آفاق التحرر الفلسطيني بين حربين على العراق

فيما هيّأت الحرب الأولى على العراق الظروف لجلوس العرب على الطاولة نفسها مع الإسرائيليين، فإن الحرب الثانية بعد عقدٍ من الزمن، سرّعت الاعتراف بشرعية إسرائيل ودمجها (أو تسيّدها) في المنظومة الأمنية الاقتصادية للمنطقة في نهاية المطاف. ولعلّ قبول الأنظمة العربية بـ"السلام والتفاوض والاعتراف" في نهاية المطاف كان أعتى الارتدادات الناجمة عن الحربين على العراق، فيما يُحاك الفصل الأخير من هذه العملية في عام 2023.
2023-08-17

رجا الخالدي

باحث في التنمية الاقتصادية الفلسطينية


شارك
| en
"نفَس" - سندس عبد الهادي - العراق. مواد مختلفة على قماش ، 2010

تم انتاج هذا المقال بدعم من مؤسسة روزا لكسمبورغ. يمكن استخدام محتوى المقال أو جزء منه طالما تتم نسبته للمصدر.

مقدّمة: إلى أيّ دركٍ وصلنا؟
لم تكن آفاق التحرر الوطني الفلسطيني يوماً مرتبطة حصراً بالقوّة النسبية لكلّ من الطرفين الفلسطيني والإسرائيلي في الصراع الذي يستعر منذ ما يقارب قرناً من الزّمن. لطالما لجأ الطرفان إلى التحالف مع أو الاعتماد على أطراف خارجية ودول ذات مصلحة سياسية أو استراتيجية في ما يخصّ السؤال العالق: أيّ الشعوب تمتلك أيّ الحقوق في فلسطين؟ فيما منحت القوى الاستعمارية والامبريالية المشروعَ الصهيوني الاستيطاني منذ انطلاقته الدعمَ والتشريعَ والتمويل اللازمِين لاستمراره، كانت فلسطين تجد عمقها الاستراتيجي دائماً بين الشعوب العربية، متجذّراً في مفهوم "الأمة العربية" وقضيتها الأساس فلسطين. من هنا، بدت آفاق التحرر الوطني الفلسطيني أكثر أو أقلّ إمكاناً في مراحلَ مختلفة بحسب مدى وعمق الدعم العربي الرسمي والشعبي.

أتتبّع كيفَ هُشّم واندثر رابط التضامن العربي مع فلسطين - ذاك الذي اعتُبِر وثيقاً - حتّى لم نعد نجد اليوم سوى حفنة من الدول العربية الملتزِمةِ مبادئ العروبة. تبدأ الرواية في بغداد عام 1978، حيثُ سُجّلت لحظة مفصلية شكّلت ذروة العلاقة بين منظمة التحرير الفلسطينية والدول العربية في القمة العربية التي انعقدت تحت عنوان "الصمود والتصدّي"، بالتفاف الدول العربية عقب معاهدة السلام المصرية-الإسرائيلية حول منظمة التحرير التي غدت الممثل الشرعي والوحيد للشعب الفلسطيني. شكّلت تلك المعاهدة-الصدمة الصدع الأوّل في جدار موقف "لا سلام، لا تفاوض، لا اعتراف" العربي التاريخي. علماً أن الموقف العربي اللفظي تجاه إسرائيل يتناقض مع الاعتراف الفعلي بها بحكم القبول العربي بقرار الأمم المتحدة رقم 242، الذي شكّل النهاية غير المعلنة "للصراع" العربي-الإسرائيلي وتحوّله إلى سلسلة من "النزاعات" التي انتهى معظمها.

بقي التحالف العربي الجديد، ومقرّه بغداد، وفياً لتعهّده دعم فلسطين اقتصادياً ودبلوماسياً، واستمرّ عزل جامعة الدول العربية لمصر لعدة سنوات. غير أنّ ذلك الاحتضان العربي كان مدمّراً لمنظمة التحرير الفلسطينية بطرق أخرى، حيث انطوى على انضمام ياسر عرفات إلى معسكر الدول العربية التي رفضت إدانة صدام حسين إثر غزوه الكويت، معتبرين أن الحملة التي تقودها الولايات المتحدة الأميركية تهدف للدفاع عن إسرائيل وزرع تواجد امبريالي في المنطقة بعد عقودٍ من سياسات ما-بعد الاستعمار.

