المتجولون الجدد... السفر على "باب الله"

شبابٌ بين العشرين والثلاثين، يحملون على ظهورهم حقائب ظهر ثقيلة تحوي ضروريات الحياة: كيس النوم وبضعة أشياء صغيرة، حسب قدرتهم على الحمل وعلى الاقتناء. وهو لا شك مشهد معتاد في أوروبا وأمريكا وآسيا، لكنه جديد في المجتمع المغربي ويتميّز بشكل آخر، هو أنّ بعض هؤلاء يبحث عن قوت يومه في الأماكن التي يزورها.
2023-08-31

عائشة بلحاج

صحافية وباحثة في حقوق الإنسان، من المغرب


شارك
مريم بلكيحل المتجولة المغربية في افريقيا

كان لا بد من غاية تقود القوم إذا ضربوا في الأرض قديماً، إما بحثاً عن الرّزق أو هروباً من بطش. كما جاء في الآية القرآنية "وَإِذَا ضَرَبْتُمْ فِي الأَرْضِ...". وطبعاً مرّ على الأرض الباحثون عن وطن خصب، لاستيطانٍ مؤقت أو دائم، ومرّ المغامرون والرّحالة الذين يريدون رؤية واكتشاف العالم... والآن جاء المتجوّلون الجدد، أو جَوّابو الآفاق، الذين يكتفون باكتشاف ما حولهم، إن لم يستطيعوا ركوب البحر أو السماء.

هم شبابٌ بين العشرين والثلاثين، يحملون على ظهورهم حقائب ظهر ثقيلة تحوي ضروريات الحياة: كيس النوم وبضعة أشياء صغيرة، حسب قدرتهم على الحمل وعلى الاقتناء. وهو لا شك مشهد معتاد في أوروبا وأمريكا وآسيا، لكنه جديد في المجتمع المغربي ويتميّز بشكل آخر، هو أنّ بعض هؤلاء يبحث عن قوت يومه في الأماكن التي يزورها. فيما يسعى آخرون بشدّة لتمويل رحلاتهم بطرق مختلفة، بعضها مبتكر، توفر الحاجيات الضّرورية مع الاستغناء عن الكماليات.

مشَي لا يدري له وِجهة

يوثق كثير من هؤلاء الشباب المسافر بهذا الشكل المقتصد، المدفوع بحبّ المغامرة، رحلاته على وسائل التواصل الاجتماعي، وللاستفادة من العائدات التي تقدّمها بعض المنصات. منهم مريم بلكيحل، الشابة المغامرة المسافرة في إفريقيا على متن دراجتها في رحلة تستغرق شهوراً طويلة.

 بعد سنوات من الترحال في الإجازات، عبر قيادة الدراجة أو عبر المشي الجبلي، قررت مريم ترك عملها، والبحث عن طرق لتمويل رحلتها إلى إفريقيا. من بينها بيع قمصان (تيشرت) عليها شعارات تخص مغامرتها، مع الاستعانة بدعم شركة اتصالات للرحلة، وتغطية مكثفة على وسائل التواصل عبر قناتها في يوتيوب، وعلى إنستغرام وفيسبوك. مريم نموذج لفتاة كانت تعيش حياة روتينية، إلى أن وجدت ذاتها في ذلك السفر. فالمشي أو الدراجة لا يكلفان شيئاً، ومن الأكل تكتفي بالبسيط، وبعضه سندويشات التُّونة المعلبة، أو أكلات بسيطة في مطاعم على الطريق. على شاكلة الزهاد، أو رحالة القرون البعيدة الذين كانوا يكتفون من الطعام بالقليل مما يمكنهم حمله.

تحكي مريم في فيديوهاتها حول إفريقيا أنّ كثيرين ممن تجمعها بهم الطرق يدعونها إلى مشاركتهم طعامهم، حتى حرس الحدود الذين تمر على مراكزهم. ويقترحون عليها نصب خيمتها في محيطهم، من أجل ضمان أمنها. لكنها تفضل الاكتفاء بما لديها، معظم الأحيان، وربما تقبل بعض الدعوات في أحيان أخرى. لكن ذلك يحدث حسب تقديرها، لأنها تمتلك نوعاً من الأمان النسبي، بوجود حد أدنى من الإمكانيات، وليس من باب اضطرار المحروم منعدم الحيلة.

