"برج مغيزل": قرية الصيادين التي تسكنها الأحزان

داخل كل بيت من بيوتها البسيطة المتهالكة حكاية لمفقودٍ أو ابنٍ غيّبته سجون الدول المجاورة بعد تخطيه الحدود في رحلة مغامرة نحو المجهول بحثاً عن الرزق، إذ يضطر الصيادون إلى تجاوز المياه الإقليمية المصرية، فالإنتاج السمكي لم يعد كما كان.
2023-09-27

إسلام ضيف

كاتب صحافي


شارك
6 من ضمن أكثر من 40 صياداً محبوسين في القضية 662 لسنة 2020

على ساحل البحر المتوسط تطل قرية "برج مغيزل" التابعة إدارياً لمركز مطوبس بمحافظة كفرالشيخ، والواقعة أقصى شمال غرب دلتا مصر عند التقاء أحد فرعي نهر النيل (فرع "رشيد") بالبحر المتوسط. القرية التي عانت لسنوات طويلة من غياب أبنائها، يعمل معظم أهلها في مهنة الصيد، مصدر الدخل الرئيسي لهم.

داخل كل بيت من بيوتها البسيطة المتهالكة حكاية لمفقودٍ أو ابنٍ غيّبته سجون الدول المجاورة بعد تخطيه الحدود في رحلة مغامرة نحو المجهول بحثاً عن الرزق، إذ يضطر الصيادون إلى تجاوز المياه الإقليمية المصرية، فالإنتاج السمكي لم يعد كما كان.

شهدت "برج مغيزل" العديد من رحلات الهجرة غير النظامية، وكانت دوماً محطة انطلاق رئيسية لهذه الرحلات المتجهة إلى أوروبا، والتي قد تنتهي بغرق المراكب في عرض البحر. كثيرون من الذين حاصرهم الفقر من أبناء القرية فقدوا حياتهم قبل الوصول. تلك المأساة خلّفت ارتفاعاً في نسبة السيدات الشابات الأرامل والأطفال الأيتام حتى بات يُطلق على برج مغيزل لقب "قرية الأحزان".

قضية منسية

القضية رقم 622 لعام 2020 حصر أمن دولة عليا، تضم نحو 40 صياداً من القرية نفسها ألقت السلطات القبض عليهم تباعاً على مراحل. بدأت القصة تحديداً في شهر آذار/ مارس 2020 حين ألقي القبض على مجموعة من الصيادين القادمين من ليبيا، كانوا قد قرروا العودة إلى مصر من خلال معبر السلّوم البري بسبب إغلاق الموانئ في فترة جائحة كورونا، بعد قضائهم رحلة صيد قانونية وصلت إلى الشواطئ الليبية.

وفي شهر حزيران/ يونيو من العام نفسه، ظهرت المجموعة في نيابة أمن الدولة العليا على ذمة القضية بتهم الانضمام إلى جماعة إرهابية، مع العلم بأغراضها، وتهريب أسلحة، ولم تواجههم النيابة بأي أحراز بحسب المحامية "ماهينور المصري" عضو فريق الدفاع عن الصيادين المحبوسين.

قُبِضَ على باقي المتهمين في القضية من أماكن متفرقة وفي توقيتات مختلفة، وكان ذلك من منازلهم بالقرية أو من المطارات. هناك ثلاثة أفراد من بين المحبوسين كانوا مقيمين في الخارج، الأول قادم من إيطاليا والثاني من أيرلندا والثالث من الأردن، ألقي القبض عليهم في المطار بمجرد عودتهم إلى مصر. أما العامل المشترك الوحيد بين جميع المتهمين في القضية فهو أنهم من قرية "برج مغيزل".

"علي شعلان" هو أحد المحبوسين احتياطياً على ذمة القضية، ألقت السلطات القبض عليه من مطار القاهرة خلال عودته من إيطاليا لزيارة أهله في 20 كانون الثاني / يناير 2021، وظل مختفياً حتى ظهوره في النيابة بتاريخ 7 شباط/ فبراير 2021. وجهت إليه النيابة التهم نفسها ومنها تهريب أسلحة إلى ليبيا، على الرغم من إقامة شعلان في إيطاليا منذ عام 2014 بعد أن هاجر إليها بشكل غير نظامي، وحصوله بعد ذلك على إقامة رسمية وعلى عمل يمارسه بشكل قانوني وذلك حتى عام 2021. كما ذكرت "المبادرة المصرية للحقوق الشخصية" في بيان لها أنّ الجهات المعنية لم تقم بعمل أي تحريات للتحقق من صحة هذه الاتهامات أو التأكد من صحة المستندات التي قدمها دفاع المتهم بعد مخاطبة السفارة الإيطالية، والتي تثبت إقامته وعمله في إيطاليا حتى تاريخ القبض عليه.