لم يعنِ ذلك فقط مزيداً من التفكك لشبكة التضامن العربي مع فلسطين، مع اصطفاف دول الخليج القوية والغنية (رفقة مصر) مع الولايات المتحدة الأميركية ضد العراق. فقد دفعت منظمة التحرير الفلسطينية، باعتبارها الحلقة الأضعف في التحالف المساند للعراق، الثمن الأغلى جراء رهانها (غير المحسوب) بموقفها الداعم لكتلة عربية ضد أخرى. فعلى الرغم من المواجهات العنيفة التي خاضتها منظمة التحرير الفلسطينية مع عدد من الدول العربية على مدى عقودٍ من الزمن (في كلّ من الأردن ولبنان ومع سوريا وليبيا والعراق نفسه)، إلّا أنها تبنّتْ عموماً النأيَ بالنفس، محاوِلة التمسك بموقفها الرسمي المتمثل في "عدم التدخل في الشؤون الداخلية" لأشقّائها العرب.

بين تداعيات الحربين الأولى والثانية على العراق، هُشّم شِعار "القرار الفلسطيني المستقل" الذي تفاخرت به منظمة التحرير الفلسطينية، على يد القوى الرجعية الامبريالية العالمية والإقليمية التي تدّعي تفوقاً في مجالات الديمقراطية والحوكمة الرشيدة وحقوق الإنسان والخصخصة. لكن، وعلى الرغم من عقود من الحروب والمذابح والدمار الكبير في فلسطين وفي كثير من الدول العربية كذلك، وحتى مع تفشّي البدعة الأحدث المتمثلة بالتطبيع العربي-الإسرائيلي، فإن جذوة النضال التحرري الوطني الفلسطيني لم تنطفئ، كما لم تخمد شرارة الثورة الديمقراطية بين الشعوب العربية.

تداعيات حرب الخليج الأولى على حركة التحرر الوطني الفلسطيني

كانت تداعيات حرب الخليج الأولى على فلسطين سريعة وقاسية وشاملة، كما أسفرت عن عواقب سياسية طويلة الأمد، يمكن تلخيصها في أربعة تداعيات رئيسية.

1- التداعيات الاقتصادية والاجتماعية

وقعت الهزيمة الفلسطينية في لحظةٍ بدا فيها أن التحرير في المستطاع، وزاد من مرارتها تفاقمُ عواقبها الوخيمة على المجتمع والاقتصاد الفلسطينيين. في آب/أغسطس 1990، انقطع التمويل العربي (سواء الرسمي أو الشعبي) عن منظمة التحرير الفلسطينية، وهو كان ضرورياً لاستمرارية المنظمة في منفاها العربي ما بعد عام 1982. في غضون بضعة أشهر، أصبحت المنظمة غير قادرة على دفع رواتب موظفيها العسكريين والمدنيين وغيرهم في جميع أنحاء العالم، وقد فهمت المنظّمة جيداً من ذلك أنّها ستُجبَر على دفع أثمان إضافية لدعمها صدام حسين.

أمّا الأثر الآخر الأبرز فتمثّل في طريقة التعامل مع الفلسطينيين الذين يعيشون في الكويت في أعقاب تحرير الكويت، وبعضهم عاشوا هناك لعقود طويلة ولعبوا دوراً أساسياً في إدارة الخدمات العامة والاقتصاد في البلاد. اعتُبر هؤلاء من أتباع منظمة التحرير الفلسطينية المؤيّدين للعراق وعومِلوا على هذا الأساس دونما تمييز، فأُجبر أكثر من 400 ألف فلسطيني على مغادرة الكويت ودول الخليج عقب انسحاب العراق من الكويت، مخلّفين وراءهم منازلهم ووظائفهم وحياتهم وخطط مستقبلهم.

هل تكون جهوزيّة وقدرة آلاف الشباب الفلسطينيين المحبَطين والشجعان لإعادة اختراع أساليب المقاومة المسلحة وتجديدها صنواً لنضال الانتفاضات العربية الشعبية ضدّ الأنظمة المستبِدة والرأسمالية المتوحشة؟ هل التفوّق العسكري للجيش الإسرائيلي والاستبداد المتفلّت للأنظمة العربية قادران على قمع المقاومة، مهما بلغ اختلال ميزان القوّة بين قوى الثورة وقوى الرجعية؟

عاد معظم المرحَّلين إلى الأردن وفلسطين لعدم قدرتهم على الانتقال إلى دول الخليج الأخرى التي بدأت بدورها بالتضييق على الجاليات الفلسطينية فيها، والتي كان دورها لا يقلّ أهميةً في اقتصادات هذه الدول منهم في الكويت. لقد أدى التشظي الاجتماعي الناتج عن هذا الشتات الفلسطيني الجديد إلى عواقب اقتصادية فورية، فتشرذمت العائلات مجدداً، وتحوّل المقيمون الفلسطينيون في دول الخليج من معيلين يضخّون مئات الملايين من الدولارات سنوياً عبر تحويلاتهم المالية إلى فلسطين والأردن إلى لاجئين مُعدَمين مُعطَلين عن العمل.

