العراق: مدنٌ لا تحيا ولا تموت..

يحتاج مراقب انقطع غائباً لسنوات عن هذا المكان، إلى منقذ مرجعي، أو إلى إلهام قد يُرضي تساؤله الملحّ إزاء ما يمكن أن يراه ويحسّه، إذا رجع ليعيش متنقلاً بين بغداد والمدن الوسطى والجنوبية. فهو يجد نفسه في مكان لم يسبق أن عرفه
2016-10-26

عبدالأمير الركابي

كاتب من العراق


شارك
من دفتر:
مدن العراق

يحتاج مراقب انقطع غائباً لسنوات عن هذا المكان، إلى منقذ مرجعي، أو إلى إلهام قد يُرضي تساؤله الملحّ إزاء ما يمكن أن يراه ويحسّه، إذا رجع ليعيش متنقلاً بين بغداد والمدن الوسطى والجنوبية. فهو يجد نفسه في مكان لم يسبق أن عرفه. يمكن إذاً للعودة إلى المدن "الضائعة" بين زمنَين ألا تتحقق من دون أن تكون "النوستالجيا" هي السبب. فليس من الغريب أن يُحبِط حال العراق الرهيب الحالي كلّ إصرار على بعث عالم اختفى من الوجود، محولاً إياه إلى مجرد خيال صعب كابوسي، ممزق، يتمرغ وسط واقع كارثيّ قد يتحول مع الوقت إلى ما يقرب من الجنون. وأياً يكن العائد، فلن يكون أمامه سوى أن يرضخ ليقين مفاده العجز، وسط ما بقي من خراب لا يوصف.

 لن تكون المشكلة متوقفة على الإقرار بأن ما يُرى في مثل هذه الحالة حقيقي. الشيء الوحيد الذي سيظل ناقصاً، هو اليقين بأنّ هذا الذي يقع نظرنا عليه قابل للاستيعاب من حيث الخلفيات والأسباب التي جعلته ممكناً، وهو السائد والحاضر أمامنا اليوم. عندها يحاول المراقب استعادة شريط من الأحداث، من حصارات وحروب، فلعلّه يجد تفسيراً. وفي الغالب، فلن تكون تجربة إعادة استيحاء المكان المستحيلة والصعبة أقل وطأة من الشعور بالتيه. وعلى فرض أن "المكان يصنعنا"، البيت الذي ننشأ فيه وبعده المدينة يصنعاننا كما يقال، فإن تذكر تلك الفرضية ستكون هنا مناسبة للشك في ما وراء القصد الفعلي لمقولة كهذه، بحيث نكتشف كونها شائعة بلا تدقيق. فالشيء الوحيد الذي يمكن التأكد منه إجمالاً، هو أننا نصنع المكان ويصنعنا، وأننا حين نطلب مكاناً اختفى، مدينة أو مدناً كانت وكنا فيها، وترعرعنا بين ضلوعها، فإنما نكون بصدد البحث "عنا"، عن ذواتنا التي تشكّلت هنا، ويفترض أنها شكلت المكان الزائل، مع قوّة حضور الزمن في الغياب والعودة.

