عند التأمل في وضع المجتمع الصهيوني اليوم، لا يمكن النظر إلى القوى الأيديولوجية الدينية واليمينية على أنها طارئة عليه أو نتاج طفرة خارجة عنه، فهي تمثل إحدى مشاربه التاريخية وضروراته كحركة استعمارية توسعية لا تكتفي بحدود جغرافية محددة. أي أن هذه الحركة لا يمكن أن تجلس مكتفية على شاطئ فلسطين المسلوب. وقد قدم بهذا الصدد وزير المالية الإسرائيلي بتسلائل سموتريتش، المنتمي إلى حركة تكوما التابعة للتيار الديني-القومي في الحركة الصهيونية، خطة أطلق عليها خطة الحسم، يحاول فيها رسم منظوره لمعنى الحسم.
لكن، في قلب الأزمة الدائرة داخل دولة الاحتلال أيضًا يدور صراع على العلاقة بين أطراف الدولة ومركزها، أو بالأحرى، صراع حول موقع هذا المركز بالضبط. ففي مقابل القوى الأيديولوجية الدينية واليمينية هناك التيار العلماني اليساري الذي يعتبر أن مركز حياته واستقراره يتمحور في قلب ما يُسمى «دولة تل أبيب الكبرى»، وأن المستوطنات في التلال هي مجرد جزء من الجهود الأمنية لحماية تلك الدولة على الساحل. وهذا يعني وجود قلاع متناثرة على التلال تقوم بدور في حماية المجال الجوي والفضائي لمركز الدولة. ووفقًا لهذه النظرة يصبح المستوطن في الضفة، بالنسبة لنظيره في تل أبيب، جزءًا وظيفيًا من منظومة حماية فضاء تل أبيب الاقتصادي والاجتماعي والثقافي، والاستيلاء على أكبر قدر ممكن من الموارد الاقتصادية. بتعبير آخر، يلعب الوجهُ الدينيّ والأصوليّ القبيح دورًا وظيفيًا في حماية الوجه الليبرالي العلماني المُجمّل.
وهناك تيار «مستوطن الضفة الغربية»، الذي يرى أن مركز المشروع الصهيوني يكون تحديدًا في رفض المركز المستقرّ غير المتغير؛ أي أن مركز المشروع الاستيطاني يكمن على تخوم المستوطنة في حوارة والأغوار وجبل صبيح، وفي حلم العودة إلى مستوطنات سيناء وغزة وجنين، وأيضًا في حلم التمدد نحو الأردن أو أبعد من ذلك.
يمكن القول إذن إن في قلب المسألة فانتازيا حالمة ترافق المجموعات الاستيطانية الفاعلة على اختلاف مشاربها، بأن تكون حركتها وتوسعها في الفضاء حرة ومطلقة ودون عقبات. وفي سعي المجموعات الاستيطانية أيضًا هروب من التناقضات الاقتصادية والاجتماعية والثقافية التي تفرض أنماطًا من الاستقرار على صبغة الدولة ككل وصبغة مجتمعها، أي تلك التيارات الأخرى التي تريد القليل من الركود والاسترخاء.
في كتابه «ديمومة المسألة الفلسطينية»، يشير جوزيف مسعد إلى الحلم الصهيوني الذي رسمه هرتزل، والذي يتمثل في رغبته تحويل اليهودي الذي يعيش في أوروبا والذي يُنظَر إليه بوصفه «اليهودي الآسيوي»، أي اليهودي غير المرغوب فيه من الأوروبيين البيض، إلى الأوروبي الذي يعيش على حافة آسيا، ما يجعل منهم هؤلاء امتدادًا ثقافيًا وحضاريًا لأوروبا في الشرق.
في مرحلة تاريخية معينة، أعلنت الحركة الصهيونية أنها تمثل «فيلّا» محاطة ببحر من «البرابرة»، وكأنها جزء صغير من أوروبا وسط عالم عربي يعتبرونه متخلفًا. في هذا التصور، تبدو الفيلا مستقرة وغير متحركة، تدافع عن نفسها وعن موقعها. حتى عندما تقوم بالاحتلال، كما في الجولان وسيناء، فإنها تبرر ذلك بالحاجة أو الاستعداد لتبادل الأراضي من أجل السلام. بينما ترى الحركة النشطة داخل دولة الاحتلال في التوسع أساسًا لبقاء الدولة، وتُحوّل الأراضي التي تحتلها إلى أملاك يهودية. وبالتالي، الرغبة هنا ليست فقط في الاحتفاظ بالفيلا، ولكن في إمكانية بناء فيلا أخرى في المستقبل، إذ إن هناك دومًا فيلا مؤجلة لم تُبنَ بعد.
