضطرابات النفسية".

توعية و "لكن"

مؤخراً ظهرت بعض المعالجات الدرامية التي تتناول مسائل نفسية معقدة، كما انتشر استخدام وسائل التواصل الاجتماعي كمنبر لبعض المختصين النفسيين وغيرهم، فمثلت فرصة للتوعية النفسية من ناحية ولتسويق بعض "الهواة" لأنفسهم من ناحية أخرى. تكاثرت الصفحات الفايسبوكية (مثل "نصائح نفسية"، "كبسولات نفسية"، "أسرار نفسية"، "حياتنا النفسية"، "عيش حياتك بنفس".. وغيرها الكثير). صار يقتحمنا بصفة متواترة مشارَكات تتضمن توعية بالسلوكيات "الصحية" في أوقات الشدة والرخاء، كما امتلأ فايسبوك بنصائح لاختيار شريك الحياة، ربما أقربها حملة استخدمت هاشتاغ #متتجوزيش، وتضمّنت "سَتّة" بالشروط التي يجب ألا تتخلى عنها الفتاة عند اختيار شريك حياتها. وقد لاقت الحملة استجابة قوية بين الفتيات، أوجدت لها انتشاراً كبيراً. بهذا الخصوص تقول دويدار: إن الدراما تمثل بالفعل سلاحاً هاماً وخطيراً في التوعية النفسية، ورغم المغالطات العلمية التي قد تتضمنها الأعمال الفنية، إلا أنه يمكن التغاضي عنها إذا نظرنا لقوة نفاذ وتأثير الرسائل المتضَمنة في الأعمال الدرامية عالية المشاهدة بين الناس"، فيما يحذر قدري من تلقي التوعية النفسية من غير المختصين ويؤكد "أن تصدير قوالب جامدة للأنماط السلوكية المقبولة والمرفوضة عبر فايسبوك أو غيره، قد يؤدي إلى نبذ الأنماط السلوكية التي تغاير القالب المرسوم، مما قد يشغل الافراد بإصدار أحكام جاهزة على الناس والاستعلاء عليهم، وهي مشكلة اجتماعية في غاية الخطورة، لذلك فإن الأصوب أن تتمّ التوعية النفسية في المدرسة من قبل اختصاصي نفسي، وعبر المختصين من خلال القنوات الإعلامية المختلفة".

مستقبل الطب النفسي

أعربت دويدار عن تفاؤلها بما يخصّ مستقبل الطب النفسي في مصر، خصوصاً مع بدء انتشار بعض المناهج العلاجية الأكثر فعالية والتي تعتمد على الجلسات النفسية والعلاج الجمعي، كما تُعطي أولوية للتأهيل النفسي للأطباء أنفسهم قبل تصديهم لعلاج المرضى، فيما أكدت على خصوصية الطبيب النفسي مقارنة بأقرانه من الأطباء، فبينما لا يُعطل عمله على نحو بالغ نقص الأدوات وقلة الإمكانات التي قد تعوق الجراح مثلاً، إلا أن ذلك يوقع بالعبء الأكبر علي الطبيب النفسي ذاته، إذْ يمثل هو بنفسه وبشخصه بؤرة عمله وعماد نجاحه.

مقالات من مصر

العاصمة المصرية في مفترق طرق..

رباب عزام 2024-11-21

على الرغم من الأهمية الاقتصادية والثقافية والاجتماعية، بالنسبة إلى المواطنين، للمنشآت والمباني المقامة حالياً على أراضي "طرح النهر"، خاصة في العاصمة القاهرة، إذ يشمل أغلبها كثيراً من الأندية الاجتماعية التابعة...

للكاتب نفسه