"أوميتا فوبيا": عيون الطفولة المفقوءة

كانت سنة الاحتلال الأولى، وفي جوٍ يملؤه دخان القصف وغازات الحرائق. كانت العيون السليمة تتأثر، فكيف بعينين حسّاستين؟ كل ما حولي كان يدفعني للعمى: أسئلة الطبيب وعيادته ذات الإضاءة المزعجة، غبار الطلع الممزوج بغازات غير نظيفة، نصال السكاكين الموجهة نحوي، الشمس القاسية وأشعتها التي تخترق طبقات النظر، الألوان العسكرية وما تسببه من شعور بالكتمة، وأخيراً سياج المدرسة الذي يخنقه سلك شائك كما يخنق حياتنا.

تم انتاج هذا المقال بدعم من مؤسسة روزا لكسمبورغ. يمكن استخدام محتوى المقال أو جزء منه طالما تتم نسبته للمصدر.

نص وكولاج: مبين خشاني
الربيع الذي يتغنّى به الجميع وتنتظره الحدائق، عروس الفصول أو ملكها المتوَّج، كان بمثابة نكبةٍ لطفلٍ يعاني من حساسية صعبة يسببها غبار الطلع، وتختلف أعراضها من شخصٍ لآخر حسب نوعها.. هذا الطفل كان أنا.

النوع الذي أعاني منه يسبب حكة في فصوص العين وسيلاناً مزعجاً للدموع، وتظهر في باطن الجفون حبيبات بيضاء متناهية الصغر، وبذلك تصبح نسائم الربيع الندية سكاكين تجرح العيون، وتغدو الورود الزاهية قواذف شرر وأشواكاً عليّ تجنبها.

حرمني غبار الطلع من متعة اللعب أو الفرجة في مناخ الربيع الرائق، حيث كانت تُمارَس في ذلك الوقت ألعابٌ شعبيةٌ في ساحات غير بعيدة عن أشجار النخيل أو بعض النباتات الطبيعية. أذكر لعبة "حاح ويدَّة" (1) التي كان أطفال شارعنا ممن هم أكبر مني يلعبونها قرب "كَصبة" (2) للمياه الآسنة، تنبت فيها نباتات طبيعية غير مرغوبة ويبرز منها القصب كرماح صدئة.

هذه كانت معاناتي.. وهي معاناة لم تقتصر على ما تسبّبه الحساسية من حكةٍ شديدة في فص العين وطرْفْ لا إرادي، فوق العادة، جعلني عرضة للتنمر في الشارع والمدرسة لاحقاً، بل حفّزت عندي رهاباً كريهاً سمّمَ طفولتي من الأشكال الشائكة والأشياء التي لها نصال حادة ومدببة. مجرد ذكر هذه الأشياء أو رؤيتها يستدعي خيالاً عنيفاً يصوّر لي بأنها ستفقأ عينيّ وتدميهما، ولم يزل أثر الرهاب حتى اللحظة.

كل ما هو شائك، مدبب، أو له نصل حاد أراه، أتخيله، سيفقأ عيني، مثل إبرة الخياطة والسكاكين والنباتات ذوات الأشواك، وحتى الحافات الحادة لقطع الأثاث المسالِمة كالطاولات وغيرها من الأشكال العديدة التي جعلت نعمة البصر نقمةً وضوء العيون بلاءً.

يعرف هذا الرهاب باسم (ommetaphobia)، وهو نادر لم أصادف في حياتي أحداً يعاني منه، ولم أكن أعرف عنه شيئاً حتى وقت قريب، عندما بحثتُ عن الأعراض التي سممت طفولتي فوجدت أنها تعود إلى نوع فوبيا نادر لكنه موجود.

