عاش أحمد رزة كما أخبرته مبادؤه، ومات قابضاً على جمر تلك المبادئ، فلم تأخذه تقلبات السياسة الوعرة إلى مسالكها الموحشة واحتفظ بجوار قلبه بكل ما عاش منادياً به.
لم يكن أحمد قد تجاوز الـ 22 من عمره طالباً في السنة النهائية من كلية الاقتصاد والعلوم السياسية في جامعة القاهرة، عندما وجد نفسه حيال واحد من أقوى مشاهد التمرد في تاريخ مصر الحديث ومن أكثرها تأثيراً. كانت مصر لا زالت تترنح من هول الهزيمة الثقيلة التي مُنيت بها في الخامس من حزيران / يونية من العام 1967. كان الرئيس السادات قد وقف أمام البرلمان في عام 1971 ليعلن أن ذلك العام هو عام الحسم ليمر العام بلا حسم ويعلن الرئيس بعدها أن المشهد قد أصبح ضبابياً فتعذرت الرؤية وبات الحل مرهوناً بتغير الظروف الدولية معللاً ذلك بالحرب الباكستانية - الهندية! فكتب مراسل الغارديان حينها "لا ريب أن بعض أطفاله لم يصدّق خطابه. ربما يهدّئ ذلك الخطاب أو يربك أو يقنع بعض السذج، ولكن بالنسبة لشباب البلد الغيور والعناصر السياسية، فقد كان الامر مستفزاً لهم".
انفجر غضب الجميع وفي الطليعة منهم طلاب الجامعة، وفي القلب من هؤلاء كان أحمد عبد الله رزة الذي كان يترأس حينها ما عُرف بـ "اللجنة الوطنية للطلبة".
كان يدرك أن حركة الطلاب بمواجهة السلطة خط موصول وممتد، بداية من الزعيم مصطفى كامل الذي حرص على وضع الطلبة في قلب المشهد السياسي في مواجهة الاحتلال البريطاني ليظهر دورهم فاعلاً ومؤثراً عندما انفجرت ثورة عام 1919، ويستمر بعدها بلا توقف لتبلغ الحركة ذروة نضجها وتأثيرها خلال ثلاثينيات وأربعينيات القرن الماضي عندما اجتمعت التيارات السياسية المختلفة وراء مطلب واحد ومشترك وصلب تجلى في مسيرة يوم "9 فبراير"عام 1946 الداعية إلى إلغاء معاهدة عام 1936 مع بريطانيا، وخرجت من جامعة القاهرة أضخم مظاهرة عرفتها مصر حينذاك. وعندما بلغت المظاهرة منتصف كوبري عباس قامت قوات البوليس بمحاصرتها من الجانبين ثم قامت بفتح الكوبري فسقط بعض الطلاب في النيل قبل أن تشتبك مع بقية الطلبة بالرصاص الحي، فسقط أكثر من 200 طالب بين قتيل وغريق وجريح.
وقد دعت "اللجنة الوطنية للعمال والطلبة" إلى اعتبار21 شباط/ فبراير "يوم الجلاء"، وهو اليوم الذي فتحت فيه القوات البريطانية نيران أسلحتها لتقتل 23 متظاهراً وتصيب أكثر من 120 منهم.
الهزيمة
بعد هزيمة حزيران/ يونيو 1967، تفاقم غضب الطلاب حتى بلغ ذروته عند إعلان الأحكام العسكرية التي صدرت ضد قادة سلاح الطيران في عام 1968 والذين اتهموا بالإهمال والتراخي أثناء الحرب، باعتبارها أحكاماً هزيلة. فاندلعت المظاهرات التي شارك فيها الآلاف من الطلاب في محافظتي القاهرة والإسكندرية والتي وافقت في صدفة مدهشة يوم الـ 21 من شباط /فبراير ذاك. في ذلك اليوم تظاهر أكثر من 100 ألف طالب وعامل غضباً واحتجاجاً، وعُدت تلك المظاهرات الأكبر خلال حكم الرئيس جمال عبد الناصر، قتل خلالها اثنان من الطلبة وأصيب 77 مواطناً و146 من رجال الشرطة علاوة على اعتقال 653 شخص.