وفي هذا الصدد، لم تكن للحركة الصهيونية حدود أبدًا. فالحدود التي نشأت كانت نتيجة للمعركة على فلسطين وتعبيرًا عن قوة «إسرائيل» العسكرية والديموغرافية والاقتصادية، بما في ذلك حاجتها للموارد الاقتصادية الهامة مثل المياه والأرض، وكل ذلك في سياق مقاومة أهل البلاد السياسية والعسكرية والثقافية لهذا التوغل. كل حدٍّ في نهاية الأمر مؤقت، ولكن في حالة دولة الاحتلال فالحدود مؤقتة حتمًا، ويمكن لها ببساطة أن تمتد حيثما توجد فرصة لامتدادها. لهذا، لا يمكن تخيل دولة تعيش بسلام كامل مع جيرانها، حتى لو أراد الفلسطينيون التخلي عن فلسطين وعن هويتهم الوطنية، سنجد حركات استيطانية نشطة تبزغ من مشارب فكرية متعددة تحاول إيجاد منفذ جديد للتوسع. المركز في هذا المشروع سيبقى دومًا على الحد، وبعد كل «حسم» مزعوم، سنجده بحاجة لحسم جديد.
وأكثر ما يُجسد هذا الصراع بين هذين الرؤيتين هو الجدار الفاصل الذي يلعب دورًا في الحد من حرية حركة الفلسطيني في بلاده، ولكنه يرمز كذلك للانفصال النفسي بين عمق المستوطنة وأطرافها، بين دولة تل أبيب ومنظومة حمايتها، بين التخوم والعمق. وكأنما أتى الجدار ليفصل هذين التصورين عن بعضهما مشكّلًا مجازًا لهذا البعد السياسي بين الأطراف والمركز. لهذا نجد أن قتال اليمين في غالبيته يدور حول أهمية حسم الصراع في فلسطين، كل فلسطين، بما فيها النقب والجليل واللد ويافا والمثلث والضفة وحتى في غزة، ولكنه أيضًا يدور في فلك أن أيّ حسم لا يمكن له أن يتبلور دون أن تعمق دولة اليهود علاقتها مع الدين اليهودي.
تجربة الاستيطان: الهروب من الرتابة
يمكن القول إن الاستعمار، بشكل عام، محاولة لبناء المعنى الأصيل المرتبط بأبجديات القوة والسيطرة. وفي قلب تجربة الاستيطان يكمن إدمان البحث عن المعنى وإمكانية الهروب من رتابة ضيق القوانين والحياة الاقتصادية المرتبطة بالاستهلاك والوظيفة. وبكلمات أخرى، يمكّن الاستيطان المستوطنين من الخروج من رتابة وظائفهم في المكاتب المملة، والذهاب نحو التلة القريبة وحمل السلاح والتجول وضرب وإحراق وقتل العرب.
ويظهر هذا السعي للتخلص من الرتابة من خلال التحركات والتوسع الأفقي، وسعي شباب التلال للتجوال على القمم والاقتراب من الماشية والخيم البدوية والبلدات الفلسطينية، واحتلال مواقع ونقاط جغرافية جديدة. هناك، أيضًا، نوع من الهروب من اقتصاد رأسمالي وحداثة علمانية تُظهر المجتمع الصهيوني كمجموعة من الأفراد المرهقين بالعمل، ومن الملل الناجم عن الروتين اليومي.
لم أكن مقتنعًا ابدًا أن البعد الديني لهذه الحركات هو الأهم، خاصة فيما يتعلق بمحركات الاستعمار والتوسع. بمعنى أن حمل السلاح والقتل وإحقاق سيادة المستعمر وتدمير سيادة الفلسطيني هو الطريقة لتحصيل تجربة دينية إيمانية، وليس العكس. ليس الدين والتوراة ما يحرّك المستوطن، بل هذه التجربة الشعورية التي تحرره من سياط اقتصادات الاستهلاك والوظيفة والحياة المملة. وكأنما الاستعمار أيضًا عارض من عوارض التناقضات الاقتصادية والاجتماعية التي تدفع المستوطن لبناء معجم سيطرة وتحكم يستند إلى لغة القوة العارية. وقد التقط الفلسطيني هذا البُعد من التجربة الاستيطانية وأطلق على ممارسات المستوطنين مفهوم «العربدة». ففي العربدة أذية غير منطقية، أو أذية مفتعلة هدفها الأذية نفسها. وكأنما المتعة تكمن أساسًا في قدرة المستوطن على الايذاء، وفي انتشائه لحظة فعله. وبهذا المعنى، تأتي اللغة الرمزية الدينية أو السياسية أو الأمنية فقط لتقدم الإيذاء ضمن منطق رمزي أو ثقافي أو سياسي.
في العديد من الأفلام والروايات التي تناولت التجربة الشعورية للمستوطن ظهر تقاطع مع هذه الثيمة، مثل رواية «قلب الظلام» للروائي البولندي جوزيف كونراد، أو فيلم فيرنر هيرزوغ «أغوير، غضب الله». هناك دوما شخصيات رئيسة تجذبها وتُغريها تلك التجربة الحسية والشعورية بأن تكون السيد وتحظى بالقوة، تسحرها رحلات البحث عن الذهب، والقوة، وتوغلها في عمق المستعمرات في أفريقيا أو جنوب أمريكا باحثة عن «الحسم» والخلاص. وفي كل من تلك القصص وشخصياتها هناك انحطاط مستمر، وفقدان للأخلاق، وهوس في البحث عن «المدينة الفاضلة» أو الخلاص الديني. الإشكال الكبير أن المستعمر لا يجده ابدًا، وبالتالي تبدو المدينة الفاضلة أو تظهر دومًا مشروعًا مؤجلًا.
بقية المقال على موقع "حبر".