شكّلت المقاطعة العربية المالية لمنظمة التحرير الفلسطينية، والتي استمرت لمدة خمس سنوات، ضربة زادت من هشاشة المنظمة أمام الضربة التالية المتمثّلة في "اتفاقية أوسلو" التي فضّلت البراغماتية على المبدئيّة، وهو توجّه كانت تبنّته قيادة منظمة التحرير الفلسطينية بالفعل إلى حدّ كبير منذ 1974. لكن الأمر تسبب بضررٍ دائمٍ على الاقتصادات المحلية أيضاً: تمّ قمع الانتفاضة وانتخاب حكومة "سلام" إسرائيلية جديدة في عام 1992، مما مهّد ل"أوسلو"، وعند ذلك فقط أصبح بإمكان منظمة التحرير الفلسطينية إعادة تعريف شروطها لـ"السلام والتفاوض والاعتراف" ومحاوَلة جرّ الحركة الوطنية الفلسطينية والشعب الفلسطيني نحو تلك التسوية التاريخية.

2- الانتفاضة الأولى، عزل منظمة التحرير الفلسطينية، ومؤتمر مدريد

كانت غالبية الدول العربية التي عارضت التحالف الأميركي-الخليجي ضد العراق قادرة على تحمُّل نتائج موقفها وما نجم عنه مِن قطعٍ في بعض علاقاتها، إلّا أنّ منظمة التحرير الفلسطينية واجهت عواقب كارثيّة نتيجة مقاطعة الدول العربية الرسمية لها، خصوصاً في تلك اللحظة التي شهدت انطلاقة الانتفاضة الأولى وتنامي الالتفات الدولي حولها والتضامن العربي الشعبي معها. أدّى الزخم الذي وفّرته الانتفاضة إلى انطلاق مفاوضات سياسية بين الولايات المتحدة ومنظمة التحرير الفلسطينية برعاية عربية، أفضت إلى إعلان منظمة التحرير الفلسطينية قيام دولة فلسطين المستقلة كتسوية تاريخية في عام 1988.

بحلول عام 1991، تلاشت آمال منظمة التحرير الفلسطينية في عملية سلام يقودها الفلسطينيون مستفيدين من الانتفاضة ومن التضامن العربي المتجدِّد بعودة مصر إلى جامعة الدول العربية. لم يعد ممثلو المنظمة موضع ترحيبٍ في الأروقة الرسمية العربية، فيما أُمعِن في عزل ياسر عرفات نفسه في منفاه في تونس حيث بقي بعيداً عن مراكز الأحداث والتطورات. رغم ذلك، كان على المنتصرين من الدول العربية والعالمية إعلان اهتمامهم بفلسطين بوصفها القضية الأساس في المنطقة، كما أنهم لم يتمكّنوا من تجاهُل الانتفاضة الفلسطينية التي كانت ما تزال ملتهبة وتحوّلت بحلول عام 1991 إلى مقاومة حرب عصابات مسلّحة.

بين تداعيات الحربين الأولى والثانية على العراق، هُشّم شِعار "القرار الفلسطيني المستقل" الذي تفاخرت به منظمة التحرير الفلسطينية، على يد القوى الرجعية الامبريالية العالمية والإقليمية التي تدّعي تفوقاً في مجالات الديمقراطية والحوكمة الرشيدة وحقوق الإنسان والخصخصة.

عُقد بالتالي "مؤتمر مدريد الدولي للسلام" في الشرق الأوسط عام 1991، وعلى إثره تمّ إطلاق مسارين للمفاوضات: المسار الأردني/الفلسطيني-الإسرائيلي بشأن النزاع الأساسي، والمسار متعدد الأطراف للتفاوض بشأن القضايا الإقليمية، بما في ذلك إسرائيل. على الرغم من أن هذا المؤتمر الدولي كان مطلبَ منظمة التحرير الفلسطينية لوقت طويل، إلا أن مشاركة المنظّمة فيه اقتصرت على تزويد الوفد الفلسطيني بالتوجيهات خلف الكواليس. والظاهر أنّ رفض إسرائيل والدول العربية السماح لمنظمة التحرير الفلسطينية بتبوّؤ مقعد فلسطين كان غرضه التذكير بشكلٍ فجّ بأن منظمة التحرير لم تعد الوصيّ الوحيد على مصير فلسطين. فإن كانت حرب العراق ساهمت بفتح نافذة للسلام في فلسطين، إلّا أن شروط مدريد التي فرضها الحلف المنتصِر على العراق كانت منحازة إلى أبعد حدّ ضد الفلسطينيين، إلى أن انتهى بنا المطاف في "أوسلو"!