هذا كان جحيمي السري الذي صعّب على طفلٍ شرحه حتى لأمه، لذلك حتى الطبيب لم يفهم ما كنت أصفه له من خيالات تأتيني إذا ما رأيت شكلاً شائكاً أو مدبباً، فسأل أمي إذا ما كان لي أخ أصغر يشعرني بالغيرة، فأخبرتْه أمي بأني آخر العنقود ومحط اهتمام العائلة، فصمتَ قليلاً ونظر إلي ثم أخبرني بأن عليّ مقاومة الطَرف ومنع نفسي من فعله قدر المستطاع.

لا أنكر لطافة الطبيب العجوز رغم إضاءة عيادته المؤذية، إلا أنه لم يقع على علتي حين أخبرته بما أتخيله ويسبب لي صعوبة قبل النوم كل ليلة. لم يفهم أن الحكة أشرس من أن أقاومها، وأن الأمر أكبر من حساسية غبار الطلع. صمتُّ بعد ذلك.

كل ما هو شائك، مدبب، أو له نصل حاد أراه، أتخيله، سيفقأ عيني، مثل إبرة الخياطة والسكاكين والنباتات ذوات الأشواك، وحتى الحافات الحادة لقطع الأثاث المسالِمة كالطاولات وغيرها من الأشكال العديدة التي جعلت نعمة البصر نقمةً وضوء العيون بلاءً.

تعايشتُ مع الحكة والأدوية التي حرصت أمي على تذكيري بتناولها كل ليلة قبل النوم، وتمكنتُ من ابتكار وسائل دفاع تجنبني شعور الفقء الذي اشتدّ بسبب رؤيتي لآليات وأسلحة جيش الاحتلال الأميركي في كل مكان.

كانت وسائل الدفاع التي ابتكرتها لمواجهة خيالات الفقء، خيالية أيضاً. كنت أحارب الخيال بالخيال، وإذا ما عانيت من نوبة رهاب قوية، كنت أتخيل سيل ماء بارد يمر عبر عينيّ وينظفهما كما ينظف سطحاً زجاجياً من كل شائبة عالقة فيه. هكذا فقط كان بإمكاني النوم ليلاً، لأجد وسادتي في الصباح مبتلة بدموعي.

مقالات ذات صلة

كنتُ في عمر الخامسة، وجاء موعد تسجيلي في المدرسة في مدينة النعمانية بمحافظة واسط. وبعد مشوار طويل تضمن الفحص الطبي وشراء استمارات التسجيل من شارع المكتبات، قطعتُ مع أمي شوارع المدينة بصعوبة مرتدياً نظارة شمسية أكبر من وجهي. كنت أثبتها من حين إلى آخر بأصابعي، لكنها سقطت على الرغم من ذلك أكثر من مرة. كانت أغلب الشوارع مقطوعة وملأى بأرتالٍ من قوات الاحتلال، لذلك كان المشوار أطول وأعقد من العادة.

طُلب مني بعد الفحص صورةٌ رسمية لأجل الوثيقة المدرسية. استنفر أهلي لهذا الأمر وبدأ إخوتي تلقيني عدم إغماض عيوني أثناء التقاط الصورة، وأنّ عليّ إبقاء عينيّ مفتوحتين دون أن أرمش حين يبرق ضوء الكاميرا.

تعايشتُ مع الحكة والأدوية التي حرصت أمي على تذكيري بتناولها كل ليلة قبل النوم، وتمكنتُ من ابتكار وسائل دفاع تجنبني شعور الفقء الذي اشتدّ بسبب رؤيتي لآليات وأسلحة جيش الاحتلال الأميركي في كل مكان.

كانوا يحاولون المساعدة، وكنت أستجيب لتلقينهم، حتى أنّي تمرّنت مع أختي على إبقاء عينيّ مفتوحتين لأطول فترة ممكنة. كانوا يشجعوني بالقول إني سأصبح تلميذا شاطراً، ويطلبون مني أن أحسب لهم من الواحد إلى المئة وحين أصل إلى العشرين كانوا يكتفون بذلك مرْبّتين على كتفي، ويذكرونني بأنّ علي فتح عيني أمام عدسة المصوّر.