إشكالية بغداد

هذه البغداد الهرمة، التي هي اليوم بلا قلب (مركز أو ركيزة)، المتناثرة، المقذوفة بعشوائية فوق مساحات شاسعة، كأنها معسكرات خيام ضخمة من الطابوق (الحجر الرملي المستخدم في البناء في العراق) لو أمكن أن تكون الخيام من مادّة غير القماش.. متجاورة ومتباعدة (قطر بغداد المدينة الدائرية 65 كم، وهي ثالثة مدينة من حيث المساحة في العالم، بعد مومباي الهندية ولندن) فتبدو كأنها تتراكب أو تتموج مضطربة، كتلاً بلا حواف، وسط التعب والتزاحم واللامستقَر، وجهها الخرب المنزوع من أي سياق منطقي ابتلع أيّ أمل باستدرار التغزّل، أو حتى الرضا المطمئنّ. لا جمال هنا، ولا حتى جمالها حين كانت خربة من متبقيات تاريخ ميت عام 1917، يوم كتب ادموند كاندلر، المرافق للحملة البريطانية: "على هؤلاء الذين ينكرون سحر هذه المدينة أن يقفوا على النهر من جهة الشمال وقت الغروب، ليشاهدوا الامتداد الرشيق لجبهة النهر، حيث تصطفّ المساجد والمنارات ذات الآجرّ الأزرق، لتمسك بخيوط أشعة الشمس المائلة". غير ذلك سيحتاج المرء بإلحاح إلى منقذ أو معين في الأدب "الروائي" ربما، لعلّه يستعيد تفسيراً قد يمهّد لبداية إعادة تعارف مع المكان المستجدّ، فلا يجد سوى شذرات موزّعة لدى "غائب طعمة فرمان"، أو لدى روائي كبير آخر هو "فؤاد التكرلي"، ليكتشف بالمناسبة كم هي عجولة وهاربة، متوتّرة مثل شخصياتها، ومقررٌ لها الزوال مثل ديكور مؤقت، بينما المطلوب هو منفذ أو بوابة تصل صوب معنى حاضر صار يتجاوز من جاء يريد التعايش معه.
 

  يُحبِط حال العراق الرهيب الحالي كلّ إصرار على بعث عالم اختفى من الوجود، محوّلاً إيّاه إلى مجرد خيال صعب، كابوسي، ممزق، يتمرّغ وسط واقع كارثي قد يتحوّل مع الوقت إلى ما يقرب من الجنون.

لن يتوفر بهذه المناسبة كمنقذ يتضاءل فوراً سوى القليل، من قبيل "بحث في جدلية العمارة"، كتاب "رفعت الجادرجي"، لتتكشف إطلاقية الماركسيين (في الأدب كما في الرؤية "المعمارية" النادرة) عن تأسيس بالأيديولوجيا والنقل، ينكر ما يعجز عن تفسيره. يقول الجادرجي بقطعية: "الموضع الطبيعي لبناية ما يقرره المطلب الاجتماعي"، وينسى، لا بل يتهرّب من الإجابة التي هي ما نريد معرفته أصلاً وقبل كل شيء: ما هو المطلب الاجتماعي في العراق من نهاية القرن التاسع عشر حتى 2003؟ ها هو البحث "المتخصّص" والأدب يفصحان عن شلل وعجز، يعوَّض عنه دائما بالاستعارة والاستبدال والتوهم، لينتهي إلى إفلاس مآله خراب يتجاوزنا ويحتوينا، فيخرجنا من المشهد.

كانت هنالك ـ على الأرجح ـ ركيزة توازن ظلّت تعلمنا سراً كيف نتآلف مع المكان، ونقبل تداخلات أشكال عمارته، وهو أمر لا يستطيع أحد الجزم بمصادره. فالأكيد أننا لم نصنعه. ربما كان مزيجاً من شعور عفوي غامض ألبس توهمات كرستها نوايا وأحلام مصدرها أننا كنا متأكدين أيامها أنّ كل شيء سائر إلى "أمام". وهذا في أغلب الظن هو أوّل مستلزمات تعايشنا في حينه مع المدن ومع أنفسنا والآخرين أشباهنا، أو غيرهم. وبما يخصّ بغداد، فإن وثوقيّة السير إلى أمام كانت تعني نسياناً بل "إعدام" أي بغداد عرفت في التاريخ، وبالأخصّ وجهاها كمدينة "لا تحيا ولا تموت"، بما أنها نشأت أصلاً على حافة العدم. فيوم جاء أبو جعفر المنصور ليبنيها، ومعه كل العدة الهائلة والموادّ من خشب ومعدن وآجرّ، وقعت انتفاضة "ذي النفْس الزكية" في البصرة، فاضطرّ الخليفة لأن يغادر إلى هناك من فوره. وحين عاد، وجد أطنان الموادّ الهائلة التي هيأها، قد أحرقت ودمرت على يد "أنس" المستأمَن عليها، الذي احتجّ بأنه أحرقها لكي لا يستفيد منها العدوّ، بعد ما سمعه من إشاعات تقول بأن الخليفة قتل. وكانت تلك المرة الوحيدة التي لم يعاقب فيها "مقصّر" على يد "أبي جعفر" القاسي جداً والدموي عادة، وكأنه رضخ لقانون بلاد محكوم على الثروة والإنسان فيها أن يتبددا ويبعثا إلى الأبد، بلا توق.

