"الشعب يريد إسقاط النظام.. ارحل"، هتافات رددتها مجموعات غاضبة من المصريين في محافظة مرسى مطروح شمال القاهرة، بعد أن أُجبروا على حضور احتفالية لتفويض الرئيس الحالي، عبد الفتاح السيسي، لفترة رئاسية ثالثة، ما أسفر عن اشتباكات ,تحطيم لافتات دعائية تحمل صورة السيسي نفسه. المشهد يعيد إلى الأذهان بعض مظاهر الغضب الشعبي التي سبقت ثورة كانون الثاني/ يناير من العام 2011، والتي خرجت لإسقاط نظام الرئيس الأسبق محمد حسني مبارك.
ووفق مراقبين للمشهد الداخلي، فإن السلطة المصرية تبدو في حال من "الجنون والجنوح"، أدت إلى اتخاذها إجراءات قمعية مستمرة ومتزايدة عقب إعلان الهيئة الوطنية للانتخابات عن الجدول الزمني للانتخابات الرئاسية للعام 2024. بدأت المعركة عند إطلاق عمليات تحرير توكيلات من المواطنين لمرشحي الرئاسة المحتملين، إذ يُشترَط لقبول ملف المرشّح حصوله على تأييد 20 نائباً برلمانياً أو 25 ألف توكيل من المواطنين في 15 محافظة على الأقل. فما الذي يحدث في القاهرة؟
انتخابات مبكرة
أولى النقاط التي أثارت جدلاً وتساؤلات كانت الإعلان عن تقديم موعد الانتخابات الرئاسية. كان مقرراً أن يفتح باب الترشح للانتخابات في كانون الأول/ديسمبر المقبل، على أن تجري العملية الانتخابية مطلع العام الجديد، ويتم الإعلان عن المرشح الفائز في نيسان/ أبريل 2024. تعجيل موعد الانتخابات أثار القلق، حيث أعلنت الهيئة المسؤولة أنّ الانتخابات الرئاسية ستجري من 10 إلى 12 كانون الأول/ديسمبر من العام الجاري، أي قبل قرابة أربعة أشهر من انتهاء الولاية الحالية للرئيس السيسي.
التصميم على المشاركة في العملية الانتخابية يأتي على الرغم من اليقين بأن الرئيس الحالي لن يرحل بالانتخابات، وأن فرص فوز منافس للرئيس في صناديق الاقتراع غير متوافرة حالياً. لكن المشاركة موقف أولاً، وهي تكشف أيضاً آليات اشتغال السلطة الحالية واتجاهاتها.
فُسّر (1) التعجيل بالأزمة الاقتصادية الخانقة التي تمر بها البلاد، حيث من المتوقع أن تتخذ السلطات حزمة من القرارات (أبرزها تعويم الجنيه المصري كليةً)، قد تؤدي إلى زيادة مستويات الفقر ومعه الغضب الشعبي، وربما الغضب في صفوف الجيش أيضاً بعد تطبيق اشتراطات سابقة للبنك الدولي، تتمثل في ضرورة خصخصة بعض الشركات المملوكة للجيش، كانت السلطات قد تراجعت عن طرحها خلال الأشهر القليلة الماضية. وهي إجراءاتٌ أصبحت شرطاً رئيسياً للموافقة على إقراض الحكومة المصرية من جديد، والحصول على التمويل الذي قد يساعدها على سداد بعض الديون ووقف تدهور الوضع الاقتصادي.
معركة التوكيلات
فوجئ المصريون منذ ما يزيد عن شهرٍ مضى، بحملات ممنهجة من قوات شرطية ومجموعات من أحزاب مؤيدة للسلطة أبرزها "مستقبل وطن"، و"حماة الوطن"، إضافة إلى مجموعات كبيرة من الخارجين عن القانون ("البلطجية")، تهدف إلى إجبارهم على تسليم بطاقات الهوية الخاصة بهم، بطرق متعددة. تذكر شهادات متعددة لمواطنين بأنّ مدراءهم في بعض الهيئات الحكومية أجبروا مرؤوسيهم على تسليم بطاقاتهم الشخصية، تحت طائلة الفصل من العمل أو عقوباتٍ أخرى. أما في أوساط العمل الحر، فقامت مجموعات شرطية بجمع البطاقات من أصحاب المقاهي وعاملي جمع القمامة والباعة الجائلين، وسائقي سيارات الأجرة وأصحاب الكراجات. ووفق شهادات بعضهم، أُلزِمَ كل واحدٍ من هؤلاء بجمع 10 بطاقات تحت طائلة الملاحقة الأمنية وتعطيل عمله. وقد وصل الأمر في بعض مناطق العاصمة القاهرة إلى توقيف مواطنين في الطرقات أو من منازلهم لتحقيق ذلك. ويبدو أن غالبية سكان المناطق الشعبية والعشوائية في قلب العاصمة ومحافظات مصر قد جُمعت هوياتهم الشخصية بالطريقة ذاتها.