في شهر حزيران/ يونيو من العام 2020، ظهرت المجموعة في نيابة أمن الدولة العليا على ذمة القضية بتهم الانضمام إلى جماعة إرهابية، مع العلم بأغراضها، وتهريب أسلحة، ولم تواجههم النيابة بأي أحراز. لم يتم إخلاء سبيل أيّ منهم، منذ القبض عليهم وقد جُدِّدت مهلة حبسهم بشكلٍ دوريٍّ طيلة ثلاث سنوات، على الرغم من تجاوز الفترة القصوى للحبس الاحتياطي.

ثلاث سنوات والصيادون رهن الحبس الاحتياطي دون إحالتهم إلى المحاكمة، كما لم تُستكمل التحقيقات مع المتهمين لعدم وجود ما ستتم مواجهتهم به. لم يتم إخلاء سبيل أيّ منهم، منذ القبض عليهم عام 2020، وقد جُدِّدت مهلة حبسهم بشكلٍ دوريٍّ طيلة ثلاث سنوات، على الرغم من تجاوز الفترة القصوى للحبس الاحتياطي. وهو ما يعدّ مخالفة لنص المادة رقم 143 من قانون الإجراءات الجنائية التي تنص على أن فترة الحبس الاحتياطي يجب ألا تتجاوز سنتين كحد أقصى.

الأهالي يستغيثون

"إما الإفراج، أو الإحالة للمحاكمة"، هذا هو لسان حال أهالي صيادي "برج مغيزل" المحبوسين. في 21 أيار/ مايو 2023، تقدم أهالي 44 صياداً بشكوى إلى المجلس القومي لحقوق الإنسان لإعادة النظر في مصير ذويهم، مطالبين بالإفراج عنهم أو اتخاذ الإجراءات القانونية بإحالتهم إلى المحاكمة بعد ثلاث سنوات من الحبس الاحتياطي دون مواجهتهم بأدلة ملموسة.

وتتساءل "ماهينور المصري": "طالما أنّ القضية خطيرة وتتعلق بتهريب أسلحة، لماذا بقيت طوال هذه الفترة دون تحقيقات أو إحالة؟"، وكتبت عبر صفحتها عن زيارة الأهالي إلى مقر المجلس قائلة: "كل حد من الأهالي جاي بحكاية، في اللي ابنها وجوزها محبوسين، في اللي مستنية جوزها عشان ابنها يعمل قلب مفتوح، في اللي بنته بقيت 3 سنين وماشفهاش، في اللي اتصاب في عينه جوة السجن وعينه راحت ومش لاقي اهتمام، في الأب اللي عنده فوق الـ 60 سنة وماشي يورينا صور ابنه وهو بيصطاد".

عانت "برج مغيزل" على مدار عقود من تردي الخدمات والمرافق العامة فيها. يعيش أهل القرية في خطر دائم نتيجة محاصرة مياه الصرف الصحي للمنازل وتراكم النفايات في شوارعها. أعلن عن إدراج القرية ضمن المبادرة الرئاسية "حياة كريمة" وبدء تنفيذ مشروع الصرف الصحي. لكن هذا الحلم الذي طال انتظاره لسنوات تعرقله جهات التنفيذ بتوقفها المفاجئ عن العمل في المشروع دون أسباب معلومة.

تحت وطأة هذه الأزمة، كثرت الأعباء الملقاة على كاهل نساء أسر الصيادين، خصوصاً وأنه قد يكون للعائلة الواحدة أكثر من ابنٍ داخل السجون سواء كانوا إخوة أو أولاد عم.. كما اضطر أطفال بعض الصيادين إلى ترك التعليم والعمل، من أجل الإنفاق على البيت.

"معندناش حاجة نعيش منها" هكذا تتحدث والدة أحد المحبوسين "علاء فتح الله" (1)، التي تعيش هي وزوجته وأولاده في بيت واحد، وقد ضاقت الحال كثيراً بسبب عدم وجود مصدر للدخل، إذ كان "علاء" هو من ينفق على الأسرة. تقول زوجته بأنها تقدمت بالعديد من الشكاوى للإفراج عن زوجها، لكن لا أحد يستجيب لشكواها. علاوة على ذلك، ترهقها أيضاً تكاليف زيارات السجن.