3- نهاية أسطورة إمكانيّة التفوّق العسكري العربي على إسرائيل

لطالما خالطَت كثيراً من التاريخ القومي العربي ادعاءاتٌ عجيبة قلّما دعمتها أحداث التاريخ، حول القدرات العربية على إلحاق هزيمةٍ (وشيكة) بإسرائيل على أرض المعركة: في كلّ من الأعوام 1948، 1967، 1973، و1982. ما يزال كثير من "المؤدلجين" يؤمنون حتى يومنا هذا بتلك الإمكانية: فقط لو توفّرت الإرادة، لو تطوّرت صناعاتنا العسكرية، لو أنّنا حصلنا على نخبة الأسلحة السوفييتية، لو كانت لدينا فقط أنظمة ديمقراطية مدعومة شعبياً... ومئة "لو" أُخرى.

في المقابل، كان هناك دائماً سياسيون فلسطينيون وعرب يوصفون بالـ"معتدلين"، إمّا ممّن لم يؤمنوا بالإمكانية الاستراتيجية لانتصار عربي عسكري على الآلة الحربية الإسرائيلية المتقدمة تقنياً بأشواط على تلك العربية، أو من أولئك المتحالفين مع المساعي النيوكولونيالية أو الصهيونية للقضاء على أيّة فرصة للعرب لمقارعة إسرائيل بندّية. أعادت انطلاقة الكفاح المسلّح لمنظمة التحرير الفلسطينية في الستينات من القرن العشرين شيئاً من التوازن للمواجهة، على الأقلّ شكلياً، لكنّ الجيوش العربية لم تبرَح وضعيتها الدفاعية، حتى عندما استطاعت تحقيق بعضِ النتائج العسكرية على أرض المعركة في حرب 1973. في المقابل، وصلت تجربة منظمة التحرير الفلسطينية في لبنان إلى نهايتها الملحميّة والمدوّية عام 1982.

في آب/أغسطس 1990، انقطع التمويل العربي (سواء الرسمي أو الشعبي) عن منظمة التحرير الفلسطينية، وهو كان ضرورياً لاستمرارية المنظمة في منفاها العربي ما بعد عام 1982. في غضون بضعة أشهر، أصبحت المنظمة غير قادرة على دفع رواتب موظفيها العسكريين والمدنيين وغيرهم في جميع أنحاء العالم، وقد فهمت المنظّمة جيداً من ذلك أنّها ستُجبَر على دفع أثمان إضافية لدعمها صدام حسين.

شكّلت المقاطعة العربية المالية لمنظمة التحرير الفلسطينية، والتي استمرت لمدة خمس سنوات، ضربة زادت من هشاشة المنظمة أمام الضربة التالية المتمثّلة في "اتفاقية أوسلو" التي فضّلت البراغماتية على المبدئيّة، وهو توجّه كانت تبنّته قيادة منظمة التحرير الفلسطينية بالفعل إلى حدّ كبير منذ 1974. لكن الأمر تسبب بضررٍ دائمٍ على الاقتصادات المحلية أيضاً: تمّ قمع الانتفاضة وانتخاب حكومة "سلام" إسرائيلية جديدة في عام 1992، مما مهّد ل"أوسلو". 

حتى بعد الهزيمة التي لحقت بمنظمة التحرير الفلسطينية في لبنان في 1982، صعد الفلسطينيون على وقع انهمار الصواريخ الباليستية العراقية على إسرائيل عام 1991 إلى الأسطح ليهلّلوا لمنقذهم صدّام حسين، القائد العربي الذي أظهرَ أخيراً جسارةً عسكرية عربية منتَطَرة. عندما تبيّن أن معظم هذه الصواريخ كانت تحمل رؤوساً صاروخية عادية، عزا بعض الفلسطينيين ذلك إلى حنكة صدام الاستراتيجية. لكنّ هذا التضليل (أو الوهم) الجماعي في سنوات التسعينات الفائتة حول امتلاك العراق للأسلحة النوويّة والتساؤل حول احتمال استخدامها كحلّ أخير - وهو ما روّجته إسرائيل بالدرجة الأولى - انهار تماماً في نظر الفلسطينيين بحلول عام 2003، ومعه انهارت بقايا الوعود العروبية الجوفاء التي أطلقها نظام وحشي وديكتاتوري.