قبل ذلك، وقبل التفشي المذهل لـ "السوشيل ميديا" في الحياة اليومية، تحتّم على المشاركين في البرنامج التلفزيوني "Enigma التحدي"، التسابق للوصول نحو وجهاتٍ محددة، بلا مال. ما فرض عليهم إقناع الآخرين باستضافتهم، ومنحهم الطعام والمأوى، إلى أن يصلوا للوجهة النهائية. ربما لم تكن مهمّة صعبة، بسبب وجود الكاميرات لإقناع المضيفين، لكنها بدت أسهل مما يجب وأغرت كثيراً من الشباب على دخول التجربة بعيداً عن الكاميرات.

بعد سنوات من الترحال في الإجازات، عبر قيادة الدراجة أو عبر المشي الجبلي. قررت مريم ترك عملها، والبحث عن طرق لتمويل رحلتها إلى إفريقيا، من بينها بيع قمصان (تيشرت) عليها شعارات تخص مغامرتها، مع الاستعانة بدعم شركة اتصالات للرحلة، وتغطية مكثفة على وسائل التواصل عبر قناتها في يوتيوب، وعلى إنستغرام وفيسبوك.

تحكي مريم في فيديوهاتها حول إفريقيا، أنّ كثيرين ممن تجمعها بهم الطرق يدعونها إلى مشاركة طعامهم، حتى حرس الحدود الذين تمر على مراكزهم. ويقترحون عليها نصب خيمتها في محيطهم، من أجل ضمان أمنها. لكنها معظم الأحيان، تفضل الاكتفاء بما لديها، وربما تقبل بعض الدعوات في أحيان أخرى. 

ثم أتت وسائل التواصل لتحفّز ذلك، هي التي تقدم نماذج لأنواع كثيرة من السّفر، منها هذا النوع، وتشجِّع الشباب على التنقّل بأي طريقة كانت. خاصة أنّهم لن يُعدموا محسنين، في حالة نفاذ المال واستمرار الرحلة. فبعض الناس ترقّ قلوبهم ولو مرة لعابري السبيل، الذين يجدون في الدِين توصية عليهم، رغم عبثية سلوك السفر المتسكّع في نظر الإنسان العادي الذي ينفر مما هو خارج عن المألوف، وينظر إلى من يطلب من الآخرين قوت يومه لتمويل رحلة، نظرة غير سارة.

 إنّما لماذا يتوق هؤلاء الشباب إلى السفر لدرجة أنه قادر على مدّ اليد إلى الناس، بسبب حاجة قد يراها البعض غير ضرورية، للسفر والتجوال في غياب الموارد المطلوبة لذلك؟ لربما يغريه مكان على الاستقرار فيه، وربما يجد فرصة حياة فيه... كل شيء ممكن حالما يغادر المرء عتبة باب بيته.

السفر ولو على القدمين

يختلف الجوّالون عن عابري السّبيل الذين يلجون إلى المدن لا يحملون شيئاً، ولا يعتمدون إلّا على كرم أهلها. وكان المسجد المكان الأمثل لإيجاد أُسر كريمة تقبل منحهم الطعام، وربما مبيت ليلة أو اثنتين. لكن ذلك لم يكن يتمّ بالسؤال أو باستعطاف، فقد كان الناس غالباً ما يتعرفون على الغريب بينهم ويسألونه. وربما كان يخبر أحدهم بخَفر، وهو يتكفّل بإيصال المعلومة للآخرين، من الذين عُرفوا بالكرم كشعار يومي، حتى لو كانت أحوالهم المادية بسيطة.

هذه العادات تكاد تنقرض في المدن الآن، ولعلها تحتضر في المدن الصغرى والقرى، على الرغم من أن البعض هناك لا يتردد في دعوة العابرين إلى بيوته، على فقره وحاجته. مرّة كنتُ ضمن مجموعة مشي جبلي، وتأخرتُ عن المجموعة وكان الوقت ليلاً. حين وجدت أول قرية كنتُ متعبة لدرجة لا يمكنني الوقوف فيها، ونبحت الكلاب معلنةً دخول شخص غريب الحي، خرجت النساء ودَعَيْنني للمبيت إلى الصباح، مع أن بيوت السكان لصغرها وبساطتها تجعلك تتساءل محتاراً كيف يعيشون فيها. لم أستطع قبول الدّعوة، وفضّلت انتظار سيارة تحملني لما تبقّى من الطريق.

