وباءُ العمى

الساعة الثالثة صباحاً، وأنا أعيد قراءة رواية "العمى" لجوزيه ساراماغو، أخذت استراحة في الصفحة 136 حيث يتدافع العميان وحاملو عدوى العمى، ويتصارعون للهروب مدفوعين بغريزة البقاء. ووصل بي إلى مداه القرف من الغريزة البشرية التي تفقد سيطرة العقل حين تشعر بالخطر.
2016-10-19

عائشة بلحاج

صحافية وباحثة في حقوق الإنسان، من المغرب


شارك
أسماء فيومي - مصر
الساعة الثالثة صباحاً، وأنا أعيد قراءة رواية "العمى" لجوزيه ساراماغو، أخذت استراحة في الصفحة 136 حيث يتدافع العميان وحاملو عدوى العمى، ويتصارعون للهروب مدفوعين بغريزة البقاء. ووصل بي إلى مداه القرف من الغريزة البشرية التي تفقد سيطرة العقل حين تشعر بالخطر.
فتحت النت، وكان أول ما وقعت عليه عيناي هو هذا الخبر: شاب يقفز من الطابق السادس ويسقط قتيلاً، لأن جارته هددته بإبلاغ الشرطة حين ضبطته مع رفيقته في شقة مجاورة لها. تخيّلت شعور هذه المرأة الآن، مقارنة مع ذلك الشعور الخسيس الذي جعلها تهدّده. لعلها ستقول شيئا عن الدّين، مثل كثيرين ممن يجدون في الدّين مشجباً لتعليق إعاقاتهم النفسية التي تجيز لهم الرقابة على حياة الآخرين. رغم أن الدين نفسه حرم التلصّص على خصوصيات الآخرين وجعل من الصعب إثبات حصول الزنى، دون إمكانية اقتحام بيوت الآخرين، الذي لن تمكن معرفة ما يفعلون في بيوتهم دون تلصّص.
ربما ستقدم تبريراً قانونياً، لكن أي قانون هذا الذي يجعل من مواطن عادي شرطياً أخلاقياً على الناس؟ قانون الغاب فقط قد يفعل، قانون غريزة الافتراس الذي يتيح للأقوى الحق في التهام الضعيف الذي يتمثل في من يخرج عن قانون الجماعة، قانون العرف، أو بالأحرى قانون الالتباس بانتهاك العرف.
هذا العدد المتزايد من الأفراد المنشغلين بأخلاق البلاد، مخيف أكثر من الحرب والأوبئة، لأنّه قادر على تحويل كل المصائب الأخرى إلى أمور تافهة. فحين يصبح من حق أي كان إصدار أحكام قيّمة على الآخر، بدعوى الوازع الأخلاقي، يكون الوضع فوضى لا يعرف نتيجتها أحد. عمى أخلاقي لا يميز الضوء من العتمة إلا من رائحة تختلط فيها الأطعمة بالفضلات، المطابخ بالمزابل، كما جاء في رائعة ساراماغو.
قرأت منذ مدة لأحدهم كلاماً يقول فيه إنّ من أوسع مثلياً ضرباً كان على حق، وإنه كان عليه قتله، كما على كل من ضَبط مثليا أن يفعل، حتى يرتدع الآخرون ويكفّوا عن التحول إلى جنس غريب مربك. مع العلم أن هذا الشخص ليس متديناً، بل هو في نظر آخرين متطرفين أكثر منه، عاصٍ آخر يستحقّ الموت لأنه يهدد ثوابتهم.. كما أن كثيراً منهم ليسوا متدينين بل يرفضون بحكم العرف الاجتماعي هذا السلوك "الشاذ" عن عاداتهم، ويعتبرونه تهديداً لتركيبة المجتمع التي تجمع عنصرين فقط "الرجل والمرأة". استطاع العرف والعادات أن يقسما دوريهما بشكل لا يمكنه السماح لأي عوامل مستجدة بالتأثير عليه، أو إضافة عنصر ثالث لا يعرف المجتمع كيفية التعامل معه.
هكذا يبرز الإنسان وحده كعدو للإنسان. فهو وحده القادر على إبادته لأتفه الأسباب، أو لأهم الأسباب على الإطلاق، مانحاً نفسه مقعد القاضي والجلاد والخصم، في عمى الأنا عن إدراك حق الآخر في التنفس بحرية وفق رؤيته هو...
بعد تجاوز خبر الشاب ضحية العرف، وجدت خبر انتحار فتاة اغتُصبت بوحشية من وحوش ثمانية، لابتزازها من طرف مغتصبيها عبر فيديو يصور عملية الاغتصاب البشعة. وبدلاً من أن يكون الفيديو دليلاً على الجناة، كان سيفاً قاتلا للضحية، ولم تؤدِ الشكوى التي قدمتها إلى الشرطة إلى إدانتهم، فتم إطلاق سراحهم. لكن في أي قانون يتمّ ذلك؟ وهل يجوز لأي سلطة قضائية أو أمنية غض النظر عن جريمةح فادحة كهذه؟ وما نفع إعادة النظر في القضية بعد أن خسرت خديجة كل شيء؟ وخسرنا احترامنا أمام أنفسنا حين لا نفعل شيئا لئلا يتكرر مثل هذا لاحقاً.
