وقائع جريمة قتل صناعة التعدين في مصر

حين جاء "السيسي" إلى منصب رئيس الجمهورية منذ ما يزيد على عامين، كان مدعوماً بوعود وأحلام وردية تنبئ بنهضة اقتصادية بشّرت الملايين من مؤيديه بأنهار اللبن والعسل التي ستجري في شوارع مصر، من خلال استفاقة اقتصادية استثمارية عملاقة تُعوِّض المواطنين عن سنين طويلة من التراجع الاقتصادي
2016-10-07

أحمد مدحت

باحث من مصر


شارك
عمال المناجم في المنيا (تصوير: محمد علي الدين لـ"ناشونال جيوغرافيك")
حين جاء "السيسي" إلى منصب رئيس الجمهورية منذ ما يزيد على عامين، كان مدعوماً بوعود وأحلام وردية تنبئ بنهضة اقتصادية بشّرت الملايين من مؤيديه بأنهار اللبن والعسل التي ستجري في شوارع مصر، من خلال استفاقة اقتصادية استثمارية عملاقة تُعوِّض المواطنين عن سنين طويلة من التراجع الاقتصادي، خاصة أن وتيرة هذا الانهيار تصاعدت عقب اندلاع "ثورة يناير 2011" وما صاحبها من تراجع في إيرادات قطاع السياحة، وانهيار لقطاع الاستثمار بسبب غياب الاستقرار السياسي وشيوع حالة الانفلات الأمني متذبذبة الوتيرة، على مدار السنوات الخمس الماضية.
لكن الواقع جاء مغايرًا تماماً للأحلام والبروباغندا الإعلامية تلك. فقد انهار سعر صرف الجنيه المصري في مقابل الدولار الأميركي، وتراجعت إيرادات قناة السويس، على الرغم من مشروع حفر تفريعة القناة الذي تم الترويج له كوسيلة لتحقيق طفرة إيجابية في إيراداتها.. كل هذا جاء مصحوباً بالانهيار المضطرد لقطاع السياحة خاصة عقب حادثة سقوط الطائرة الروسية.. فكانت النتيجة لجوء الحكومة المصرية للاقتراض والمزيد منه باستمرار، ما صاحبه ارتفاع أسعار معظم السلع والمنتجات والخدمات واستقرار أزمة اقتصادية طاحنة.
فهل تسعى الدولة المصرية للخروج من هذه الأزمة وتشجع الاستثمار لرفع معدلات التنمية؟ بالنظر لما حدث خلال العامين الماضيين لصناعة التعدين في مصر من قتل عمد، خططت له وتنفذه الدولة المصرية.. يبدو أن الجواب هو النفي. ففي 9 كانون الأول/ ديسمبر 2014، أصدر السيسي قراراً بقانون، في ظل عدم وجود سُلطة تشريعية حينئذ، سُمي بـ "قانون الثروة المعدنية"، والذي يختص بإعادة تنظيم الأمور الخاصة بصناعة التعدين والعمل في المناجم والمحاجر في مصر.. قال عنه رئيس الهيئة العامة للثروة المعدنية في تصريحات صحفية أنه "أفضل قانون للثروة المعدنية، وكان قد تم الانتهاء منه في 2010، وعندما قامت المؤامرة في 25 يناير فتوقف الأمر، إلى أن جاء الاحتلال الإخواني وحصلت قيادات الجماعة على نسخة من القانون وشوهوا معالمه، حتى قامت ثورة 30 يونيو وعدلت الأوضاع".. أي هو قانون من إرث السياسات الاقتصادية لنظام مبارك.