4- أوسلو والتسوية التاريخية

لكنّ الإساءة الأكبر للقضية الفلسطينية أتت بفعلِ زلزال حرب الخليج الأولى، وما رافقه من انهيار حليف الكتلة السوفيتية. من مدريد مروراً بواشنطن ووصولاً إلى أوسلو عام 1993، التزمت منظمة التحرير الفلسطينية بشروط ضعّفت إمكانية اتّباع استراتيجية وطنية مُجدِية. أُرجِئت جميع آمال المنظّمة في الحصول على التزام دولي بإنهاء الاحتلال والاستيطان وتحقيق الاستقلال الفلسطيني إلى ما بعد الفترة الانتقالية للحكم الذاتي التي كان من المفترض أن تستمر لمدة خمس سنوات، غير أنها متواصلة حتى يومنا هذا. سيبقى النقاش مفتوحاً بين المؤرخين حول إذا ما كان ينبغي تجنّب تلك التسوية التي أدّت إلى عودة منظمة التحرير الفلسطينية ومركز الصراع إلى داخل فلسطين. لكن مما لا شك فيه أن حرب الخليج الأولى أنتجت ظروفاً أدّت إلى حرف مسار حركة التحرّر الوطني الفلسطيني وأجندتها.

بعد توقيع منظمة التحرير الفلسطينية على "اتفاقية أوسلو" والاتفاقيات اللاحقة، كسبت المنظمة موطئ قدمٍ لطالما كانت تسعى إليه داخل فلسطين، بالإضافة إلى ما يشبه حكماً ذاتياً مستقلاً. أكثر من ذلك، استطاعت الحصول لأوّل مرة على اعتراف دولي بالشرعية، كما عادت إلى الحضن العربي. لكن استراتيجية عرفات "للهروب إلى الأمام" انتهت بشكل مأساوي إلى غير رجعة (كما برهنت السنوات الثلاثون الماضية)، مع اندلاع الانتفاضة الثانية - رفضاً لوعود أوسلو الكاذبة التي آمن بها عرفات - وما تلاها من حصار مطوّل ضربته إسرائيل على عرفات في مقر الرئاسة، وصولاً إلى اغتياله. لعلّ المكاسب المحدودة ل"أوسلو" كانت أيضاً المكاسب الوحيدة التي عُرِضت على الفلسطينيين مقابل حصولهم على الاعتراف الدولي والتخلي عن المقاومة المسلحة. حتى تلك الشروط (للاستسلام؟) تبدو الآن أقل سوءاً مما يرسمه اليوم اليمين الصهيوني العنصري الحاكم في إسرائيل للشعب الفلسطيني.

الحرب الثانية على العراق ومحاولات إقصاء المسألة الفلسطينية

حرّكت التطورات التي شهدها عقد التسعينيات من القرن الفائت ديناميات أثّرت على الأوضاع السياسية في كلّ من العراق وفلسطين ووصلت ذروتها عام 2003. وكانت الحرب الأولى مستمرة بالفعل مع عقوبات غير مسبوقة على العراق طوال سنوات التسعينيات، جعلت منه منبوذاً من العدوّ والصديق على حدّ سواء.

1- فضح الوعود الفارغة لعملية السلام، الانتفاضة الثانية، والحرب على الإرهاب

مع انتهاء الفترة الانتقالية التي نصّ عليها "أوسلو"، حان الوقت لأن تستبدل منظمة التحرير الفلسطينية حُسن نواياها بقفازات ملاكمة. كشفت محاولات عرفات للتمسّك بالثوابت الوطنية الفلسطينية في "كامب ديفيد" الموقف الإسرائيلي الحقيقي القائل: لا سلام، لا تفاوض، لا اعتراف. يبدو أن المحارب القديم بقي منيعاً أمام نصيحة إقبال أحمد وآخرين بخصوص جدوى النضال المسلح ضد إسرائيل من خارج أو داخل فلسطين، فقد لجأ عرفات (كما في عام 1990) إلى الخيار الأخير المتاح بنظره ونظر القسم الأكبر من المنظمة. سرعان ما تحوّلت الانتفاضة الثانية التي بدأت سلمية وشعبية إلى صراع مسلح بين الفلسطينيين والإسرائيليين استمر لمدة خمس سنوات وانتهى بإخضاع منظمة التحرير الفلسطينية التي فُجعت بخسارة قائدها المؤسِّس.

الظاهر أنّ رفض إسرائيل والدول العربية السماح لمنظمة التحرير الفلسطينية بتبوّؤ مقعد فلسطين في اجتماع مدريد كان غرضه التذكير بشكلٍ فجّ بأن المنظمة لم تعد الوصيّ الوحيد على مصير فلسطين. فإن كانت حرب العراق ساهمت بفتح نافذة للسلام في فلسطين، إلّا أن شروط مدريد التي فرضها الحلف المنتصِر على العراق كانت منحازة إلى أبعد حدّ ضد الفلسطينيين، إلى أن انتهى بنا المطاف في "أوسلو"!