رضوى وأروى: البدايات والمآلات
08-06-2023
في واقع الأمر، لم تكن تلك المظاهرات احتجاجاً على الأحكام التي صدرت ضد قادة الطيران فحسب، بل "كانت تلخيصاً للسخط الجارف الذي اجتاح البلاد عقب الهزيمة. لقد عبرت عما هو أكثر من السخط، عن عدم الرضا عن أسلوبٍ كامل في الحكم تُعد الهزيمة العسكرية مظهراً واحداً من مظاهره السلبية" ويقول، "إن الانتفاضة حققت أثراً سياسياً رائعاً في مصر والجامعات، فعلى المستوى القومي اضطر عبد الناصر لأن يصدر أمراً بإعادة محاكمة الضباط المتهمين بالإهمال وتشكيل وزارة جديدة أغلبها من المدنيين، وذلك لأول مرة في عهده، والأمر الأكثر دلالة هو أنها جعلته يسعى لتجديد شرعية نظامه ووقف التدخل المباشر في النشاط السياسي للطلاب" (1).
حينها غنى الشيخ إمام من أشعار أحمد فؤاد نجم قصيدة مستعادة إلى حد كبير، عبَرت هي الأخرى السنوات منذ 1919:
رجعوا التلامذة ياعم حمزة
يا مصر إنتِ اللي بـــــــــاقية
وإنتِ.. قطف الأمـــــــــاني
لا كورة نفعت.. ولا أونطــة
ولا المناقشة وجدل بيزنطة
ولا الصحافة والصحفجيـــة
شاغلين شبابنا عن القضية.
كان المشهد مشتعِلاً في جامعة القاهرة أثناء اعتصام الطلاب احتجاجاً على تسويف السادات في اتخاذ قرار الحرب. وكانت جامعة عين شمس والإسكندرية مشاركتين في الاحتجاج، فضاق السادات ذرعاً بالطلاب وقرر إرسال وفد يمثله للتفاوض معهم من أجل فض اعتصامهم ومحاولة تحييدهم وإخراجهم من المشهد برمته.
بادر أحمد رزة عميدَ الكلية الدكتور رفعت المحجوب، ببيت شعرٍ كان قد ردده الشاعر أحمد محرّم عام 1925، محذراً فيه اللورد جورج لويد، المعتمد البريطاني الجديد، من سوء عاقبة السياسات الاستعمارية. عمد أحمد وزملاؤه، وعلى رأسهم سهام صبرى إلى فضح تهافت الأساتذة وتعرية عجزهم أمام الطلبة مما أدى إلى إجهاض مهمتهم حيث أعلنوا في النهاية أنهم مجرد مندوبين للرئيس لا يملكون ردوداً حاضرة على أسئلة الطلاب. دعا أحمد إلى مؤتمر طلابي موسع تحوّل إلى اعتصام مفتوح. وخلال المؤتمر، وجه رسالة إلى رئيس الجمهورية يدعوه فيها إلى الحضور للرد على أسئلة الطلبة بعد أن فشلت لجنة الرئيس في تلك المهمة. حضر ذلك المؤتمر أكثر من 20 ألف طالب وطالبة، وأعلن فيه عن تشكيل ما عرف حينها بـ "اللجنة الوطنية العليا للطلبة" والتي اعتبرت أنها الكيان الوحيد الذي يمثل لسان حال الطلاب بديلاً للاتحادات الطلابية التي كانت خاضعة لسيطرة الأمن.
في واقع الأمر، لم تكن تلك المظاهرات احتجاجاً على الأحكام التي صدرت ضد قادة الطيران فحسب، بل "كانت تلخيصاً للسخط الجارف الذي اجتاح البلاد عقب الهزيمة. لقد عبّرت عما هو أكثر من السخط، عن عدم الرضا عن أسلوبٍ كامل في الحكم تُعد الهزيمة العسكرية مظهراً واحداً من مظاهره السلبية".
لم يحضر السادات إلى المؤتمر ليرد على أسئلة الطلبة وتخوفاتهم، بل سخر من الأمر برمته. وأرسل جحافله من جنود الأمن المركزي إلى جامعة القاهرة لفض الاعتصام بالقوة، وقبض على أكثر من 1500 طالب وطالبة في مواجهات دامية. وجرى الأمر نفسه مع طلاب جامعة عين شمس وصدر قرار بإغلاق الجامعتين وإعلان بدء إجازة نصف العام.
وبطبيعة الحال كان أحمد عبد الله رزة هو المتهم رقم واحد من بين جملة المعتقلين وواجهته النيابة مع رفاقه بحزمة التهم التي صارت نمطاً متكرراً ومستمراً منذ ذلك الحين وحتى الآن، وهي التحريض على قلب نظام الحكم وزعزعة الاستقرار، والحض على كراهية النظام. سيق بعدها مع زملائه إلى السجن، وهناك كان أحمد فؤاد نجم حاضراً أيضاً.