حمّلتني التحذيرات مسؤولية كبيرة، شعرت بالخوف وضاق صدري، بعدها رافقتني أمي إلى المصوِّر وكنت أتشبّث بيدها بقوة حتى شعرتْ بحرارة يدي وسألتني إذا ما كنت أشعر بالمرض، لكني أجبتها أنني بخير.

بسبب آليات الاحتلال والنقاط العسكرية التي تغلق أغلب شوارع المدينة، كان علينا أن نقطع شارع المدرسة الطويل حتى نتمكّن بعد ذلك من الذهاب إلى المصوِّر. كان الشارع طويلاً جداً ويحوي في نهايته مدرسة يتخذها جيش الاحتلال كقاعدة له، وتنتشر على طوله الآليات وسيارات ال"همفي" والمدرعات، وكانت مراوح الطائرة الهليكوبتر تظهر من خلف سياج المدرسة المنخفض.

كان سياج المدرسة مدججاً بسلك شائك على طوله، وعلى بعد كل بضعة أمتار كانت هناك كومة من الأسلاك الشائكة الجارحة، يحدد من خلالها جنود الاحتلال مسار المشي المسموح به ويمنعون سير العربات فيه، إضافة الى انتشار الجنود بأسلحتهم الموجهة إلى المارة وسكاكينهم المثبتة على بزاتهم العسكرية.

عند نقطة دخول الشارع، خلعتْ أمي نظارتي الشمسية حتى لا تثير ريبة الجنود، وأنا أغمضت عيني وشددت قبضتي على يد أمي ورحت أحسب مع نفسي من الواحد إلى المئة، لكني تعثرت وسقطت سقطة مؤلمة، دخل التراب في فمي وكشطت حصاة قطعة جلد صغير تحت عيني فخرج دم قليل جداً. لم أبكِ لكنني تألمت، مسحت أمي التراب ونظفتني ثم أكملنا السير في طريق تكرهه عيناي.

مقالات ذات صلة

كانت سنة الاحتلال الأولى، وفي جوٍ يملؤه دخان القصف وغازات الحرائق، كانت العيون السليمة تتأثر، فكيف بعينين حسّاستين؟ كل ما حولي كان يدفعني للعمى: أسئلة الطبيب الغريبة وعيادته ذات الإضاءة المزعجة، غبار الطلع الممزوج بغازات غير نظيفة، نصال السكاكين الموجهة نحوي في بسطيات الكراج، الشمس القاسية وأشعتها التي تخترق طبقات النظر، الألوان العسكرية وما تسببه من شعور بالكتمة، وأخيراً سياج المدرسة الذي يخنقه سلك شائك كما يخنق حياتنا.

بسبب آليات الاحتلال والنقاط العسكرية التي تغلق أغلب شوارع المدينة، كان علينا أن نقطع شارع المدرسة الطويل حتى نتمكّن بعد ذلك من الذهاب إلى المصوِّر. كان الشارع طويلاً جداً ويحوي في نهايته مدرسة يتخذها جيش الاحتلال كقاعدة له، وتنتشر على طوله الآليات وسيارات ال"همفي" والمدرعات، وكانت مراوح الطائرة الهليكوبتر تظهر من خلف سياج المدرسة المنخفض.

بعد كل ذلك كان عليّ اجتياز الطريق ممسكاً بيدِ أمي حتى أصل إلى محل التصوير، وعليّ بعدها أيضاً أن أفتح عيني على اتساعهما لأجل صورة سترافقني بقية حياتي.