قبل هزيمة ياسر عرفات وبالتوازي مع ظهور العمليات الانتحارية/الاستشهادية التي تبنتها حماس (وفصائل فلسطينية أخرى لاحقاً) والتي استهدفت أهدافاً مدنية في العمق الإسرائيلي، بدأ شبح الحرب الثانية القادمة على العراق يطلّ برأسه إثر هجمات 11 أيلول/سبتمبر 2001 التي طالت قلب الولايات المتحدة الأميركية. على الفور، خلطت إسرائيل والولايات المتحدة بين المقاومة الفلسطينية و"تنظيم القاعدة" الإرهابي وأسلحة الدمار الشامل العراقية المزعومة. لم تفلح حتى الصور الترويجية لعرفات متبرّعاً بالدم لضحايا هجمات 11 أيلول/سبتمبر في تبديد ذلك الربط، إذ لم تعد الحقيقة تعني شيئاً في ذلك الجوّ المشحون الذي كان يهيّئ للحرب.

إذاً، تحوّلت "الحرب على الإرهاب" إلى مهمة مشتركة بين إسرائيل والولايات المتحدة وحلف شمال الأطلسي، استهدفت )وما تزال) المقاومة المسلحة الفلسطينية (إسلامية كانت أو سواها) للاحتلال الإسرائيلي (التي يعتبرها القانون الدولي مشروعةً بالأساس). عوملت المقاومة كإحدى أذرع الخطر الإرهابي نفسه الذي يمثله "تنظيم القاعدة" ثمّ "تنظيم الدولة الإسلامية" (داعش) في مرحلةٍ لاحقة. كما مُهّد الطريق أمام استيعاب منظمة التحرير الفلسطينية في مرحلة ما بعد عرفات عبر مجموعة من التسويات السياسية والاقتصادية والأمنية مع إسرائيل، قيّدت سلطتها الذاتية ومنعتها حتى من محاولة تحقيق الاستقلال.

2- آخر محطّة في مسار القرار الفلسطيني المستقل

بعد التخلّص من سلطة عرفات وأساليبه، كانت النتيجة الطبيعية أن قُلّمت بوضوح أجنحة السلطة التي خلفته، بالإضافة إلى إخضاع قراراتها بشكل متزايد إلى إملاءات القوى الخارجية. صار البحث في الخيارات والمواقف مرتبطاً قبل كلّ شيءٍ بمصالح الأردن ومصر في علاقتهما مع إسرائيل والقوى الإقليمية والدولية. جُرجِرت سلطة محمود عباس أكثر من مرّة إلى جولات مضنية ولكن عقيمة من "مفاوضات السلام"، إلى أن توقّفت المحاولات الزائفة للدفع بعملية السلام مع مبادرة "أوباما-كيري" الأخيرة عام 2014. قبلت منظمة التحرير الفلسطينية الشروط السياسية التي فرضتها اللجنة الرباعية للوساطة، والتي قوّضت إمكانية تحقّق صيغة ديمقراطية فلسطينية تشمل حماس، في حين ثُبّتت معادلة "التنسيق الأمني" مع إسرائيل والولايات المتحدة. وتبقى هذه الأخيرة نقطة الخلاف الرئيسية في السياسة الداخلية الفلسطينية.

الإساءة الأكبر للقضية الفلسطينية أتت بفعلِ زلزال حرب الخليج الأولى، وما رافقه من انهيار حليف الكتلة السوفيتية. من مدريد مروراً بواشنطن ووصولاً إلى أوسلو عام 1993، التزمت منظمة التحرير الفلسطينية بشروط ضعّفت إمكانية اتّباع استراتيجية وطنية مُجدِية.

في هذه الأثناء، كانت سياسات واستراتيجيات وأولويّات الاقتصاد الفلسطيني تتحول إلى رهينة للمؤسسات المالية الدولية وأجندات المانحين، وبحسب قوالب "الإصلاحات" الجاهِزة نفسها التي دُشّنت في العراق الجديد "المحرَّر والديمقراطي". ففي كل من فلسطين والعراق، استُبدِلت الهياكل المعتادة للسلطة الحاكمة والمعايير السياسية التقليدية بصيغةٍ صُمّمت في واشنطن وفُرضت في كل رقعة طالتها موجات العولمة واللبرلة والخصخصة حول العالم. وبانضمام دول الخليج العربي إلى "إجماع واشنطن"، تمّ التخلّي عن حلم التكامل الاقتصادي العربي الإقليمي لصالح بناء علاقات مع الاقتصادات المتقدمة ل"منظمة التعاون الاقتصادي والتنمية". لكن كِلي البلدين كانا جاهزَين لتجارب مخْبرية سرعان ما تمّ التخلّي عنها، وهو ما أفرز بالنتيجة هذه الأنظمة الضعيفة والتابعة لجهات خارجية في كلّ من بغداد وأربيل ورام الله، وصولاً إلى غزة اليوم.