عرفت بغداد بعد عهودها الزاهرة التي لا مثيل لها، يوم كانت ناحية الكرخ لوحدها تضم 600 قينة، خمس غزوات، هي حصارات كبرى (عدا حصارات أخرى)، عاش فيها الناس ما لا يوصف من ضنك، فأُكلت الكلاب والقطط والحمير، وتحكّم بها تكرار الفيضان والطاعون بحيث فنيت عن بكرة أبيها عام 1831 (حسب حنا بطاطو)، ما اضطر علي رضا اللاز، قائد الحملة التركية الثالثة حينذاك، لأن يستجلب أبناء الأرياف المحيطة بها الى الشرق والشمال القريب ويسكنهم في الكرخ، حيث سمّوا محالّهم باسم عشائرهم: المشاهدة، التكارتة، بني سعيد.. بينما كانت المدينة تزحف، تاركة مكانها الأصلي إلى الشمال حيث مقابر قريش في"الكاظمية" الحالية، لتصبح إلى الجنوب، حيث استقر تآكلها النهائي، قبل أن تدخل "العصر" من بوابة فناء ساكنيها عام 1831 كأنها تبعث من جديد.

مقبرة المدن

ما بين بغداد، آخر المدن الواقفة على الحد بين عالمين أعلى وأسفل، والبصرة، تقوم مقبرة للمدن، حيث العشرات من مدن الدورة الحضارية العراقية الأولى، السومرية البابلية، دُمرت وتحوّلت إلى ما يسميه الجنوبيون "اليشن"، المرتفعة كتلال رملية، حتى داخل الأهوار وسط الماء، وصولاً إلى أعلاها إلى الشمال، "بابل". وأما الكوفة وواسط والبصرة، وهي من مدن الدورة الحضارية الثانية، العربية الإسلامية، فقد اختارت محاكاة بغداد تضاؤلاً، عدا واسط التي دَرَست تماماً. وقد تبقّى من الكوفة ما يذكِّر بها من دون عزّها، وظل من البصرة ما ظل، وهو قليل مشتت ومعرّض للخراب والطواعين. هكذا تكون الدورة الحضارية الثانية الإسلامية، قد تركت بعضاً من الظنّ بأن الدورات هنا يمكن أن تتواصل من دون اضطرار البشر في كل مرة للكتابة على ورقة بيضاء. مع أن رأياً آخر يقول بأن الفارق الزمني أدى دوره. فالفترة بين سقوط بابل (536 ق.م) والفتح العربي (636 م) أطول بكثير من حالة الانقطاع الحضاري الثاني بين سقوط بغداد عام 1258 (على يد هولاكو) والقرن السابع عشر، حين توقف الانحدار. والأهم من كل هذا هو ما قد كرسه الحاضر، خصوصاً خلال القرن المنصرم، من اعتقاد راسخ عن مدن تنشأ لتبقى وتزدهر فلا يسري عليها مصير سابقاتها في التاريخ.
 

الآن، لا يُرى سوى البهرجة المتفاخِمة بانشداد مفتعل، وبشاعة أبنية "متقيصرة" متراصّة، لكنها متباعدة، وزجاج لمّاع ملوّن بلا ذوق، وتشابكات معدن يطرد الرائي خارج المجال المسكون.

