كائنات المخيم

كل قصة تبدأ في زقاق من قرية "شنكالية" وتتناول في بدايتها فتيات صغيرات عذراوات يعملن مع عائلاتهنّ في فلاحة الأرض والرعي ويدرسنَ في مدارس طينية، يفقنَ ذات يوم على خبر قدوم الحرب ويتحولنَ إلى نساء تلفهنّ العباءات السود في أسواق النخاسة، وكل منهن ّعُلّقَ سعرها على ورقة بيضاء بعملة الكفار وسيد العالم: الدولار، فيما أُبعِدن عن عائلاتهنّ.
2023-09-21

فؤاد الحسن

كاتب من العراق


شارك
حريق في مخيم للاجئين الأزيديين، العراق

حملتُ رأسي وخرجتُ من الخيمة. عواء الريح وقفر الشوارع من المارة أشعراني بالأمان، والخيام التي داهمتها أيادي الريح الشبحية انتشرت على جانبي الشوارع فبدا لي أنني دخلت متاهة من أكفان الموتى غير المدفونين. فالأرض التي كُفّنوا عليها أجّرَتْها ودفعت الأموال لتكوينها منظمات حقوق الإنسان للحكومة الموقرة كي تسكننا ضمن الحدود ولا تركل مؤخراتنا خارج البلد، وتستقبل عوائل داعش بدلاً عنّا، على الرغم من أن الأقوال تردد أنّها سرقت أغلب تبرعات الدول للنازحين.

صادفتُ صديقة اعتادت أن تحكي لي قصصاً عن كائنات المخيم. كانت مطفأة العينين وجلدها مصبوغ بزرقة الفجر، ينعكس نور مصابيح مريض على وجهها. انضمتْ إليّ في نزهتي وتحدثنا صامتين عن كل ما يؤلمنا، وحين لم يبقَ ما يتوجب السكوت عنه، سألتها عن قصص جديدة، فهزت رأسها نافية، وقد فكرتُ أن الكلمات طيور تحررت من حناجرنا هاربة من الأقفاص التي نعتقل قلوبنا فيها، ومن شتاءات المخيم، فالصمت إذاً أمسى سلطاناً وسلاحه البرد الذي ينهش العظام. ناولتها سيجارة ونفثنا غيوم الدخان ونحن نمشط شوارع المخيم تحت سماء تحولت إلى حديقة من الرماد.

تذكرتُ القصة الأولى التي حكتها لي جمانة، باسم "طوابير الموت". كانت لهفتها أشبه بلهفة الأم الممتلئة فخراً وإعجاباً بطفلها وتتراقص سعادتها على شفتيها. كانت جمانة تحكي القصص وتلوّنها بتفاصيل خيالية كما اعترفتْ، لكنني فشلتُ في فصلها عن بعضها.

قالت:

سمعت من امرأة قالتْ أنّها شاهدت كل ما حدث بعينيها، وعلى الرغم من الشيخوخة فهي ليست بخرقاء، وتتذكر كل ما حدث لها حين عادت من الرعي وزوجها. قالت إنها وقفت في الطابور لاستلام سلات المواد الغذائية والصحيّات التي توزعها وزارة الهجرة والمهجرين، ولأول مرة منذ سنوات قضتها في المخيم تقف في الطوابير، كان الرجال والنساء والأطفال والعجائز في طابور واحد. وقفت العجوز إلى جانب امرأة شابة، وبعد دقائق أبدية، وقفتِ الشابة أمام الموظف المسؤول عن فحص بطاقة النازح، والهوية. قطب جبينه وأعاد المستمسكات إليها، ودقق اسم زوجها في السجل. رفع رأسه نحوها وقال بنبرة ساخرة:

-والآن علينا توزيع المواد للموتى، أي عمل خرائي هذا!

سألتها عن قصص جديدة، فهزت رأسها نافية، وقد فكرتُ أن الكلمات طيور تحررت من حناجرنا هاربة من الأقفاص التي نعتقل قلوبنا فيها، ومن شتاءات المخيم، فالصمت إذاً أمسى سلطاناً وسلاحه البرد الذي ينهش العظام. ناولتها سيجارة ونفثنا غيوم الدخان ونحن نمشط شوارع المخيم تحت سماء تحولت إلى حديقة من الرماد.

"أتعرفْ؟" قالت لي وهي تقاوم ابتسامة، إن الحياة ليست سوى تدرّب على الموت. وإن المخيم ليس سوى رحلة في الطريق إلى الجحيم. هذه الأعمدة والخيم المغروسة أطرافها تحت الأرض صورة توضيحية عن العالم السفلي، حيث كل منا، نحن سكان المخيمات، سيمسي خيمة لنفسه، والنار الناشبة أبداً في صدورنا ستحرق الخيم التي ليست سوانا.