فبيوت النّاس مجالات حميميّة أفضّل ألا أدخلها إلّا في سياقات أخرى، لا علاقة لها بكوني عابرة سبيل خانتها قدماها. لكن المسافرين على باب الله يعتمدون على هذا بالضبط، كرم إنساني تجاه إنسان لا بيت له في مدن الآخرين. وربما ليس لهم غير ذلك.

بسبب الطابع التّضامني للعائلات، غالباً ما يكون السفر عائلياً، لذا يمثل سفر الشباب والشابات وحدهم، من دون احتضان عائلي من أي نوع، ظاهرة جديدة انتشرت بكثافة. وبعض المغامرين يعملون في المقاهي كنادلين أو في أعمال أخرى، لتغطيَة جزء أساسي من السّفر الحر، الذي يبقى منه جزء "تطفّلي" يقتصر على وسيلة النقل، التي قد يعتمد فيها الجوّالون على لطف السّائقين، لحملهم من مدينة إلى أخرى.

ولعل للسّفر فوائد كثيرة، أهمها شحذ الحواس، واكتساب معارف اجتماعية جديدة، وتوسعة أفق التفكير والتدبير، لكن السّفر بلا موارد على الإطلاق قد ينسف هذه الفوائد، ويُصبح وسيلة لاكتساب عادات أخرى مثل التّطبيع مع العيش في وضعيات غير لائقة.

تجوال حر أو تسوّل مقنع؟

هناك فرق بين نوعين من الشّباب الغريب في المكان، الذي يطلب إحسان المارين. النّوع الأول، يقترب منك قائلاً: "جئت من المدينة الفلانية وانقطعت بي السبل... ساعدوني في توفير بطاقة العودة إلى البيت". هذا النّوع لا يحمل معه شيئاً ويعتمد على قوّة "الآن"، قوة المفاجأة للمطلوب منه، وقوة جملة: "انقطعت بي السبل"، أو "خوك مَقْطوع". هؤلاء السّائلون من المسافرين يحملون فعلاً حقائب ظهر الجوّالين. ويبدو عليهم أنهم مسافرون يطلبون ما يحتاجه أي مسافر. وهم أيضاً ضحايا إغراء السفر، وقلة ذات اليد، لا قلة نخوة النفس.

مرة رقّ قلبي لفتاة في بلدة "تغازوت" البحرية، المعروفة لدى محبّي "الرّكمجة" (ركوب الموج) في العالم (تبعد حوالي 50 كيلومتراً من أغادير جنوب البلاد). وهي من مراكز الجذب الرئيسية للشباب الباحث عن المغامرة. اقتربت مني الفتاة وطلبت أن تكلمني على انفراد. كانت أول تجربة لي أمام هؤلاء المسافرين. استجبتُ لها وابتعدت عن رفاقي. سألتني ثمن وجبة غذاء. منحتها ربما أكبر مبلغ أمنحه لسائل، فعادة لا نمنح السّائلين، حتى كبار السن والعاجزين حقاً، سوى بضعة دراهم. بينما أمام هؤلاء الشباب، نفترض أنّنا أمام أشخاص قد نكون مكانهم، ربّما لن يسألوا كثيراً، ولا نودّ أن نضعهم في مواقف حرجة.

مرّة كنتُ ضمن مجموعة مشي جبلي، وتأخرتُ عن المجموعة وكان الوقت ليلاً. حين وجدت أول قرية كنتُ متعبة لدرجة لا يمكنني الوقوف فيها، ونبحت الكلاب معلنةً دخول شخص غريب الحي، خرجت النساء ودَعَيْنني للمبيت إلى الصباح، مع أن بيوتهم لصغرها وبساطتها تجعلك تتساءل محتاراً كيف يعيشون فيها.

بعدها تشكل عندي موقف سلبي من الفتاة ورفيقها، الذي كان ينتظر كما رأيتُ بعد عودتها إليه. خاصة وأنّني وجدت في الفندق الذي نزلت فيه أن معلّم اليوغا (إحدى الخدمات الشائعة في جميع فنادق البلدة)، هو شاب إيرلندي يعمل مقابل إقامته لسنة في البلدة. ولأنّ ساعات العمل محدودة، فإنه يستغل بقية اليوم في فعل ما يحب. بعض المغامرين يعملون في المقاهي كنادلين أو في أعمال أخرى، لتغطيَة جزء أساسي من السّفر الحر، الذي يبقى منه جزء "تطفّلي" يقتصر على وسيلة النقل، التي قد يعتمد فيها الجوالون على لطف السّائقين، لحملهم من مدينة إلى أخرى. لكنهم قلّة الذين يُركبون غرباء معهم في البلاد، إذ مع تراجع الثقة، وكثرة اللّصوص، نادراً ما يقف سائق لمن انقطعت بهم السبل.

