تراجيديا العراق بحاجة إلى جفاف المياه على ما يبدو، وهناك نبتة قادرة على تنفيذ سيناريو مخيف كهذا. وهناك حكومة بحاجة إلى مَنْ يحلّ أزماتها هي قبل اكتسابها مهارات حل الأزمات، وهناك ضائقة مالية وفّرت مبرراً جاهزاً لكل إخفاق وعجز عن أداء الواجبات.. وهناك في المقابل شبّان متحمّسون يرون أن الاعتماد على أنفسهم في إنقاذ البلد من كل كارثة تعصف به أفضل وأجدى من تعليق الآمال على جدران دولة متصدّعة. كلّ تلك المظاهر اختلطت ببعضها البعض لتنتج تساؤلات ظلت تبحث عن أجوبة ابتلعتها واحدة من أخطر المشكلات التي تهدّد الحياة المائية في العراق.
الخضرة والوجه القبيح
"إيكهورنيا" أو "زهرة النيل".. نبتة تُخفي خلف خضرتها الزاهية المترامية فوق سطوح المياه وجهاً متوحشاً لا شغل له سوى الإجهاز على الماء وما بداخله من حياة. سميت إيكهورنيا ــ وهو الاسم الرسمي لها ــ تكريماً لوزير بروسي عاش في أواسط القرن التاسع عشر اسم عائلته إيكهورن، وسميت "زهرة النيل" ــ وهو الاسم العربي الشائع لها ــ لسعة انتشارها في حوض النيل على الرغم من أن موطنها الأصلي أميركا الجنوبية. دخلت إلى العراق كنبتة زينة قادمة من مصر في ثمانينيات القرن الماضي ــ يُقال إنه قد جيء بها لتزيين البحيرات والنوافير في قصور صدّام حسين ــ وسرعان ما انتشرت في المياه العراقية، فكافحتها السلطات في حينها بطرق لم تقض عليها نهائياً، لذا اختفت زمناً ثم عادت إلى الظهور قبل سنوات قليلة، لكن عودتها لم تجلب الانتباه إلا قبل شهر ونيّف.
أخطر ما في النبتة أنّ كل واحدة منها تستهلك من ثلاثة إلى أربعة ليترات من المياه يومياً، ترافق ذلك سرعة هائلة في تكاثرها (البذرة الواحدة للنبتة قادرة على إخراج ألف زهرة)، كما أنها تمتص كميات كبيرة من الأوكسجين المذاب في الماء، ما يؤدي إلى نفوق الأسماك وبقية الأحياء المائية، فضلاً عن تسبّبها بسد القنوات الملاحية وعرقلة حركة السفن والزوارق في الممرات المائية وغلق النواظم. كل تلك المصائب حلّت على مياه العراق الذي يواجه بالأساس تهديدات مائية بفعل سياسات تركيا التي يأتي منها نهرا دجلة والفرات، وسياسات إيران التي تأتي منها أنهار صغيرة وروافد.
تسليط الضوء
يبدو أنّ وزير الموارد المائية الذي عُيّن في منصبه كأحد الوزراء "التكنوقراط" في منتصف آب الماضي هو من أثار هذا الموضوع داخل مجلس الوزراء. فبعد 15 يوماً من تعيينه، جاء ضمن قرارات المجلس، التي تُنشر عقب كل جلسة يعقدها، العبارة التالية: "وافق مجلس الوزراء على إطلاق تخصيص مبلغ مالي لإزالة ومعالجة زهرة النيل ضمن حوض دجلة والفرات وما حولها واستمرار الجهد الآلي لحماية هور أبو زرك".