تقدمتْ المرأة الشابة وخطت نحو الطاولة الأخرى التي يجلس إليها موظف آخر، فأوقفها الرجل وأعادها إلى الوراء.

-السجل يشير إلى أن صاحب البطاقة ميت، احترق في خيمته مع طفلته، مَن أنتِ؟
-هاها، لا بد أنكِ مخطئ "سيدا"، فهذه مستمسكات زوجي، وهو يعمل في البلدية.
-لا تصعّبي الأمور...
-أقسم لك سيدا.
-هناك من ينتظر دوره يا سيدة.

انسحبت الشابة فيما استمر الطابور بالتقدم، وتبعْتُها بعينيّ تشق طريقها عبر الجموع المحتشدة وقررتُ تقصي حقيقة عائلتها التي ادّعاها الموظف. وعجّلتُ خطاي أتتبع طيفها الذي صبغه البرد بمعطف من الضباب. قطعت المرأة الشابة شوارع المخيم وسقطت المستمسكات من يدها واحداً تلو الآخر فالتقطُتها وقرأتُ الأسماء بسهولة وشكرت في سري الشاب المتحرش الذي علّمنا القراءة والكتابة في المخيم، وعلّم بعض الشابات التخفي في حمامات مقر المنظمة، وقيل إنه وهبهنّ متعة العمر. اسمها هدية درويش، واسم زوجها صلاح فارس، وابنتهما المتوجة بتاج ملائكي من الشعر الذهبي اسمها إيفلين. توقفتْ الشابة في شارع من الخيام نهش البرد حياته وأصواته وساد فيه صمت جنائزي. دنوتُ منها وقد أحالها المشهد والبرد تمثالاً من الزرقة بعيني طائر مجروح، وانتظرتها ريثما تتفاعل، لكنها لم تفعل، والحركة الوحيدة التي صدرت عنها شهقة، بينما تسابقت الدموع من عينيها، متحدثة بلغة يفهمها الجميع ولا أحد يفهمها...

 تراقب بقايا محترقة من خيمة أعمدتها عارية وقد جرّدها البرد من ألفة عائلية سكنتها ذات يوم.

قطع الصمت دبدبة خطوات متعجلة ظهرت فجأة من لا مكان وشكَر الرب صوت غليظ لامرأة تلهث.

- لماذا تعذبيننا يا ابنتي؟ لقد رحلا، أرادهما الرب هناك وأخذهما، لماذا لا ترضخين للقدر؟ قالت العجوز التي جرّت المرأة من يدها وقادتها نحو خيمة في الطرف الآخر.
حين غطتها رمقتني بنظرة مرعبة، وخطتْ نحوي.

- لستُ أنوي شراً، تبعتها لأنني قلقتُ عليها. قلت لها، وقد بدوت كطفل عوقب على خطأ لم يقترفه.

لم تقل شيئًا، ودعتني كي أحتمي من البرد في المطبخ، وناولتني كأساً من الشاي. صوبتْ نظرها نحوي لكن بحدة أقل، وتمتمتْ بين رشفات الشاي التي تحمل استكانته بيديها:

    - مرت شهور وهي على الحال ذاتها، لا تتقبل رحيل زوجها وابنتها. أعادتها أم زوجها إلي، وأعطت لها الضوء الأخضر للزواج وتكوين عائلة لأنها ما تزال صغيرة حتى تكون "أرملة". فالحياة لا تنتهي بموت أحد ما، ولكل منا موته الخاص. قالتْ إنها لا تريد من ابنتي معايشة موت زوجها، لأن لها موتا ينتظرها.
    - أشعر بالأسف حيالها، وأعذري جرأتي إذا قلتُ لكِ أنني أتفق تماماً مع أم زوجها. فالحياة لا تنتهي بمجرد موت أحدهم.
    - الجميع يشعر كذلك، لكنها لا تتقبله، وتقول أنّهما ذهبا إلى حديقة الأطفال وسيعودان مساءً.
    - كيف احترقت الخيمة؟
    - آه يا أختي، ينقبض قلبي بمجرد تذكر الحادث. بسبب تماس كهربائي التهمت النار الخيمة، كان زوجها نائماً لأن العمل أنهكه، وابنته الصغيرة بين ذراعيه تحضنه. دفنوهما في قبر واحد لأن جسد الطفلة التحم بجسد أبيها، وقالوا في الطب العدلي أن قلبها الصغير المتفحم سقط في قفصه الصدري. دفنوهما في يوم ممطر، ربما كانت السماء تحاول إطفاء النار في جسديهما.