3- تعبيد الطريق للتطبيع العربي-الإسرائيلي

ليسَ مستغرَباً أن تطال تبعات تلك الحروب جميعَ الدول العربية، مِن الحربين المهولتَين على العراق إلى الحرب المستمرّة على الشعب الفلسطيني الذي يعاني تحت الاحتلال، فسلسلة الحروب الأهلية في كل من سوريا واليمن وليبيا، بالإضافة إلى أثر الجرعات الكبيرة من اللبرلة الاقتصادية والتعديلات الهيكلية وأجندات الديمقراطية المستوردة في فلسطين والعراق ومصر (وقريباً في سوريا ولبنان وأيّة دولة "ممانِعة" أخرى في القرن العشرين).

لعلّ قبول الأنظمة العربية بـ"السلام والتفاوض والاعتراف" في نهاية المطاف كان أعتى الارتدادات الناجمة عن الحربين على العراق، فيما يُحاك الفصل الأخير من هذه العملية في عام 2023. كانت الخطوة الأولى نحو التطبيع العربي الصريح مع إسرائيل مغلّفة بلغة التضامن العربي المعهودة من خلال "مبادرة السلام العربية" المدعومة من السعودية عام 2002، التي ربطت السلام العربي مع إسرائيل بالتوصل إلى "حلّ فلسطيني-إسرائيلي عادل". فيما هيّأت الحرب الأولى على العراق الظروف لجلوس العرب على نفس الطاولة مع الإسرائيليين، فإن الحرب الثانية بعد عقد من الزمن سرّعت الاعتراف بشرعية إسرائيل ودمجها (أو تسيّدها) في المنظومة الأمنية الاقتصادية للمنطقة في نهاية المطاف.

مع ذلك، فحتّى الخطوط الحمر المتواضعة للمبادرة العربية لم تعد تملك تأثيراً رادعاً، في وقتٍ يتحقق فيه التطبيع بالفعل – ورأس حربته الولايات المتحدة الأميركية - في العلاقات السياسية والاقتصادية والأمنية والاستراتيجية بين إسرائيل وعدد من الدول العربية، ويتمّ الترويج بأنه حتميّ ووشيك في دول أخرى. بغض النظر عن العوامل المتعددة التي أدّت إلى تحوّلات في الخريطة السياسية الإقليمية وفي علاقة شعوب المنطقة بالقضية الفلسطينية، فإنّنا مُنينا بهزيمة استراتيجيّة بيّنة للقضية، قلّصت المجال الذي يسمح لمنظمة التحرير الفلسطينية بالمناورة إقليمياً، وتلك كانت إحدى آليات البقاء الرئيسية للمنظمة عبر التاريخ، ويمثّل عاما 1990 و2003 نقطتي تحول رئيسيّتين في تلك العملية.

4- تعاظُم تأثير حركات المقاومة الإسلامية

ما تزال ارتدادات تلك الحروب على العراق تتفاعل داخل الحركة الوطنية الفلسطينية ضمن مشهدٍ عالمي وإقليمي متغيّر. يتجلّى أثرها النهائي في أنّ انهيار نظام البعث في العراق مثّل نهاية العديد من الأحلام القومية العربية، بما في ذلك في فلسطين. وكما أنّ المقاومة اليسارية والشيوعية للإمبريالية في المنطقة صعدت ثمّ خمدت، فكذلك خابت الوعود بمقاومة وطنية فلسطينية وبمقاومة قومية عربية في المقام الأوّل. لم تكن حروب العراق مجرّد مسامير محْكمة في نعش تلك الطموحات العربية، ولكنها مثّلت أيضاً دعوةً للإسلام السياسي لدخول المعركة بلغته الرجعية ووسائله العنيفة وأشكاله التنظيمية الجديدة. ما زال يَنظر العديد من القوميين العرب إلى مقاومة "حزب الله" المسلّحة ضدّ إسرائيل وكذلك المقاومة "الإسلامية" في فلسطين كنموذجٍ ثوري فعّال ومُجدٍ في ترسيخ معادلة ردع عربي وفلسطيني ضدّ إسرائيل، بغض النظر عن أبعادها الأخرى.

تحوّلت "الحرب على الإرهاب" إلى مهمة مشتركة بين إسرائيل والولايات المتحدة وحلف شمال الأطلسي، استهدفت (وما تزال) المقاومة المسلحة الفلسطينية (إسلامية كانت أو سواها) للاحتلال الإسرائيلي (التي يعتبرها القانون الدولي مشروعةً بالأساس). عوملت المقاومة كإحدى أذرع الخطر الإرهابي نفسه الذي يمثله "تنظيم القاعدة" ثمّ "تنظيم الدولة الإسلامية" (داعش) في مرحلةٍ لاحقة.