وبالعودة إلى تحرير التوكيلات في مقار التوثيق الحكومي للأفراد الذين طرحوا أنفسهم كمرشحين محتملين للرئاسة المصرية، تحشد مجموعات من الأحزاب المؤيدة للسلطة آلاف المواطنين يومياً أمام تلك المقار، بعد أن استولت على هوياتهم الشخصية عبر حافلات نقل خاص، في مشهد يراد منه أن يَظهر وكأن تلك الآلاف من المواطنين الذين يحملون علم مصر وصورة الرئيس الحالي قد حضروا بملء إرادتهم للمشاركة في "العرس الانتخابي". وقد رصد رجال أعمال مقربون من السلطة مئات الملايين من الجنيهات لتنفيذ عمليات نقل المواطنين ومنحهم مبالغ مالية زهيدة تتراوح ما بين 100- 300 جنيه مصري أو بعض السلع الغذائية، لإجبارهم على المشاركة.
أعلنت الهيئة المسؤولة أنّ الانتخابات الرئاسية ستجري من 10 إلى 12 كانون الأول/ديسمبر من العام الجاري، أي قبل قرابة أربعة أشهر من انتهاء الولاية الحالية للرئيس السيسي. فُسّر التعجيل بالأزمة الاقتصادية الخانقة التي تمر بها البلاد، حيث من المتوقع أن تتخذ السلطات حزمة من القرارات (أبرزها تعويم الجنيه المصري كليةً)، قد تؤدي إلى زيادة مستويات الفقر ومعه الغضب الشعبي.
قد ينفجر الغضب في صفوف الجيش أيضاً بعد تطبيق اشتراطات سابقة للبنك الدولي، تتمثل في ضرورة خصخصة بعض الشركات المملوكة للجيش، كانت السلطات قد تراجعت عن طرحها خلال الأشهر القليلة الماضية. وهي إجراءاتٌ أصبحت شرطاً رئيسياً للموافقة على إقراض الحكومة المصرية من جديد، والحصول على التمويل الذي قد يساعدها على سداد بعض الديون ووقف تدهور الوضع الاقتصادي.
بالمقابل، تعرض مؤيدو المرشح المحتمل أحمد الطنطاوي (برلماني سابق، ترأس "حزب الكرامة" المعارض)، لعدد من الانتهاكات وصلت إلى حد المنع والاعتقال الذي طال 82 عضواً من حملته الرئاسية. وكان عدد كبير من مؤيديه قد بثوا مقاطع مصورة أو منشورات على مواقع التواصل الاجتماعي، يوثقون فيها طرق منعهم من تحرير التوكيلات والتي لم تتوقف منذ اليوم الأول، ومنها تعنت موظفي مكاتب التوثيق وتقديمهم أعذاراً متنوعة، مثل تعطّل منظومة العمل الإلكترونية ("السيستم واقع") أو انقطاع الكهرباء أو ضرورة حجز دور وراء حشود كبيرة مصطنعة ومتعمَّدة. وقد تعرض كثير من المواطنين للاحتجاز في مقرات التوثيق، أو لتهديدات أمنية وملاحقات من مجموعات من الخارجين عن القانون ("البلطجية") الذين حضروا لتنظيم المشهد، وملاحقة المعارضين في الطرقات (2) وقد نفت الهيئة الوطنية للانتخابات كافة الانتهاكات الموثّقة، مؤكدةً سلامة العملية الانتخابية.
أثارت تلك الانتهاكات غضب أحزاب "الحركة المدنية" (وهو ائتلافٌ يضمّ 12 حزباً سياسياً معارضاً من خلفيات يسارية وناصرية وليبرالية)، فأعلنت في بيان لها عن نيتها عقد مؤتمر لكشف كافة الانتهاكات التي تم رصدها على مدار الأيام السابقة.
جنون العظمة
يبدو الرئيس السيسي في خطاباته الأخيرة أكثر انفعالاً، إذ راح يهدد المصريين بشكل واضح في حال انحيازهم لمرشحين آخرين. وهو يدفع بحشود ضخمة من المواطنين إلى الشارع بالأمر المباشر، لتبدو الصورة أمام المجتمع الدولي وكأنها تظاهرات تأييد شعبية مليونية، تخرج يومياً لتفويضه لفترة رئاسية ثالثة على الرغم من تدهور الأوضاع الاقتصادية. وحسب عبد الله شلبي أستاذ علم الاجتماع السياسي، تعيش مصر في ظل نظام سياسي "جملوكي"، يجمع ما بين الحكم الجمهوري والمملوكي، والحاكم وفق هذا النظام هو الملك الجمهوري الذي لا يترك الحكم إلا بموته، ويتحكم في مقدرات الشعب وثرواته وفق رؤيته الخاصة.
