لا حديث في موريتانيا يأخذ حيزاً من الاهتمام في هذه الفترة - بل منذ أشهر عديدة - مثل موجة الهجرة نحو أمريكا عبر الجدار الحدودي مع المكسيك، وهي الموجة التي بدأت قبل عامين، وتصاعدت وتيرتها مؤخراً. ومما زاد من زخم نقاشها مثول الخطر على سالك طرقاتها المتعددة والوعرة وبالغة الصعوبة، ولما تشي به من حال الواقع الاقتصادي في البلد وفقدان الأمل لدى الشباب، فهم الفئة الغالبة في هذه الموجة على الرغم من أنها لا تقتصر عليه بالطبع.
هل هي موجة نزوح؟
علاقة الإنسان الموريتاني بالهجرة ليست بالجديدة، فهو نفسه نتاج لهجرات وتنقلات بشرية كثيرة من مناطق مختلفة وعبر أزمنة متعددة. وحديثاً ظل الشباب الموريتاني يتخذ الهجرة خياراً لتحسين وضعه الاقتصادي والمعرفي، وللهروب من واقع القمع في بلده وطلباً للحرية والانعتاق، وتعددت وجهاته ما بين أوروبا، وإفريقيا، وأمريكا، والخليج. لكن الجديد في الأمر هو تقبل سلوك الخطر، فليس من المعروف عن الشباب الموريتاني الانخراط بكثرة في الهجرة عبر قوارب الموت المتجهة إلى أوروبا من إفريقيا مثلما يفعل جيرانه. وقد ظلت موريتانيا طويلاً بلد عبور وليست دولة مصدرة للمهاجرين عبر تلك القوارب.
ولكن يطرح الآن اعتماد طريق الجدار الفاصل بين أمريكا والمكسيك، حيث إن عدد الموريتانيين الذين دخلوا الأراضي الأمريكية عبر الحدود البرية، خلال الفترة من آذار/مارس 2023 إلى حزيران / يونيو 2023 قد بلغ 8500 شخص، وذلك وفقا لبيانات الجمارك وهيئة الحدود في أمريكا. وخلال شهر حزيران/ يونيو المنصرم، أعلن حرس الحدود الأمريكية، أن نسبة المهاجرين الموريتانيين، تضاعفت بين عامي 2022 و2023 بنسبة ألف في المئة.
هذه الأرقام جعلت النقاش يتصاعد، خاصة أن أصحاب هذه الرحلة تنتظرهم علاقات مقلقة مع المهربين الذين ينتمون إلى شبكات خطرة وإجرامية، كما يمكنهم التعرض لشتى الأخطار المحدقة، مثل الخطف من طرف العصابات في المكسيك، حيث سُجِّلت حالات اختطاف لموريتانيين وطلب الفدية لتركهم بسلام.
مسار صعب ومكلف مادياً
تتعدد المسالك التي يتبعها من يرغب في خوض تجربة القفز من فوق الجدار المكسيكي، لكنها طويلة في المجمل ومكلفة، وقد تبلغ كلفة الرحلة المضنية ما بين 8 آلاف إلى 10 آلاف دولار، وهو مبلغ ضخم بالنسبة للمواطن الموريتاني، وأحيانا تقوم بعض الأسر بتأمين المبلغ لأبنائها عبر بيع ممتلكاتها أو رهنها، أملاً منها في توفير واقع أفضل لأولادها الطامحين إلى تجربة "الحلم الأمريكي" ولو عبر تسلق الجدار المكسيكي.
لا تقتصر موجة الهجرة على اليد العاملة البسيطة، بل سلك طريقها الأساتذة وعناصر الأمن والأطباء وكثير من أصحاب المؤهلات التعليمية العالية، ومن لديهم وظائف ثابتة، سواء في القطاع الخاص أو العمومي، وهو مؤشر على فقدان الأمل لدى المواطنين في واقع أفضل.
وتتطلب الرحلة المرور بعدة بلدان، بعضها بطريقة غير نظامية وأحياناً بطرق نظامية، ومن هذه المسالك مثلاً، الذهاب أولاً إلى ساحل العاج، ثم تركيا وعبور مطار إسطنبول، ثم مدريد وبعدها كولومبيا، ثم كوستاريكا والسلفادور ونيكاراغوا، وبعد ذلك التوجه إلى الهندوراس، والوصول إلى غواتيمالا بطريقة غير نظامية عبر التهريب حتى الوصول إلى المكسيك، وهي أصعب الرحلات حيث تتضمن في بعض طرقها خوض غمار البحر لمدة 12 ساعة في قارب بدائي.
وبعد الوصول إلى المكسيك، تبدأ رحلة أخرى للوصول إلى الجدار وتخطيه، ولقاء الشرطة الأمريكية، ومن ثم الاعتقال والفحص الحدودي، وهو ما قد يستمر لساعات أو أيام أو حتى أسابيع، وقد ينتهي الأمر بدخول المهاجر إلى أمريكا في انتظار موعد المحكمة لرؤية ما إذا كان سيحصل على إقامة. وقبل تثبيت وضع هؤلاء المهاجرين، تتم مساعدتهم من طرف الجالية الموريتانية في أمريكا، من أجل الحصول على عمل حتى يتمكنوا من دفع إيجار مسكن ليعتمدوا على أنفسهم، كما يقوم أبناء الجالية الموريتانية في أمريكا بمتابعة أوضاع المهاجرين ويقدمون لهم المساعدة القانونية والقضائية خلال فترة وضعهم تحت الرقابة القضائية.
هل من أفق؟
أصبحت الهجرة اليوم أمراً واقعاً، فقوافل الشباب وغيرهم من المواطنين نحو الجدار المكسيكي مستمرة وبشكل مطرد ومتسارع، وهو ما يفرض التساؤل حول تأثير هذه الهجرة على واقع البلد، وتعدد وجهات النظر حول هذه القضية. فهناك من يعتبر أن ما يحدث يعد نزيفاً لمصادر البلد البشرية، خاصة من اليد العاملة الشابة، وكذلك الخبرات الذهنية والعلمية، خاصة أن موجة الهجرة هذه لا تقتصر على اليد العاملة البسيطة فقط، بل سلك طريقها الأساتذة وعناصر الأمن والأطباء وكثير من أصحاب المؤهلات التعليمية العالية، ومن لديهم وظائف ثابتة، سواء في القطاع الخاص أو العمومي، وهو مؤشر على فقدان الأمل لدى المواطنين في واقع أفضل، وأن الظروف المعيشية يصعب معها العيش حتى لمن لا يعاني البطالة.
وهناك من يرى أن هذه الموجة قد تكون لها بالفعل فوائد إن نجح أصحابها في مسعاهم وتحققوا مالياً ومعرفياً، فذلك بالطبع مفيد للبلد. فطالما كان المهاجر الموريتاني هو مصدر التأمين المالي الأول لأسرته في موريتانيا، لما يبعث به من أموال، وبالتالي يعد ذلك مساعدة في تحسين الواقع الاقتصادي للشعب وللدولة في المحصلة.