وضع هجين بلا تبصّر

لم يوضح باحث مثل "لويس ممفورد" على مدى عمله الضخم، في جزئيه، "المدينة على مر العصور" أيّ ملامح يمكن التوقف عندها بخصوص نشأة المدينة في جنوب العراق، ولم يبدِ أبداً انتباهاً من هذا القبيل ـ على ضرورته ـ حين يؤخذ ضمن منظومة "الأمان" والتفاعل الجمعي النفسي. وهو ما تكرر مع الحداثية الناقصة. فمثل هذا الاهتمام لم يكن ذا بال، إلى جانب ما كنا انكببنا عليه من "قضايا الأيديولوجيات الكبرى"، القومية، الوطنية، الطبقية، مع أن الغرب لم يتقدّم خطوة، سواء في حقبة الحداثة أو ما بعدها، من دون أن يقول كلاماً ثميناً وعضوياً، مواكباً صيرورة "العمارة" والمدينة، التي انكبّ عليها فلاسفة مجدّدون وجادّون وعلماء اجتماع كبار. أليس سبب هذا النقص ناجماً عن كوننا لم نتعرف بالفعل إلى ما تصوّرناه عالماً حداثياً، إلى أن جاء الوقت أو التاريخ المستقل عنا، ليدهمنا بقوة فقدان الأمان والتأقلم مع الأشياء التي ظلت تصنع نفسها خارجنا، وعلى الرغم من افتقاد حضورنا "الفاعل"، إلى أن تجاوزتنا من دون أن تحتوينا، إن لم تكن شرعت بطردنا.

أحد العائدين بعد بضعة عقود ذكر خلال جلسة عادية أنه لم يجد العراق، ولا مدنه التي كان يعرفها، وظنّ أنها ستعرفه. فلقد اختفى "عراقه" تحت ركام "مدن غريبة"، لا يبدو عليها أنها قابلة للموت كما كانت تفعل، بقدر ما هي سائرة للاتساع الأعمى. قال إنه لم يجد السماوة، ولا الحلّة، ولا الناصرية، أو الكوت، ناهيك عن بغداد المبعثرة الهرمة المتمددة بلا حدود، كأنها ذاهبة لغزو عالم مجهول.

بالأمس، كان النغم والكلام المموسق يجعل المرء يتخيل الشناشيل، مثل سماع أغنية لامرأة تقول "علو تخَت حبي، يا أهل القهاوي.. وش وَكّع الفجان منك يا غاوي؟" فتحضر أمامه فوراً صورة امرأة ترى من خلف الشناشيل المتراكبة في الأعلى محبوبها الجالس في المقهى، فتُستحضر"الدربونة" (الزقاق) والمكان والإيقاع، و "الوحدة السكنية البغدادية المنطوية إلى الداخل"، ثم بَعدها عمارة الخمسينيات والستينيات، "الفيلا المصغرة بالبيت الداخلي والحديقة".. الآن، لا يُرى سوى البهرجة المتفاخِمة بانشداد مفتعل، وبشاعة أبنية "متقيصرة" متراصّة، لكنها متباعدة، وزجاج لمّاع ملون بلا ذوق، وتشابكات معدن يطرد الرائي خارج المجال المسكون.

مقالات من العراق

فتاة كقصبة ال"بامبو"

فؤاد الحسن 2024-09-29

"فاطمة" لم تستطع نيل موتها، على الرغم من دنو الموت، وتنفسه الثقيل الملتصق بتراب الأرض. فقد اختُطِفت مِن قِبل عناصر تنظيم "داعش"، على الرغم من سنواتها التسع، التي لم تنضج...

للكاتب نفسه

الثورة الأخيرة

كتب الكثير عن حدث 14 تموز 1958 العراقي، من دون أن تذكر الثورة، أو بالأحرى أن الثورة لم تجسَّد من حيث الوقائع الدالة عليها أو التي هي روحها. ربما تكون...