وربما يتضح ذلك في خطاب أخير على هامش مؤتمر امتدّ لعدة أيام في العاصمة الإدارية الجديدة، حين حذر السيسي المواطنين من عدم الانصياع لرغبته، قائلاً: "أنا كنت بكلم السادة أعضاء مجلس القضاء الأعلى الصبح وقلت لهم تخيلوا أنا ممكن أهد مصر بـ2 مليار جنيه، قلت لهم أديّ باكتة (مخدر البانجو) و20 جنيه وشريط ترامادول لـ100 ألف إنسان ظروفه صعبة، أنزّله يعمل حالة"، يقصد هنا حدوث اضطرابات وشغب في الشارع المصري. وهو ما أثار موجة غاضبة بين المواطنين الذين هتفوا من أمام عدة مقار للشهر العقاري بشعارات من ثورة العام 2011 وأبرزها "عيش، حرية، عدالة إجتماعية، كرامة إنسانية"، سرعان ما تصاعدت إلى مطالبات واضحة في بعض المناطق برحيل السيسي، خاصة بعد أن فوجئوا أمس باستغلال احتفالات ذكرى انتصارات حرب أكتوبر، لإظهار "تفويض ثان" وهمي. الأمر الذي حوّل تلك الاحتفالات إلى احتجاجات غاضبة وهتافات "الشعب يريد إسقاط النظام"،واعتقال ما يزيد عن 400 مواطن يوم الثلاثاء في الثالث من تشرين الأول/أكتوبر الجاري.
تعرض كثير من المواطنين للاحتجاز في مقرات التوثيق، أو لتهديدات أمنية وملاحقات من مجموعات من الخارجين عن القانون ("البلطجية") الذين حضروا لتنظيم المشهد، وملاحقة المعارضين في الطرقات. وقد نفت الهيئة الوطنية للانتخابات كافة الانتهاكات الموثّقة، مؤكدةً سلامة العملية الانتخابية.
"نخنوخ" ذاك أُخرج من حالة السبات العميق الذي كان عليها منذ إطلاق سراحه في العام 2018، لمواجهة ميليشيات "العرجاني" في سيناء والتي تدور حولها هي الأخرى تساؤلات حول أصل نشأتها ووظائفها، والتي ربما تمردت على السلطة وليّة نعمتها، فارتكبت هجوماً على مقر أمني في العريش بسيناء، في شهر آب/أغسطس الفائت.
ما قاله الرئيس المصري يأتي ضمن دفعة تصريحات أطلقها على هامش مؤتمر "حكاية وطن"، مشيراً إلى أنه على المصريين أن يتعرضوا لـ"الجوع والحرمان" حتى يتحقق الهدف من تلك المشروعات التي لا يعي المواطنون أهميتها.
علامات استفهام
بالتوازي مع بدء الاستعدادات للانتخابات الرئاسية المصرية، أُعلِنَ عن شراء شركة فالكون للخدمات الأمنية ونقل الأموال، من قبل صبري نخنوخ الداعم لنظام السيسي (وهو رجل أعمال مصري، سبق أن أدين بجرائم وصلت عقوبتها إلى السجن مدة 25 عاماً لكن أفرج عنه بموجب عفو رئاسي في العام 2018) (3). فهل "فلكون" ستتحول على يد "نخنوخ" إلى ما يشبه تشكيلات "فاغنر" في روسيا و"الجنجويد" في السودان؟ إذ من المعروف لجوء بعض الأنظمة أثناء الأزمات إلى تكوين ميليشيات مسلحة لاستخدامها في "الأعمال القذرة" التي لا يمكن دفع الجيش النظامي والشرطة إلى ارتكابها.