توقفتْ الشابة في شارع من الخيام نهش البرد حياته وأصواته وساد فيه صمت جنائزي. دنوتُ منها وقد أحالها المشهد والبرد تمثالاً من الزرقة بعيني طائر مجروح، وانتظرتها ريثما تتفاعل، لكنها لم تفعل، والحركة الوحيدة التي صدرت عنها شهقة، بينما تسابقت الدموع من عينيها، متحدثة بلغة يفهمها الجميع ولا أحد يفهمها... تراقب بقايا محترقة من خيمة أعمدتها عارية وقد جرّدها البرد من ألفة عائلية سكنتها ذات يوم. 

جلسنا حول نار تلسع بألسنة أفاعٍ حمراء دخانية أطرافَ البرد فتتبدى مقتولة بسمها، وحدَّقتُ فيها مطولًا بينما تحاشت لقاء عينيَّ. قطبتْ ذراعيها فوق صدرها ولاعبت يد الريح شعرها.

"بم تفكرين؟" سألتها، فبدت كمن أُوقِظ من سباته، تلفها الحيرة، وقد كسى وجهها شحوب مقلق. "صرّحت وزيرة الهجرة والمهجرين عن شعورها بالتهديد وبالعنف ضد المرأة والخطر على حياتها بسبب جملة قالها رئيس الوزراء. لا أعرف ماذا ستقول لو أنّها عرفت عن الحرائق التي تلتهم الخيام وسكانها من النساء والأطفال المسؤولة عنهم وزارتها العظيمة، والخطر على حياة النساء في المخيمات وحياتهنّ التي تتعفن داخل سور حديدي يحيط بهنّ كما لو أنهنّ حيوانات مفترسة تخشى الدولة إطلاق سراحها، وإن تمت إعادتهنّ إلى مدن كنّ يسكنَّ فيها قبل الحرب فهي أخطر، لأن الجماعات المسلحة تحرِّر المدينة من الأشباح وتعتقل ظلال المجرمين وتتصارع فيما بينها كما لو أنها ديكة في حلبة. حتّى الحكم يشارك في المصارعة كي يستغل ذلك لصالح السلطة. يقولون أنّ الموتى ضحوا في سبيل الوطن، هاه! قاتلوا لكي نسكن المخيمات لعقدٍ من الزمن.

رحلتُ دون كلمة وداع، لحقتُ بها لأنني لم أشأ تركها وحدها، عرفتها امرأة من النار لا يخمد لهيبها سواها، وتُحرقُ كل ما يثنيها عن بلوغ حياتها، لكنها في ذلك اليوم تحولت إلى وادٍ وسقطت في قاع نفسها.

***

"هلّا حكيتِ لي قصة؟" سألتها فرمقتني بنظرة أمومية ولفّت ذراعيها حولي، وهمست في أذني: "لا تكن طفلًا، أحتاجك رجلاً" ضحكنا، وقلت: "أنا رجل يحب القصص".
فحكتْ عن الكاتب الذي كتب أقصر قصة في العالم.

كان رجلاً وحيداً في الخيمة، يقضي النهارات بالتحدث إلى الناس والسؤال عن مصير المختطَفات الإيزيديات، ويقضي الليالي بمحاولات فاشلة لضم القصص في قالب أدبي. وعلى الرغم من سنوات عمره التي تجاوزت السبعين، غير أنه لم يتوقف ليلة واحدة عن محاولة تأليف كتاب أحلامه: مجموعة قصصية عن المختطَفات، كل قصة تبدأ في زقاق من قرية "شنكالية" وتتناول في بدايتها فتيات صغيرات عذراوات يعملن مع عائلاتهنّ في فلاحة الأرض والرعي ويدرسنَ في مدارس طينية، يفقنَ ذات يوم على خبر قدوم الحرب ويتحولنَ إلى نساء تلفهنّ العباءات السود في أسواق النخاسة، وكل منهن ّعُلّقَ سعرها على ورقة بيضاء بعملة الكفار وسيد العالم: الدولار، فيما أُبعِدن عن عائلاتهنّ. لكل منهنّ قصة مختلفة لكن الألم ذاته: اغتصاب وضرب وجوع وبيع وشراء وخدمة إجبارية وموت بعيد. كان الرجل يكتب بحبكة مشوقة على الرغم من معرفته بنهايات القصص، إلّا أنّه أخفاها وراء الليل الذي زرعه في الجمل. وكان يفشل كل مرة في كتابة نجاتهنّ بالحبكة ذاتها، مؤمناً أنّ اللغز لا يجب كشفه. وبعد محاولات كثيرة فاشلة، صعقته ذات ليلة فكرة أخرى: لماذا لم يكتب أحد عن الرجال الإيزيديين الذين اختُطِفوا وذُبحوا واغتُصِبَت نساؤهم أمام عيونهم؟ وقد أجاب خائباً، لأنّ كل الكتّاب الذين كتبوا عن الأمر أولوا جل اهتمامهم للنساء، مَن سيكترث برجال يعيشون في المخيمات عاطلين عن العمل ويفقدون احترامهم وكرامتهم في طوابير التشرد ويراقبون أطفالهم في الخيام؟ فقرر أن يكتب عن الرجال، لكنه بعد القصة الأولى والتي فشل بإنهاء قراءتها بنفسه وشعر بالحموضة من الجمل المنمقة المكتوبة، انسحب تاركاً المشروع تنهشه الرطوبة.