" أنا شفت شباب الجامعة الزين. أحمد، وبهاء، والكردي، وزين.. حارمنهم حتى الشوف بالعين. وف عز الضهر مغميين. عيطى يا بهية على القوانين". أحمد عبد الله رزة ثم أحمد بهاء الدين شعبان فشوقي الكردي ثم الشاعر زين العابدين فؤاد. وقد شكّل هؤلاء طليعة القادة في الحركة الطلابية في تلك الفترة.
استمر اعتقال قادة الطلبة شهراً كاملاً، ولكن ضغوط الإفراج عنهم أجبرت النظام في النهاية على إطلاق سراحهم والعودة إلى الجامعة من جديد.
في خريف العام التالي خاض السادات الحرب ضد إسرائيل، وحققت مصر انتصارها. المؤكد أن انتفاضة الطلبة في كانون الثاني / يناير من العام 1972 كانت واحدة من الأسباب التي ضغطت على السادات.
الآن وبعد مرور خمسين عاماً على ملحمة الحركة الطلابية، نجحت السلطات المتعاقبة في تعقيم الجامعات من كافة الأنشطة السياسية، وتغوّل دور الأمن والحرس الجامعي حتى بات متحكِّماً في كل شيء داخل الجامعة. لم ينس السادات بعدها ذلك الطالب النحيل، فحال دون تعيينه في الجامعة على الرغم من استحقاقه لذلك. وعندما علم بتقدمه للعمل بمركز الأهرام للدراسات السياسية والإستراتيجية أصدر تعليماته بمنع ذلك أيضاً!
كان على أحمد ساعتها أن ينقل معركته إلى أرض جديدة، وهي رحلة الحصول على درجة الدكتوراه ضمن "برنامج الخريجين" في الأمم المتحدة، فسافر إلى انجلترا، طالباً عصامياً كادحاً لم يكفّ لحظة واحدة عن تحصيل العلم أو تعلم مزيد من اللغات أو التعرف على العالم من خلال مبعوثيه ضمن برنامج الخريجين من كل الدول. يخبرنا الدكتور نبيل مرقس زميله ورفيقه في الجامعة :
"كان أحمد عبد الله رزة في ذروة ألقه وفي سفح انكساراته... كياناً إنسانياً مخلصاً ورائعاً. سعدت بتقاطع مسيرتينا على أرض الغربة في بلاد الإنجليز، عبر طرقات وداخل قاعات جامعة كامبريدج البريطانية العريقة. تشاركنا حضور محاضرات أنتونى غيدنز، وتصاعدت أصواتنا في مناقشاتٍ طويلة مع زملائنا وزميلاتنا من تايلاند وباكستان والبرازيل والمكسيك وبيرو وإريتريا وسريلانكا، الذين حملوا هموم عالمنا الثالث فوق ظهورهم وداخل قلوبهم"
وحرص أحمد على إهداء رسالة الدكتوراه إلى أهله وجيرانه الذين نشأ معهم في حيّه العتيق، فكتب "إلى أهالي مصر القديمة، الأميين الذين علموني، والفقراء الذين أغنوا ضميري". (2)
كان المشهد مشتعِلاً في جامعة القاهرة أثناء اعتصام الطلاب. وكانت جامعة عين شمس والإسكندرية مشاركتين في الاحتجاج، فضاق السادات ذرعاً بالطلاب، فأرسل جنود الأمن المركزي إلى جامعة القاهرة لفض الاعتصام بالقوة، وقبض على أكثر من 1500 طالب وطالبة في مواجهات دامية. وجرى الأمر نفسه مع طلاب جامعة عين شمس، وصدر قرار بإغلاق الجامعتين وإعلان بدء إجازة نصف العام.
حركة الطلاب بمواجهة السلطة خط موصول وممتد، بداية من الزعيم مصطفى كامل الذي حرص على وضع الطلبة في قلب المشهد السياسي في مواجهة الاحتلال البريطاني ليظهَر دورهم فاعلاً ومؤثراً عندما انفجرت ثورة عام 1919، ويستمر بعدها بلا توقف لتبلغ الحركة ذروة نضجها وتأثيرها خلال ثلاثينيات وأربعينيات القرن الماضي...