تصنف شركة "فالكون"، التي أشيع أنها إحدى الشركات التابعة لجهات سيادية مصرية (4)، كأكبر شركة للأمن والحراسة في البلاد، مصرح لأعضائها بحمل أسلحة وذخيرة. وكانت قد أَسست في العام 2014 قطاعاً يسمّى "قطاع الدعم والتدخل السريع" (!) مهمته التصدي لكافة أشكال "الانفلات الأمني وأعمال الشغب"، وهو ما قامت به بالفعل داخل بعض الجامعات وبوجه تظاهرات محدودة في العام 2014، عقب تولي السيسي الحكم، واعتبرت وقتها على تكامل مع دور الشرطة. فلماذا بيعت الشركة لنخنوخ على وجه الخصوص، ولماذا الآن تحديداً، وهل لذلك علاقة بتنظيم الانتخابات الرئاسية؟
طُرِحَت كذلك تساؤلات حول خطاب الرئيس السيسي الأخير، وتحذيره من خلق اضطرابات داخلية بواسطة عناصر إجرامية، والحريق الذي أصاب مديرية أمن الإسماعيلية (وهي إحدى مدن قناة السويس الثلاث) في اليوم التالي مباشرة. اشتعلت النيران بشكل مفاجئ في المركز الأمني الذي يعتبر الأكبر في البلاد، ما أدى لوقوع خسائر بشرية ومادية بالغة لم يعلن عنها.
هل شركة "فلكون" للخدمات الأمنية ونقل الأموال، التي بيعت لصبري نخنوخ، ستتحول إلى ما يشبه تشكيلات "فاغنر" في روسيا و"الجنجويد" في السودان؟ ولماذا بيعت لنخنوخ على وجه الخصوص، ولماذا الآن تحديداً، وهل لذلك علاقة بتنظيم الانتخابات الرئاسية؟ فمن المعروف لجوء بعض الأنظمة أثناء الأزمات إلى تكوين ميليشيات مسلحة لاستخدامها في "الأعمال القذرة" التي لا يمكن دفع الجيش النظامي والشرطة إلى ارتكابها.
"نخنوخ" ذاك أُخرج من حالة السبات العميق الذي كان عليها منذ إطلاق سراحه في العام 2018، لمواجهة ميليشيات "العرجاني" في سيناء والتي تدور حولها هي الأخرى تساؤلات حول أصل نشأتها ووظائفها، والتي ربما تمردت على السلطة وليّة نعمتها، فارتكبت هجوماً على مقر أمني في العريش بسيناء، في شهر آب/أغسطس الفائت.
الطنطاوي
وسط هتافات "عيش حرية عدالة اجتماعية" و"افتحوا لنا التوكيلات"، وقف المرشح الرئاسي المحتمل، أحمد الطنطاوي، أمام بعض مؤيديه قائلاً: "نحن نريد دولة قانون في مصر، ولا نريد الفوضى. من يُصر على مصادرة القانون وإهدار الدولة هو من يستدعي الفوضى في البلاد، نحن متمسكون بالأمل ولن نغادر مقار الشهر العقاري إلا بعد السماح بتحرير توكيلات". جاءت كلماته تلك بعد أن تصاعدت الشكاوى من المواطنين الذين "عُرْقلوا" - حسب وصفهم - عن تحرير توكيلات لمرشحي رئاسة محتملين، أبرزهم الطنطاوي.
وأما التصميم على المشاركة في العملية الانتخابية فيأتي على الرغم من اليقين بأن الرئيس الحالي لن يرحل بالانتخابات أو الصندوق، وأن فرص فوز منافس للرئيس في صناديق الاقتراع غير متوافرة. لكن المشاركة موقف أولاً وهي تكشف أيضاً آليات اشتغال السلطة الحالية واتجاهاتها.
1 - بحسب تقرير لوكالة Bloomberg الأمريكية
2- وفق مقابلات شخصية وهاتفية، تعرضت مشاركات لعمليات احتجاز، وعنف جسدي من قبل سيدات تم استئجارهن لترهيب مؤيدي المرشح الطنطاوي.
3- عُرف نخنوخ ب"وزير الداخلية الموازي" أو "رئيس جمهورية البلطجية" (الخارجين عن القانون)، وكان مسؤولا رئيسياً في ظل نظام مبارك عن عمليات توريد البلطجية والأسلحة لمواجهة المظاهرات وللسيطرة على مكاتب التصويت في الانتخابات وتنظيم عمليات تزوير النتائج.
4- تضم 7 شركات (لا تقل حصتها السوقية عن 62 في المئة وفقاً لتصريحات سابقة لمسؤول بالشركة في العام 2017)، ويبلغ حجم عملائها 1500 عميل من السفارات والبنوك والجامعات والشركات والأندية، مع 7 فروع في كافة أنحاء البلاد، وتبلغ قيمة أصولها 820 مليون جنيه. كما أنها مسؤولة عن "تأمين" 12 جامعة مصرية، أبرزها جامعتا عين شمس والقاهرة. وهي تتولى أعمال تفتيش ورقابة مطار شرم الشيخ ومطار القاهرة الدولي مبنى 2.