ينقبض قلبي بمجرد تذكر الحادث. بسبب تماس كهربائي التهمت النار الخيمة، كان زوجها نائماً لأن العمل أنهكه، وابنته الصغيرة بين ذراعيه تحضنه. دفنوهما في قبر واحد لأن جسد الطفلة التحم بجسد أبيها، وقالوا في الطب العدلي أن قلبها الصغير المتفحم سقط في قفصه الصدري. دفنوهما في يوم ممطر، ربما كانت السماء تحاول إطفاء النار في جسديهما.

الخطر على حياة النساء في المخيمات، وحياتهنّ التي تتعفن داخل سور حديدي يحيط بهنّ كما لو أنهنّ حيواناتٍ مفترسة تخشى الدولة إطلاق سراحها، وإن تمّت إعادتهنّ إلى مدن كنّ يسكنَّ فيها قبل الحرب فهي أخطر، لأن الجماعات المسلحة تحرِّر المدينة من الأشباح وتعتقل ظلال المجرمين وتتصارع فيما بينها كما لو أنها ديكة في حلبة. 

احتاج الرجل إلى سنوات وألَّفَ أخيراً القصة التي أعجبته، ولم تكن سوى كلمتين وحرف جر: "الحياة في المخيم".

"عليّ أن أذهب الآن"، قالتْ وحررتْ أصابعها المعتقلة في يدي. موجة من البرد داهمتنا، وأصابعها تبتعد ونظرها مركّز علي، وأحسستُ أن تلك اللحظة هي نهاية العالم.

***

مع انتصاف الليل همستْ على الطرف الآخر من الخيمة، حيث كانت تعرف في أي طرف من الخيمة أنام، وأنني لا أنام الليل، وطرقتْ طرقاً خفيفاً على الخيمة. همست بكلمات سركون بولص التي ظلت ترددها عدة مرات في اللقاء الأخير:

"عرفتُ أنّ الليالي مذاق قطرة من العسلِ، على اللسان تتلاشى
وأنّ الأشياء دوماً مهددة بالغياب
وأنني ذات يوم كنتُ في هذا المكان
حيث لن أكون أبداً مرةً أخرى"

خرجت ملبياً دعوتها للمشي، عارِفاً أنها امرأة من الصمت، لا تحكي عن النهر الذي ستجتازه سوى عند الغرق، وأنّها النهر ذاته. "أتعرفْ؟" قالت لي وهي تقاوم ابتسامة "إن الحياة ليست سوى تدرّب على الموت. وإن المخيم ليس سوى رحلة في الطريق إلى الجحيم. هذه الأعمدة والخيم المغروسة أطرافها تحت الأرض صورة توضيحية عن العالم السفلي، حيث كل منا، نحن سكان المخيمات، سيمسي خيمة لنفسه، والنار الناشبة أبداً في صدورنا ستحرق الخيم التي ليست سوانا"، وقد أرعبني وصفها لنا، فتعجلتُ محرِّكاً شفتي للتحدث، فسدَّتهما بطرف سبابتها، ولم تزل ابتسامتها تشرق في قلب الليل البارد.

"هل أحكي لك قصة عن امرأة في المخيم؟" سألتني وسبابتها تستقر على شفتي، فحدّقتُ مطولاً في عينيها المشعتين. اقتربتْ وطبعتْ قبلة باردة على شفتيّ، ثم انسحبت. "ماذا عن القصة؟" استدارت نحوي واتسعت ابتسامتها "ستبقى طفلاً، صغيري!"

مقالات من العراق

فتاة كقصبة ال"بامبو"

فؤاد الحسن 2024-09-29

"فاطمة" لم تستطع نيل موتها، على الرغم من دنو الموت، وتنفسه الثقيل الملتصق بتراب الأرض. فقد اختُطِفت مِن قِبل عناصر تنظيم "داعش"، على الرغم من سنواتها التسع، التي لم تنضج...