حيرة المأوى وقلة ما في الجيب وما في الغيب

بعد تجربة الفتاة وصديقها، تكرر لقائي بهؤلاء الشباب الذين غالباً ما يرتحلون في ثنائيات: شابان، أو شاب وفتاة. وعلى الرغم من تزايد مآوي الشباب التي تتوجه إلى فئة الشباب المسافر بميزانية خفيفة الوزن، لكن هؤلاء لا يستفيدون من شبكة الإقامة الرخيصة، لأنهم يتجولون بلا ميزانية على الإطلاق. وعلى الرغم من أنك لن تلتقي بهم كل يوم، ولكنك ستفعل كثيراً، مقابل غرابة الفكرة قبل سنوات قليلة، وغالباً في مدن سياحية. أما نصب الخيم ففيه مخاطرة لأنّها ممنوعة، وسرعان ما سيقف عليهم شرطي أو رجل سلطة، على عكس لو اختاروا النوم على الأرض بلا خيمة.

من جهة أخرى، ما يجعل الظاهرة جديرة بالانتباه، أننا في مجتمع تضامني يقوم على الاحتضان العائلي، فمن يملك قريباً في مدينة يحل ضيفاً عليها، يطرق باب القريب، الذي يجد نفسه مجبراً على استضافته، إكراماً للروابط العائلية وحرجاً أيضاً. وبسبب الطابع التّضامني للعائلات، غالباً ما يكون السفر عائلياً، لذا يمثل سفر الشباب والشابات وحدهم، من دون احتضان عائلي من أي نوع، ظاهرة جديدة انتشرت بكثافة، وأغرت حتى الذين لا يملكون تكاليف السفر الكثيرة. مع العلم أننا نفتقد فرص العمل قليلة السّاعات، التي تتيح لهؤلاء العمل في الأماكن التي تحتضنهم لبعض الوقت. ربما قد يضع البعض سؤال هؤلاء المسافرين في لائحة أنواع "التسول"، ما يجعلنا نتساءل هل السفر حقاً من الكماليات أو من الضرورات؟ وهل يجوز أن نسافر بأي شكل وبأي ثمن، أو نَلزم بيوتنا آمنين في غياب المال كما يفعل العدد الأكبر من الناس، وبالتالي نخسر ما يوجد هناك خارج البيت والأمان؟ 

مقالات من المغرب

أنا وليالي الضّوء في الغابات

لم أتوقف عن الرسم، لأنني تعلّمتُ نقش الحناء بسرعة بعدها، لوجود جمهور متحمس، مع إمكانية الاختراع، وانجذاباً إلى رائحة الحناء، وتدرجات اللون البني على الأصابع والراحات والأكفّ. كنتُ أخترع بنفسي...

الحرّية للصحافيين والسّجن للصحافة

الصّحافيون الثلاثة الأشهر الذين أُفرج عنهم، أُدخلوا السّجن بتهم جنسية، لا بتهم متعلقة بحرّية الصّحافة أو الرأي، كما هو الواقع. وهي استراتيجية مباشِرة إلى درجة تثير السخرية، لكنها أيضاً لئيمة...

للكاتب نفسه

أنا وليالي الضّوء في الغابات

لم أتوقف عن الرسم، لأنني تعلّمتُ نقش الحناء بسرعة بعدها، لوجود جمهور متحمس، مع إمكانية الاختراع، وانجذاباً إلى رائحة الحناء، وتدرجات اللون البني على الأصابع والراحات والأكفّ. كنتُ أخترع بنفسي...

الحرّية للصحافيين والسّجن للصحافة

الصّحافيون الثلاثة الأشهر الذين أُفرج عنهم، أُدخلوا السّجن بتهم جنسية، لا بتهم متعلقة بحرّية الصّحافة أو الرأي، كما هو الواقع. وهي استراتيجية مباشِرة إلى درجة تثير السخرية، لكنها أيضاً لئيمة...