أزهى عصور الجباية

جاء القانون مصحوباً بمعارضة صريحة من نقابة العاملين بالمناجم والمحاجر، ورفض للكثير من مواده لأنها ترفع الأعباء على المستثمرين الذين من المُفترض أن يقوموا بأعمال التعدين بعد دفع إيجار للدولة، نظير استفادتهم من المحاجر والمناجم. ولكنّ القانون فرض رسوماً مضاعفة على المستثمرين، واستهدف تحصيل مبالغ خيالية منهم لا تتناسب مع الواقع والمتاح على الأرض، وذلك عبر:
- رفع قيمة إيجارات المحاجر لما يقارب 300 أو 400 في المئة من قيمة الإيجارات التي كان يتم العمل على أساسها قبل العام 2014. المحجر الذي كان إيجاره السنوي 30 ألف جنيه، صار إيجاره في ظل القانون الحالي يصل إلى 130 ألف جنيه، وأحياناً 250 ألف جنيه بعد إضافة العمولات والرشى التي يجب أن يدفعها المستثمر ليحصل على تجديد رخصة إيجار المحجر أو المنجم، أو لإصدار رخصة لو كان جديداً على المجال.
- أصبح للدولة، طبقاً للقانون الجديد، سُلطة الإشراف الفني على عمل المحاجر والمناجم مما أدى لعرقلة سير العمل. ففي ظل شيوع الفساد في الجهاز الحكومي المصري تضاعفت الرشى لتسيير أمور العمل وتجنّب وضع العراقيل. والأمر الواقع يقول إنّ توكيل هذه السُلطة لجهاز حكومي يعني فتح باب الفساد على مصراعيه، في ظل غياب أي رقابة فعلية على أداء موظفي الحكومة.
..هكذا أغلقت 75 في المئة من المناجم والمحاجر أبوابها، لعدم قدرة المستثمرين على الوفاء بما يتطلبه الواقع الجديد من أموال في سبيل استكمال أعمالهم، وترتب عن انعدام استقرار العمل امتناع كل العاملين في المحاجر ــ إلا بعض الاستثناءات ــ عن التوقيع على إيصالات استلام رواتبهم، أو التوقيع على عقود عمل رسمية تكفل لهم رعاية صحية واجتماعية، فمعظمهم يسعون للحصول على وظيفة حكومية، ويخشون من أن وجود عقد عمل رسمي مع القطاع الخاص، وتأمين صحي واجتماعي لهم، سوف يضيع من أيديهم فرصة "الوظيفة الميري".. والنتيجة أن مستأجري المناجم والمحاجر لا يمتلكون سجلات رسمية تثبت عدد العاملين لديهم، ولا الرواتب التي يتقاضونها، فأصبح المستثمر لا يستطيع تقديم مستندات تسجيل لمصروفاته.. فارتفعت تقديرات الضرائب الجزافية عليهم بنسب تتراوح من 20 إلى 60 في المئة من قيمة الأرباح.
وكل هذا يتم في ظل وقائع تؤكد ميل الدولة لإسناد تأجير المحاجر والمناجم لشركات معينة مملوكة لضباط جيش متقاعدين وهو سبب التضييق على المستثمرين العاديين.

ضحايا لا ذنب لهم..

أثناء التجوال في منطقة "إسنا" الواقعة في نطاق محافظة الأقصر في جنوب مصر، تظهر وجوه الآلاف من الرجال الذين يعيشون بصحبة أسرهم تحت خط الفقر. وجوه لا تختلف كثيراً عن وجوه إخوانهم من أهل دلتا مصر، الذين يموت أبناؤهم غرقاً في مياه البحر المتوسط حالمين بالخلاص عبر رحلات الهجرة غير الشرعية. فالفقر يجعل كل الملامح متشابهة، فقط في الصعيد تزداد البشرة سُمرة، ويزداد الفقر توحشاً، وتزداد سُبل الحياة ضيقاً فوق ضيقها.
قرابة خمسة آلاف عامل من أهل "إسنا" كانوا يعملون في محاجر محافظة أسوان.. محمد، الشاب ذو الثلاثين عاماً، الذي تزوج منذ حوالي تسعة أشهر يجلس في مقهى متواضع للغاية عقب إغلاق المحجر الذي كان يعمل فيه منذ سبع سنوات. يتحدث عن مستقبله المبهم بنبرات حزينة يغلب عليها الخوف من المجهول، وعن زوجته التي لا يعرف كيف سينفق عليها الآن، وعن أبناء لم يأتوا بعد.
ربما يفعل محمد مثل البعض من زملائه المطرودين من عملهم في المحاجر، ويضطر للعمل في أعمال البناء والتشييد، أو كما يسميه المصريون "الفاعل"، في حمل ونقل الطوب والزلط والأخشاب والأسمنت، وهو خيرٌ من الموت جوعاً. الحكومة تعلن أنها تستهدف خلق سوق اقتصادي ليبرالي حر، بينما الواقع على الأرض يقول إنها تعود بسوق الاستثمار إلى عصور الجباية بمعناها البدائي.

 

مقالات من مصر

العاصمة المصرية في مفترق طرق..

رباب عزام 2024-11-21

على الرغم من الأهمية الاقتصادية والثقافية والاجتماعية، بالنسبة إلى المواطنين، للمنشآت والمباني المقامة حالياً على أراضي "طرح النهر"، خاصة في العاصمة القاهرة، إذ يشمل أغلبها كثيراً من الأندية الاجتماعية التابعة...

للكاتب نفسه

الفساد في مصر.. صناعة الدولة

أحمد مدحت 2015-12-24

عجز نظام السيسي عن تحقيق معظم وعوده للشعب المصري، وأهمها اتخاذ خطوات جادة لتحسين الأوضاع الاقتصادية، وضبط الأسعار، والقضاء على الجماعات الإرهابية المنتشرة في شبه جزيرة سيناء. ولدرء هذه الخيبة،...