عاد أحمد إلى مصر في عام 1984 واختار الانحياز الكامل إلى طبقته الاجتماعية في منطقته، عين الصيرة بالقاهرة القديمة، وقرر أن يضع كل ما استطاع تعلمه في خدمة تلك الطبقة بغير إبطاء. وذلك بشكل تطوعي بالكامل. آمن دوماً بأن انتماء المثقف يجب أن يكون إلى منابته الأولى التي يعرفها وتعرفه فطالب المثقفين دوماً: "عودوا لمجتمعاتكم المحلية، للقرى والعشوائيات التي تهتفون بحقوق من فيها، امسحوا عنهم الأمية الأبجدية، أعطوهم من وقتكم وجهدكم، لقنوهم الأبجدية الاجتماعية والقانونية، علّموهم حقوقهم، ابذروا فيهم الوعي، تنوير فتثوير للفئات الأكثر نقمة، مرحلتان عبرهما سيأتي حقاً التغيير، وسيكون ثابتاً حتماً لأنه سينبع معبّراً عن الجماهير وبأيديهم"، فأسس "مركز الجيل للدراسات الشبابية والاجتماعية" بمنطقة عين الصيرة، الذي تفرع عنه "مشروع الرعاية الجزئية للطفولة العاملة" وقد بذل فيه أحمد جهداً استثنائياً من أجل رعاية عشرات الأطفال العاملين في ورش ومدابغ وفواخير ومصانع مصر القديمة.
اليسار في مصر: حدوده وآفاقه في عالم 2011
04-01-2019
هل مات اليسار بينما ما زال لبه يُحرِّك الناس؟
17-12-2018
كان يحاول أن يستدرك ما فات هؤلاء الأطفال الذين اضطروا تحت ضغط الحاجة إلى ابتسار مشوارهم التعليمي والالتحاق بتلك الأعمال الشاقة. كما دأب بصفته عضواً في مركز شباب عين الصيرة على اصطحاب الكثير من شباب الحي في جولات مستمرة لتنظيف شوارعه وتشجيره وتجميله، علاوة على إنشاء فصول للتقوية الدراسية لمساعدة غير القادرين من الطلاب وللتأكيد على النشاط الثقافي الذي تمثل في تنمية وتعليم المهارات الموسيقية والفنية المختلفة لشباب وأطفال الحي. ورسّخ أحمد منذ البداية أنه، فيما يقوم بمعركة الوعي مع هؤلاء الشباب والأطفال فإنه يعمل "معهم" ولا يعمل "بدلاً منهم".
وعلى الرغم من الجفاء والتوجس الذي ظلت الدولة المصرية تعامل به أحمد طوال الوقت، إلا أنه وبمواهبه العلمية والاجتماعية فقط، استطاع أن يتوسد ذروة المجد الأكاديمي فحضر كمؤسِّس في مركز البحوث السياسية بجامعة القاهرة وأستاذ زائر بجامعات الهند وفرنسا وإيطاليا واليابان، وأستاذ محاضِر في المعهد الدبلوماسي المصري بوازرة الخارجية، وباحث متميز في مركز الأهرام للدراسات السياسية والإستراتيجية، علاوة على عضويته في المنظمة المصرية لحقوق الإنسان ورئاسته للجنة بحوث الشباب بالجمعية الدولية لعلم الاجتماع.
الآن وبعد مرور خمسين عاماً على ملحمة الحركة الطلابية تلك، نجحت السلطات المتعاقبة في تعقيم الجامعات من كافة الأنشطة السياسية، وتَغوّل دور الأمن والحرس الجامعي حتى بات متحكِّماً في كل شيء داخل الجامعة.
كما صدرت له العديد من الدراسات والأبحاث والمقالات والكتب الهامة منها: "الطلبة والسياسة في مصر" و"أطفال برتبة عمال" و"الجيش والديمقراطية وتاريخ مصر بين المنهج العلمي والصراع الحزبي"، كما قاتل بشراسة ضد مشروع التوريث الذي أراده وسعى إليه حسني مبارك وصرح مراراً بأنه "لا وطنية بغير ديمقراطية، وأننا لا يجب أن نطلب من الناس أن يضحوا في سبيل الوطن ويحرروه من أعدائه ثم يسلموه لقمة سائغة للقمع المحلي".
في 6 جزيران/ يونيو من العام 2006 توفي أحمد رزة، وفي جنازته سار تلامذته من الأطفال العمال جنباً إلى جنب مع النخبة من مثقفي الوطن وأكاديمييه.
1- الطلبة والسياسة في مصر، أحمد عبد الله رزة. نشر المركز القومي للترجمة، مصر، الطبعة الاولى 2007 ، ترجمة اكرام يوسف، ص 286.
2- نبيل مرقس جريدة الشروق، 29 حزيران/ يونيو 2021