حدبته صنعتها ويلات بلده ومدينته التي حملها على ظهره سنين حتى تقوّس، وصارت الأحلام تنزلق من الرأس فوقه وتسقط على الأرض مهشّمة. واجه قبح الحدب بجمال تَشابهه مع المنارة التي تحملها مدينته كهوية تعريف، تلك المنارة الشاهقة المثقلة بقصص الموصل منذ أكثر من ثمانية قرون، والتي صارت الرمز الأول للمدينة. كان الأحدب الشاب يفتح شباك غرفته كل يوم ليناجي المنارة الشاخصة على بعد بضع مئات من الأمتار عن منزله، فيكلّمها عن خيباته وأمنياته ومخاوفه الكثيرة من أشياء كثيرة، ويكتفي بصمتها الملتحف بهيبة التاريخ والدلالات. أخبرها ذات يوم كم أنه يتوق للقاء إزميرالدا فاتنة في أحد شوارع "الدوّاسة" أو "باب الطوب" (حيّان من أحياء الموصل)، وليس في مخيلة هوغو فقط، لكن صوت بنادق قريب أجاب نيابة عن منارته الصديقة.
منذ بضع سنين، وهو يشاهد الموصل تتحول إلى مسرح للكره والدماء، تتصارع فيه العقائد والأيديولوجيات والطموحات المريضة للمهووسين بالنفوذ والمال، لتسلخ الأمان عن برّه وتعبّئ النفوس في قوارير اليأس والخوف. لم يدخر جهداً في إدارة ظهره الناتئ لأخبار القتل والخطف والتفجيرات التي تعصف بمدينته، ولكن دون جدوى. فالبارود يخرج من الأفواه في الأسواق والحافلات، ومن صفحات وكالات الأنباء وشاشات الفضائيات. ظل يجدّف في هذا البحر الدموي بالكتب والموسيقى ومفاتن حسناوات السينما وكؤوس الليل المهدئة، بينما العالم خارج غرفته مصرّ على إعلاء صرح الجماجم المثقوبة.. إلى أن ظهر خليفة موديل 2014 يقطع الرؤوس في الشوارع العامة على مرأى الكبار والصغار، ويجلد شاربي الخمر وممارسي الجنس ومستنشقي دخان التبوغ، ويرمي المثليين من مبان شاهقة، ويغلّف النساء بسواد جنونه.
بلغ السيل أمتاراً فوق الزبى، لم يعدْ من الحكمة المكوث في هذه الأرض ومعايشة دراما الخبل السادي. تلمّس طريقاً للهرب نحو أي بقعة لم تُصب بوباء الحدود الشرعية وهيجان العالقين في قعر الماضي، فوجد نفسه في أراضي الكرد المجاورة. في خيمة النزوح، بقي الأحدب يحاول فهم ما جرى ويجري، يتذكر أن الكثيرين من أبناء الموصل متذمّرون من تعامل الحكومة وقواتها معهم، ومنهم من هو متذمر أساساً من فكرة "حكم الشيعة". وكان بعض الضباط والجنود الشيعة يدركون طبيعة المشاعر الكامنة تجاههم، لذا كانوا يتحينون الفرص لإيذاء الأهالي وإذلالهم. إنها معادلة معقدة وعصية على الحل منذ مئات السنين. ولكن هل هذا كل شيء؟ وما نسبة الموصليين الذين يمكن اتهامهم بتأييد البغدادي؟ ومن المقصّر في الدفاع عن المدينة؟ القوات المسلّحة أم الأهالي؟ وهل هنالك حقاً مؤامرة كونية لإسقاط الموصل؟ الأسئلة ترتطم ببعضها في رأسه من دون بزوغ إجابة ناصعة، لا من دماغه المشوّش ولا من بين الإجابات الاتهامية التي ظلّ أهل السلطة المقسّمة يرشقون بها بعضهم البعض لإضاعة دماء العراقيين بين قبائل مكرهم.