هذا كل ما نطقت به الحكومة عن هذه الكارثة في حينها. لكنّ الوزير ظلّ ينشر على صفحته الشخصية في "فيسبوك" منشورات يحذّر فيها من خطورة النبتة، كان أولها في الثاني من أيلول، حيث تحدّث عن الكارثة وحجم انتشارها، وقال إنّ وزارته شكلت فرقة عمل "عالية المستوى" برئاسته وخصصت أكثر من 100 آلية لإيقاف زحف النبتة نحو الأهواز ومياه الجنوب. كما قال إنّ "مجلس الوزراء استجاب لطلبنا بتخصيص موارد مالية تكفي لإيقاف الانتشار خلال الشهرين أو الثلاثة المقبلين"، وتطرق أيضاً إلى تعاون وزارات أخرى مع وزارته لمكافحة النبتة.
بعد عشرة أيام، كتب الوزير منشوراً دعا فيه إلى تدخل شعبي تطوّعي لمكافحة النبتة "يدوياً" بعد أن انتهت فاعلية الآليات عند حافات الأهوار. وراح بعض الناشطين على فيسبوك يشاركون منشور الوزير ويحثون الناس على الاستجابة، حتى تناهى الأمر إلى مسامع زعيم التيار الصدري، فدعا هو الآخر إلى مساندة وزارة الموارد المائية في هذه الأزمة. لبّى مئات الشبان في مختلف المناطق من أتباع الصدر وغيره تلك الدعوات، خلعوا ثيابهم ونزلوا إلى المياه وبدأوا باقتلاع النبتة بأيديهم.. ولم يفوّتوا بالطبع فرصة التقاط صور بهجتهم بالمساهمة في درء الخطر عن بلدهم ونشرها على فيسبوك. هكذا تحوّلت الكارثة إلى موجة فيسبوك زخرت بالحماس الجماهيري المعروف بقصر عمره.
يقول الوزير إنّ الأولوية حالياً هي لإيقاف زحف النبتة التي كانت مقتصرة على نهر دجلة لسنوات وانتقلت مؤخراً إلى الفرات في محافظات النجف وكربلاء والديوانية والمثنى، ومن ثم مناقشة سبل القضاء عليها علمياً ونهائياً، وهذا ما يستدعي الاستعانة بالجماهير والتعامل مع الأزمة بوسائل آنية. بيد أنّه لم يعلن حتى الآن عن نتائج واضحة لعمل المتطوّعين، وذكر أنّ بعض المواقع تمّ تطهيرها، لكنّه مستمرّ أيضاً بتأكيد وجود الإصابة في مساحات واسعة بضمنها مبازل لمياه الصرف الصحي، الأمر الذي يمنع تدخل المتطوّعين من أجل تعويض الإمكانيات الحكومية الضعيفة.
احتمالات وترقب
تشير تقارير صحافية إلى أنّ النبتة غطّت حتى العام الحالي مساحة تقدر بـ20 مليون متر مربع في نهري دجلة والفرات ابتداءً من سدة سامراء (شمال بغداد) وصولاً إلى هور "أبو زَرَك" ضمن محافظة ذي قار الجنوبية، فيما توضح أن 15 في المئة من تلك المساحة تمّت معالجتها. إذا صحت تلك التقارير، فإنّ ما يقارب 15 مليون متر مربع من المساحات المائية في العراق ما زالت معرضة لمخاطر الآفة.
بعد مرور أكثر من شهر على إثارة القضية، اجتمعت لجنة الطاقة الوزارية برئاسة رئيس الوزراء واتّخذت قراراً ــ من بين قرارات أخرى تخصّ مواضيع متعددة ــ بتخصيص 450 مليون دينار عراقي (نحو 380 ألف دولار أميركي) لمكافحة النبتة، فيما أعلنت وزارة التعليم العالي والبحث العلمي تشكيل غرفة عمليات خاصة لوضع حلول سريعة تُنهي وجود النبتة في العراق. قد ترى الجهات الحكومية نفسها غير ملزمة بطرح رؤاها وخططها لمكافحة النبتة بشكل تفصيلي أمام الرأي العام، أو أنّها لا تملك حقّاً غير هذا الأسلوب المشابه للمزاح الذي تتبعه في مواجهة الأزمة.. لذا يبقى الترقب الخيار الوحيد أمام مَن يخشى امتصاص مياه دجلة والفرات من قبل الوحش النباتي هذا.