تعود تسمية "المُسَفِّلة" إلى مهنة التَّسفيل"، وهي في المحكية اليمنية "اصطلاح يُطلق على أي عجوز تدّعي أنها تُسفِّل، أي تنزِل في أثناء النوم إلى الموتى تحت الأرض وتأتي أهلهم بأخبارهم وما بقي في ذممهم وما لهم من مطالب" (1). كما تدّعي أنها تنزل إلى القبر بجسدها لا بروحها فحسب، وهو ادّعاء يحظى بنوعٍ من الحضور في المحكي الشعبي، الذي يتردّد فيه "أن القبر ينشق لها عندما تمسُّه بيدها ثم يلتئم بعد دخولها وينفتح عند خروجها ثم يلتئم، فلا يراها أحد كيف تدخل القبر ومتى، إلا أن كثيرين يشاهدونها بين القبور وحول المقابر" (2).
طقوس خاصة
في المرويات الشعبية، يغلب على نوعية الزيارة التي تقوم بها "المُسَفِّلة" للموتى، أنها زيارةٌ روحية، تقوم بممارستها في حالِ نوم مُخصّصة لذلك، مع طقوس فاعلة في تيسير التّلقّي لتفاصيل الحلم الخاصة بأحوال الموتى.
غذاء اليمنيين المحروس بشواهد القبور
04-04-2019
من هذه الطقوس: طول نوم "المُسَفِّلة"، فقد يمتدّ إلى ثلاث ليالٍ، تكون قد استعدّت لقضائها بما يفي بحاجتها من الزاد. وفيها تتلفّظُ بالعبارة: "تسفّلنا بعد أن نمنا وزدْنا نومنا تسفيل"، مع ذكرها لاسم الميِّت. كما أن من اشتراطات هذه الممارسة ألّا ينام أحدٌ في المكان الذي تنام فيه هذه المرأة، ولا يحاول أحد إيقاظها حتى لا تموت، ولا الاقتراب منها حتى وإن سُمعت صرخاتها، التي تحيل على ما ينالها من تعب وفزع، وهي ترى مشاهد عذاب الموتى وأحوالهم الرهيبة!
بين الاحتراق والعطش
تصفُ "المُسَفِّلة" لأهل المَيّت أحواله التي اطّلعتْ عليها، وهي عادةً ما تكون أحوالاً متصلةً بسلوكياته في حياته من جهة، وبتصرفات أهله بعد وفاته من جهة أخرى. من ذلك مثلاً، أن تخبرهم أنها رأته في حالِ عُري، أو شاهدته في ثياب ممزقة أو عليها آثار حريق. فتعني لهم هذه الحال أنهم لم يتصدقوا بثيابه بعد، أو أنهم تصدّقوا ببعض منها، فيسارعوا إلى معالجة تقصيرهم في هذا الأمر. أمّا إن كانوا قد فعلوه فور الوفاة، فإنهم يحتارون في تفسير ما جاءتهم به، وإليها يعيدون الأمر، ويستشيرونها فيما يمكنهم فعله. لكنها لا تتسرّع في الرد، وتؤجّله حتى تُعاود زيارة المُتوَفّى، فإن رأتْ تحسناً في أحواله اكتفت بالإشارة عليهم بصب الماء على قبرة لمدة عشرة أيام. أمّا إن رأتْ أحواله قد زادت سوءً، كأن يكون مضطرباً وفي حال عذاب، فإنها تشير عليهم بأن يبحثوا عمّن اقترف في حقه أيَّ نوعٍ من أنواع الظلم وهو على قيد الحياة، والعمل على تسوية الأمر مع صاحب الحق، والتماس عفوه ومسامحته للميّت.
في المرويات الشعبية، يغلب على نوعية الزيارة التي تقوم بها "المُسَفِّلة" للموتى، أنها زيارةٌ روحية، تقوم بممارستها في حالِ نوم مُخصّصة لذلك، مع طقوس فاعلة في تيسير التّلقّي لتفاصيل الحلم الخاصة بأحوال الموتى.
من اشتراطات هذه الممارسة ألّا ينام أحدٌ في المكان الذي تنام فيه هذه المرأة، ولا يحاول أحد إيقاظها حتى لا تموت، ولا الاقتراب منها حتى وإن سُمعت صرخاتها، التي تحيل على ما ينالها من تعب وفزع، وهي ترى مشاهد عذاب الموتى وأحوالهم الرهيبة!
وقد تخبرهم أنها شاهدت الفقيد في حال من الظمأ الشديد، والماء على مقربة منه، لكنه لا يستطيع الوصول إليه. وهنا ينتبهون إلى أنهم لم يقوموا بعملٍ خيريٍّ متّصل به بعد موته. والأقرب تفسيراً لحاله تلك، أنه راغبٌ في أن يقوموا ببناء خزان ماء، في أي مكان يستفيد منه عامة الناس.