على كرسيّ المصوّر، شعرتُ بأني أمام عاصفة سكاكين يحملها الهواء البارد الخارج من فوّهة آلة التكييف، والمصور بسيجارته التي لا يخرجها من فمه طلب مني أن أرفع رأسي، وأن أنظر إلى الكاميرا. جعلتُ ظهري بشكل مستقيم وفتحت عينيّ على اتساعهما لكني لحظتها كنتُ بلا نظر، لم أرَ أي شيء سوى سواد تخترقه نصال حادة ترافقها حكة شديدة كأنّ عينيّ معاقبتان. قطعتُ نَفَسِي حتى سمعتُ صوت التقاط الصورة، فضحك المصور وأخبرني بأن الفلاش لا يؤذي، إنها صورة وليست إبرة، بينما كان لكل شيء حولي أثر إبرة تفقأ العيون.

ظهرت الصورة أخيراً لطفل بندبة صغيرة، عيناه تجحظان بطريقة تثير ضحك كل من يراهما، لكن الضحكات لن تغيّر حقيقة أنها صورة لطفل حرب تعيس، نظرته محنَّطة وبصره مثلوم. بقيت الأشياء الحادة تجرح نظرتي حتى الآن، وكل التقاطة كاميرا تحمل معها صوت تحذير "أن افتح عيني قدر ما استطعت". 

______________________

*النص السابع من دفتر "عشرون عاما على الحرب على العراق" وذلك بمشاركة موقع جمار وبدعم من مؤسسة روزا لوكسمبورغ.

محتوى هذا المقال هو مسؤولية السفير العربي ولا يعبّر بالضرورة عن موقف مؤسسة روزا لكسمبورغ.

______________________

1- حاح ويدَّة: النسخة الشعبية من لعبة البيسبول بادوات بدائية وقواعد مخفّفة. الحاح هو علبة ببسي بلاستيكية تُملأ بقليل من الرمل لتكتسب ثقلاً ما، واليدَّة هي المضرب الخشبي الذي نصنعه من الخشب الزائد عن الحاجة في البيوت.
2- الكّصبة: في بعض المناطق الشعبية والأرياف التي تفتقد للبنى التحتية ولا تملك نظام صرف صحي، فإن سواقي الصرف الخارجة من البيت تصب في ساحة فارغة قريبة على الشارع الذي يضم البيوت، وفي تلك الساحة تتجمع المياه الاسنة والثقيلة مما ينبت فيها القصب وبعض النباتات الطبيعية الشائكة، إضافة إلى تواجد بعض الحيوانات كالضفادع والقنافذ ودجاج الماء الاسود، لذلك تسمّى كًصْبة. 

مقالات من العراق

سجون "الأسد" وسجون "صدام حسين"

ديمة ياسين 2024-12-12

لا أزال إلى اليوم لا أستطيع النظر طويلاً إلى الصور التي التُقِطتْ لوالدي في أول يوم له بعد خروجه من المعتقل، وهو يجلس تاركاً مسافة بيننا وبينه، وتلك النظرة في...

بغداد وأشباحٌ أخرى

نبيل صالح 2024-12-01

عُدتُ إلى بغداد ولم أعد. تركتُ قُبلةً على قبر أُمي ورحلتُ. ما حدث ويحدث لبغداد بعد الغزو الذي قادته جيوش الولايات المتحدة الأمريكية، هو انتقامٌ من الأسلاف والتاريخ معاً.

فتاة كقصبة ال"بامبو"

فؤاد الحسن 2024-09-29

"فاطمة" لم تستطع نيل موتها، على الرغم من دنو الموت، وتنفسه الثقيل الملتصق بتراب الأرض. فقد اختُطِفت مِن قِبل عناصر تنظيم "داعش"، على الرغم من سنواتها التسع، التي لم تنضج...

للكاتب نفسه

تحت ظلال الكارثة

قال شاعرٌ ما مرةً: "الخوف متراس". وافترضَ آخر أننا يجب أن نشعر بالامتنان الدائم لأسلافنا الخائفين، لأن خوفهم كان هو سبيل نجاتهم، فقد حفظ حياتهم وجنبهم الكوارث والحروب، وبعدها تكاثروا...