راح يتلقى متألماً طيلة أشهر تلت نزوحه، صور المجازر التي ارتكبها جنود الخلافة المستهترة داخل الموصل وعلى أطرافها، حيث كان مسيحيون وأيزيديون وشبك يلونون لوحة نينوى بانتشارهم الهادئ في السهول الخضر المسوّرة بتلال تصطف في الأفق البعيد كآلهة الجمال والخمر والفنون. وتذكر متألماً أكثر صور بعض أهالي الموصل ممن رحبوا وفرحوا باستيلاء "الثوار" على المدينة وطرد الجيش "الرافضي" منها. هذا التنابذ القديم القابل للتجدد في أية لحظة هو الذي أبعده عن منارته ورفد مستنقعات الدماء في العراق بكميات إضافية، وأطال الكهف المظلم الذي تسير فيه مواكب المساكين منذ زمن بعيد. لطالما اشتهت سفنه الإبحار نحو مرافئ الانتماء الإنساني الخالي من شوائب الحقد الطائفي، لكن رياح مصالح المشؤومين جرت دائماً نحو لجج التأجيج، حاملة معها جموع المستجيبين لنزعة الشر.
مرت الأيام والأسابيع والشهور، وقضية الموصل تتسع رقعتها على الطاولات الإقليمية والدولية، وصار الجميع يبحث عن موطئ قدم فيها، والأحدب يتابع بوعيه السياسي المتواضع شكل الخطوة التالية، لكن المعطيات تشتبك عنده وترتمي في النهاية أمام أبواب مغلقة. بدأ الأتراك يجلبون قوات عسكرية إلى منطقة قريبة من الموصل، بينما الكرد يقولون إنهم لن ينسحبوا من المناطق التي حرروها داخل حدود محافظة نينوى، وإيران تريد مشاركة الحشد الشعبي وأميركا ترفض ذلك، والسعودية خائفة من الانتهاكات، والبغدادي وسط كل هذه المعمعة يقاتل في جبهات عدة.
هذه الأيام تدور المعارك على مشارف الموصل بهدف تحريرها. انطلقت تلك المعارك، والمشكلات الأساسية ما زالت قائمة. انطلقت المعارك والخراب ما زال يخيّم على المدن التي اغتسلت من وحوش الخليفة، الذين ما زالوا بدورهم يخدشون وجوه بعض المناطق الواقعة بين بغداد ونينوى، ما زالوا يسيطرون على الحويجة في كركوك، وراوة وعانة والقائم في الأنبار، بل أنهم تسللوا ـ ومعارك الموصل قائمة ـ إلى وسط كركوك وحاولوا إسقاطها، وكذلك فعلوا في قضاء الرُطبة بالأنبار. عشاق الخليفة موجودون في داخل الموصل وخارجها، موجودون في بغداد وفي بعض بقع الجنوب ربما، وهم مستعدون دائماً لفقدان حياتهم من أجل إمتاع خليفتهم بمشاهد القتل، ولن يتحوّلوا بعد تحرير الموصل إلى كائنات أليفة. كل تلك الهواجس راودت الأحدب، لكنه على الرغم من ذلك تحمس مع المتحمسين، كتب في هاشتاغات الفيسبوك وتويتر، ومجّد كثيراً المقاتلين الذين تسيل دماؤهم يومياً على الجبهات.
زوال كوابيس العراق أمنية الأحدب الثمينة الآن. يحلم بانقراض معسكرات تلقين الشعوذة بكلّ أشكالها، وبناء دولة لا يصدح فيها هراء الخارجين من أقبية التخلف ومدارس النصب والاحتيال، وتدريب النفوس على مجانبة التشبث الأعمى بقيم الصحراء ومصالحة سمات التحضر. يظنّ أن أموراً كهذه من شأنها بناء شكله ومضمونه من جديد، من شأنها إعادته مستقيم الظهر إلى موصله الحدباء.