شخصية الأطوار الغريبة
التقدّم في العمر واحدٌ من أهم المقومات الرئيسة في شخصية "المُسَفّلة"، فهي خمسينية ـــ أو في سن قريبة من هذه السن - كما أن مهنة "التَّسْفيل" مقصورة على المرأة وحدها، ولا مجال للرجل فيها لما في المرأة من طاقة عاطفية تؤهّلها إلى أن تكون هي الأقرب إلى الثكالى والمحزونين، والأكثر درايةً بما يُعزّي في وفاة عزيز على أهله، وبما يضفي الراحة على روحه في قبره. كما أن في ذلك، ما يحيل على ارتباط هذا التخصيص بأنثروبولوجيا الثقافة الشعبية اليمنية، امتداداً إلى تاريخها القديم، ومرحلته القائمة على "الأمومة"، وعلى الدور الفاعل للمرأة في الحياة الاجتماعية: قائدةً، وكاهنةً، وصاحبةَ أمر مُطاع.
لم تستقر الرؤية الشعبية في توصيفها لما يجب أن تكون عليه شخصية "المسَفّلة"، إذ تتناقض هذه الرؤية بين ربط هذه الشخصية بالخُلِق القويم والسمعة الحسنة، وبين إلحاقها بفئة السحرة والمشعوذين. ولعل ذلك عائد إلى سمة الغرابة الطاغية عليها، غرابة هيئتها: وجهاً، وحركةً، وصوتاً. وغرابة حياتها وتفاصيلها الغامضة: فلا يكاد يظهر اسمها، إذ تطغى عليه صفة هذه المهنة الملتصقة بصاحبته. كما أن علاقتها بجيرانها وبغيرهم شبه معدومة، فهي لا تشاركهم مناسباتهم إلّا في حدود ضيقة، ولا يكون حديثها معهم ولا لقاؤها بهم إلّا مقتضباً وعلى عجالة.
أجرٌ .. وتعاطُف
غالبًا ما تمارس "المُسَفِّلة" عملها من تلقاء نفسها، ونادراً ما تقوم به تلبيةً لطلب من أهل الميّت، لانشغالهم بتداعيات الوفاة وطقوس المأتم التي لا يجدون فيها مساحةً للتفكير في هذه الممارسة.
من "المُسفِّلات" مَنْ تقوم بمهنتها من غير مقابل، ومنهنّ مَنْ يطلبْنَ مِن أهل المُتَوَفّى أجر ما يحملْنه من رسائل متبادلة بينه وبينهم. وهو في العادة مبلغٌ غير محدد، ومتروك لمروءتهم واستطاعتهم، فهي لا تساوم فيه، ولا تستزيد منه، لكنه في كل الأحوال لا بد أن يكون مُرْضياً.
اقتصاد القبر وامتداداته في حياة المغاربة
07-01-2017
وتعوّل "المُسَفِّلة" في نيلها أجرها على ما تمتلكه من خبرة في الحياة الاجتماعية، وقدرة على التمييز بين من يكذّبها فتتجنبه، وبين من يصدّقها فتتصل به، بما في ذلك معرفتُها بمكانة المتوفّى بين أهله. فهي غالباً لا تستهدف أحوال مَن ماتوا في سنٍّ هرِمة. وينصبّ اهتمامها ـــ بشكل رئيس ـــ على أحوال الموت المفاجئ، الذي يداهم شخصاً شاباً، أو شخصاً ما زال في ذروة حيويته وعطائه، للأثر البالغ والحزن القاسي اللذين يتركهما في النفوس هذا النوع من الوفاة، وما يترتب عليه من فاعلية تحفيزية لتداعي الأهل مع هذه المرأة، وتنفيذهم لمقترحاتها، تلك المقترحات التي تحرص على أن تقدمها لهم على مستوىً عالٍ من التماهي مع حالهم الوجدانية، والرفق والإشفاق والتعاطف مع الميّت في لحْده، وكأن ما تصفه لهم من أحواله هو أخبارٌ عن غائبٍ في بلد بعيد، يتلهّفون إلى سماعها.
لم تستقر الرؤية الشعبية في توصيفها لما يجب أن تكون عليه شخصية "المسَفّلة"، إذ تتناقض بين ربط هذه الشخصية بالخُلِق القويم والسمعة الحسنة، وبين إلحاقها بفئة السحرة والمشعوذين.
وكل ما يقوم به أهل المتوَفّى يندرج في سياق اعتبارات تقديرهم له في حياته، وحرصهم على عمل أيّ شيءٍ يليق به بعد وفاته. كما أن لهذا السياق القيمي أثره غير المباشر فيمن لا يؤمنون بهذه الممارسة ولا يصدّقون ما تدّعيه صاحبتها، إذ يتغاضون عن ذلك، ولا يثيرون أدنى نقاشٍ حوله، مراعاةً لخصوصية الحال العاطفية واعتباراتها المتعلقة بالمتوفَّى، وتحاشياً لأن يضعهم موقفهم من هذه الممارسة موضعَ المتحامِل عليه، أو غير المبالي لا بمكانته ولا بما تقومُ به أسرتُه من أعمال تمنح روحه سلاماً وطمأنينة في عالمه الآخر.
1- مطهر علي الإرياني، "المعجم اليمني (أ) في اللغة والتراث، حول مفردات خاصة من اللهجات اليمنية"، دار الفكر، ط1، دمشق، 1417هـ ـ 1996م، ص439.
2- عبد الله البردوني، "الثقافة الشعبية تجارب وأقاويل يمنية"، دار المأمون، ط1، جمهورية مصر العربية، 1988، ص55،54.