الحال لا تختلف كثيراً مع أسرة "محمود عبد الفتاح"، الذي كان يخرج في رحلات صيد باحثاً عن قوت يومه. فهو المسؤول عن توفير متطلبات أسرته وينفق على أخته بعد وفاة زوجها، كما أصبح والده غير قادر على العمل بعد أن تقدم به العمر. تستنكر والدته حبسه على ذمة قضية سياسية، وهو لا يجيد القراءة والكتابة.

من سجن "طرة" إلى "بدر" و"العاشر من رمضان"، تنقّل المحبوسون بين عدة سجون، مما صعّب على الأهالي زيارة ذويهم لأنّ السجون الجديدة تقع في مناطق بعيدة جغرافياً عن القرية. يحصل هذا، فيما يعاني بعض السجناء من أوضاع صحية هشة داخل محبسهم دون توفير الرعاية اللازمة، ويتكبد الأهالي معاناة توفير المال من أجل الوصول إلى أماكن السجون وشراء مستلزمات الزيارة وسط ظروف اقتصادية طاحنة.

قرية معدومة الخدمات

عانت "برج مغيزل" على مدار عقود من تردي الخدمات والمرافق العامة فيها. يعيش أهل القرية في خطر دائم نتيجة محاصرة مياه الصرف الصحي للمنازل وتراكم النفايات في شوارعها.

جاء الإعلان عن إدراج القرية ضمن المبادرة الرئاسية "حياة كريمة" وعن وعود من المسؤولين ببدء تنفيذ مشروع الصرف الصحي، ليقابله الأهالي بالأمل والترحاب. لكن هذا الحلم الذي طال انتظاره لسنوات تعرقله جهات التنفيذ بتوقفها المفاجئ عن العمل في المشروع دون أسباب معلومة، بعد أن تركت المعدات ورحلت عن القرية أكثر من مرة بدون سابق إنذار، على الرغم من تصريحات محافظ كفر الشيخ المتكررة بأن الأولوية في مبادرة "حياة كريمة" هي لقرى مركز مطوبس نظراً لحاجتها إلى خدمات مُلحّة. فيما تتكرر مطالبات أهالي القرية بسرعة التحرك لإنهاء مشروع الصرف الصحي، محذرين من خطورة انتشار الأمراض والأوبئة.

حالة العزلة المفروضة على القرية تجعلها غير مرتبطة بباقي مراكز المحافظة، بل ترتبط بمدينة رشيد التي تعتبر قبلة الأهالي للحصول على الخدمات. ويكون الوصول إلى المدينة من خلال ركوب "المعديات" عن طريق فرع نهر النيل الفاصل بينها وبين القرية. ومع تدهور أوضاع الوحدة الصحية في القرية غير المُجهّزة لاستقبال حالات الطوارئ، فإنّ مستشفى رشيد العام هي الأقرب لتلقي الخدمات الصحية. ما تشهده قرية "برج مغيزل" من أوضاع، إضافة إلى عدم المبالاة في التعامل مع قضية الصيادين المحبوسين، تعود أسبابه إلى فقر هؤلاء الذين لا حول لهم ولا قوة.

 يدفعون الثمن فقط لأنهم "فقراء"، أو حسب وصف اللهجة العامية المصرية "غلابة". الاستمرار في قهر البسطاء يحدث في ظل عقد الدولة المصرية لجلسات "الحوار الوطني" بمشاركة القوى السياسية التي قبلت الدعوة، دون أن يتم النظر في مصير الصيادين أو غيره ممن يشكلون غالبية المحبوسين في قضايا سياسية بتهم الإرهاب، وهو ما يفضح حقيقة هذه الخطوة... ويبدو أن مثل هذا النوع من القضايا خارج حسابات الجميع. 

______________________

1- فيديو نشره موقع "درب": https://youtu.be/sUrp0Pa9KrM?si=hAFgRgLI13Xz

مقالات من مصر

ثمانون: من يقوى على ذلك؟

إليكم الدكتورة ليلى سويف، عالمة الرياضيات المصرية بالأصالة، البريطانية بالولادة، على صقيع رصيف وزارة الخارجية في لندن، تُعدُّ بالطباشير – ككل المساجين - أيام اضرابها.

للكاتب نفسه