بعد إعادة المحكمة النظر في التهم الموجهة لستة من الجناة الثمانية، جاء الحكم غريباً وغير مفهوم، 6 سنوات سجن لثبوت تهم "التهديد للحصول على مبلغ من المال، وصنع أفلام خليعة، وأشياء منافية للآداب العامة قصد التوزيع، في حق قاصر". وماذا عن الاغتصاب؟ ألا يثبته الفيديو؟ ماذا يلزم لتقتنع المحكمة بثبوت الجريمة؟ حتى لو لم يبدِ الفيديو آثار عنف، يكفي أن تخاف المسكينة من ثمانية وحوش حتى تتوقف عن المقاومة، فالخوف قادر على شلّ الجسد بحيث يجعله عاجزاً عن الحراك مهما حدث له. التخويف كان وسيلتهم لإكراهها على الاستسلام، والخوف الذي أنتج يأساً قاتلاً بعد تجرؤ الجناة على ابتزازها، وشاهدتهم يفلتون بفعلتهم، كأن شيئا لم يكن، فلم يكن الموت حرقا للجسد الذي أهين وانتهك، سوى احتجاج صارخ على بشاعة هذا المجتمع.
خديجة، كانت تبلغ حين انتحارها 17 عاما، توفي والدها وعمرها 7 سنوات فقط، وانقطعت عن الدراسة في الصف الخامس الابتدائي، وغادرت قريتها إلى مدينة بن جرير وعمرها 14 عاما، من أجل أن تعمل. في حياتها القصيرة، أنجبت خديجة طفلين، بنتاً تبلغ حالياً من العمر عاماً ونصف تمّ تبنّيها، وذكراً توفي قبل مدة عن عمر لا يتجاوز أربعة أشهر، بسبب إرضاعه حليب البقر. وأبَوا الطفلين معاً غير معروفين، كما سبق لها أن عانت سابقا من واقعة اغتصاب أخرى. إنها جرعة من المصائب التي عاشتها خديجة قبل أن تكمل ربيعها السادس عشر الذي تعرضت فيه لواقعة الاغتصاب البشعة. عُذبت خديجة بشدة طوال يومين. وبعدها عانت آثارا صحية طويلة الأمد فكانت تنزف دماً بشكل مستمر، وكان الجرح الذي أصيبت به في رأسها غائراً ولم يشفَ بسهولة. وبالطبع لم تتوقف عن تذكر حادث الاغتصاب في كل لحظة، حتى اهتزت صحتها النفسية بشكل أدى إلى نهايتها.
مع ذلك حاولت بعض أسر الجناة أن تقنعها بالتنازل عن القضية. وحين قدّمت خديجة شكاية لدى الشرطة، اعتقلت المتهمين الثمانية بالاغتصاب، وتمت محاكمتهم، وقضى واحد منهم في السجن بضعة أشهر. ليعودوا لاحقاً ويهددوها بنشر الفيديوهات التي سجّلوها لواقعة الاغتصاب إذا لم تخضع لنزواتهم.
بعد موتها المأساوي، أعادت النيابة العامة فتح ملف الفتاة المنتحرة، وتمّت إدانة المتهم الرئيسي الذي كان فارّاً، بثماني سنوات حبساً نافذاً، فيما أدين ستة آخرون بالابتزاز فقط. عدد حالات الاغتصاب التي لا تجرؤ صاحباتها على التوجه إلى الشرطة أكثر من أن يحصى، وعدد منهنّ ينتحرن من دون أن يخبرن أحداً بذلك، والمجرم يبقى حراً طليقاً.

مقالات من المغرب

أنا وليالي الضّوء في الغابات

لم أتوقف عن الرسم، لأنني تعلّمتُ نقش الحناء بسرعة بعدها، لوجود جمهور متحمس، مع إمكانية الاختراع، وانجذاباً إلى رائحة الحناء، وتدرجات اللون البني على الأصابع والراحات والأكفّ. كنتُ أخترع بنفسي...

للكاتب نفسه

أنا وليالي الضّوء في الغابات

لم أتوقف عن الرسم، لأنني تعلّمتُ نقش الحناء بسرعة بعدها، لوجود جمهور متحمس، مع إمكانية الاختراع، وانجذاباً إلى رائحة الحناء، وتدرجات اللون البني على الأصابع والراحات والأكفّ. كنتُ أخترع بنفسي...

الحرّية للصحافيين والسّجن للصحافة

الصّحافيون الثلاثة الأشهر الذين أُفرج عنهم، أُدخلوا السّجن بتهم جنسية، لا بتهم متعلقة بحرّية الصّحافة أو الرأي، كما هو الواقع. وهي استراتيجية مباشِرة إلى درجة تثير السخرية، لكنها أيضاً لئيمة...