بغض النظر عن العوامل المتعددة التي أدّت إلى تحوّلات في الخريطة السياسية الإقليمية وفي علاقة شعوب المنطقة بالقضية الفلسطينية، فإنّنا مُنينا بهزيمة استراتيجيّة بيّنة للقضية، قلّصت المجال الذي يسمح لمنظمة التحرير الفلسطينية بالمناورة إقليمياً، وتلك كانت إحدى آليات البقاء الرئيسية للمنظمة عبر التاريخ، ويمثّل عاما 1990 و2003 نقطتي تحول رئيسيّتين في تلك العملية.  

وُلِدت "حركة حماس" خلال الانتفاضة الأولى وتعزز حضورها بفعل إخفاقات "منظمة التحرير الفلسطينية" والفشل القومي العربي خلال حرب العراق الأولى. بموازاة ذلك، وجدت "حماس" فرصتها في أن تكون حركة منتخَبة بحرية وديمقراطية من قبل الشعب الفلسطيني في عام 2006، عقب هزيمة أخرى لمنظمة التحرير والمقاومة العروبية والوطنية. أما اليوم، فحتى تلك النسخة البديلة عن الأيديولوجيات المقاوِمة السابقة، والتي تسيطر بشكل كامل على غزة، أصبحت هي نفسها جزءاً مِن المشكلة التي تعترض طريق تحرير الشعب الفلسطيني من الاستبداد، تماماً كما السلطة الفلسطينية (الأسيرة للاحتلال) في رام الله.

خاتمة: هل يمكن أن تكون فلسطين مهداً لعروبة جديدة؟

خلال عشرين عاماً فقط، تمّ استبدال المنطلقات الأساسية لحلّ الدولتين المقترح، فبدلاً من "(إعادة) الأرض (الفلسطينية المحتلة) مقابل السلام (مع إسرائيل)"، أصبح الوضع الحالي هو أنّ إسرائيل تأخذ ما تشتهي من الأراضي مقابل عدم مواصلتها شنّ الحروب ضدّ الفلسطينيين. هو وضعٌ بشع، ولم يكن له أن يتحقق لولا أنْ دُمّر العراق أولاً، ومعه بضع دول عربية أيضاً.

ما تزال كثير من الأسئلة مفتوحة، وقد يكون لدى كلّ منا إجابات مختلفة عليها. هل أُخمِدت حقاً ونهائياً جذوة المقاومة؟ هل يمكننا أن نستشفّ نموذجاً جديداً للمقاومة الفلسطينية في سبيل التحرير بما يتجاوز القيمة الرمزية والمعنوية للموجة الجديدة من الفدائيين الفلسطينيين من القدس إلى غزة إلى جنين؟ هل يمكن أن يشكل هؤلاء نموذجاً غير مرتبط بالأنظمة الفاقدة للشرعية وقادراً على إلهام المناضلين العرب الذين يقاتلون من أجل الحقوق السياسية والمدنية وحقوق الإنسان؟ هل تكون جهوزيّة وقدرة آلاف الشباب الفلسطينيين المحبَطين والشجعان لإعادة اختراع أساليب المقاومة المسلحة وتجديدها صنواً لنضال الانتفاضات العربية الشعبية ضدّ الأنظمة المستبدة والرأسمالية المتوحشة؟ هل التفوّق العسكري للجيش الإسرائيلي والاستبداد المتفلّت للأنظمة العربية قادران على قمع المقاومة، مهما بلغ اختلال ميزان القوّة بين قوى الثورة وقوى الرجعية؟ 

______________________

*النص الثاني من دفتر "عشرون عاما على الحرب على العراق" وذلك بمشاركة موقع جمار وبدعم من مؤسسة روزا لوكسمبورغ.

______________________

ترجمته عن الانجليزية صباح جلّول

محتوى هذا المقال هو مسؤولية السفير العربي ولا يعبّر بالضرورة عن موقف مؤسسة روزا لكسمبورغ.

مقالات من فلسطين

لا شيء سوى الصمود!

2024-10-03

قبل الصواريخ الإيرانية وبعدها، استمر الاحتلال بارتكاب الفظاعات، ثمّ توعّد بالمزيد. إنها أيام المتغيرات السريعة والخطيرة والصعبة، لكن يبدو أنه في كل هذا، ليس سوى ثابتٍ وحيد: صمود شعوبنا المقهورة.

للكاتب نفسه