الإقليم من أعرق مراكز العمران البشري
تزخر المواقع الأثرية التي تعود إلى عصور ما قبل التاريخ الموجودة بإقليم طاطا بكميات مهمة من الأدوات الحجرية التي صنعها إنسان ما قبل التاريخ من الصلصال، واستخدمها لأغراض مختلفة، بحسب أحجامها وأشكالها المتنوّعة، وهي عبارة عن أحجار مصقولة استعملت للقطع كالسكاكين، أو للصيد كرؤوس الرماح والسهام، علاوة على استعمالها كأدوات لتصنيع جلود الحيوانات أو للحفر والنقش على الحجر. وأكدت الملاحظات الأولية للقطع الحجرية المستصلحة على انتمائها إلى العصر الحجري القديم الذي يصل تاريخه إلى أكثر من مليون سنة قبل الميلاد. وتظهر الرقعة الجغرافية الشاسعة التي تغطيها مواقع هذا العصر على طول وادي درعة أن إقليم طاطا لم يعرف استقراراً بشرياً مذاك فحسب، بل عرف تواجداً مكثفاً للعنصر البشري على أوسع نطاق. والإقليم بهذا يكون من أعرق مراكز العمران البشري بالمغرب وإفريقيا، حسب ما تظهره مواقع النقوش الصخرية المنتشرة. وهو ما يؤكده الأركيولوجي والباحث مصطفى أتق. ويقول إنه "يستفاد من النقوش التي ما زالت ماثلة إلى اليوم وتمثل مشاهد لصيادين وحيوانات مختلفة كالفيلة والزرافات والكركدن والنعام والظباء والأبقار الوحشية، يُستفاد منها أن المنطقة كانت آهلة بأناس يعيشون على صيد الحيوانات، وأنها كانت رطبة مكسوّة بالغابات عكس ما هي عليه اليوم".
وأشار تقديم كتاب "واحات باني، العمق التاريخي ومؤهلات التنمية" (أعمال ندوة طاطا أيام 15 - 16 و 17 آذار/ مارس 1995) إلى أنه يبدو أقرب إلى اليقين أن السود أول مَن عمّر هذه المناطق، مستشهداً بنقوش تاسيلي، منذ آلاف السنين قبل الميلاد. وأردف "ومن المحتمل أن يكون الحرَّاطون جنساً قائما بذاته. ويتجلى ذلك في بعض الملامح المورفولوجية (أقواس الحواجب عالية، وجنات ناتئة وعيون مغولية) وبعض السمات النفعية الاجتماعية (الطباع السليمة والجدية، إتقان أعمال البستنة والسقي، القدرة الهائلة على التأقلم).. ثم يليهم الأثيوبيون من جنس البول والبيض. وعلى أن إحدى الحقب المحيرة في هذه الفترة ما قبل التاريخ هي وجود عربات الخيل في الصحراء وفي الجنوب المغربي. هل هي هجرات الشعوب الليبية ("الكارمانت" الشهيرة التي تحدث عنها هيرودوت) أو الشعوب الشمالية النازحة عبر كريت وطرابلس، 1200 سنة قبل الميلاد؟".
والظاهر أن السود والملونين هم قدماء بالمنطقة، ويستدل على ذلك باعتبار المنطقة امتداداً لإفريقيا، مما يفند الرواية المبنية على أساس عرقي قبلي وعنصري، متعالٍ، تزعم أن السود والملونين لم يعمروا المنطقة إلا في عهد المنصور الذهبي.
ويزكي هذا الطرح وجود مجموعة من الأسماء الإفريقية الأصلية التي تدل على ذلك، هذا فضلاً عن توفر بعض العائلات والأسر العريقة السوداء البشرة والملوّنة على وثائق أعرق من عهد المنصور الذهبي، ويقطن بعضها قرى خاصة بالسود والملونين منذ زمن سحيق، وإن كان مما لا شك فيه أن المنطقة عرفت جلب بعض السود من خلال التجارة الصحراوية التي اشتهرت هناك في عهد المنصور الذهبي ومن بعده، خاصة في الوقت الذي اعتُقِد فيه بأنّ التجارة الصحراوية قد توقفت نهائياً بعد سيطرة الأوروبيين على سواحل بلاد السّودان والصحراء، وفرضهم الحصار على تجارة الذهب والعبيد خلال القرن التاسع عشر.
أهمية مواقع النقوش الصخرية
يبلغ عدد مواقع النقوش الصخرية بإقليم طاطا التي تمّ إحصاؤها ما يزيد عن مئة موقع، وهناك مواقع أخرى لم يشملها الجرد نظراً لأنّها وعرة يصعب الوصول إليها، علاوة على اتّساع الإقليم. وتوجد أغلب هذه المواقع على طول الأودية الجافة التي تتخلل الإقليم متجهة نحو وادي درعة في الشرق وفي الجنوب، أو على مقربة منها. وتكمن أهمية مواقع النقوش الصخرية التي يضمّها الإقليم ما يلي:
- تشكيلها لأكبر تجمع للنقوش الصخرية في المغرب.
- كونها متاحف في الهواء الطلق بما تضمّه من تراث حضاري متميز يمكن استغلاله في مشاريع تنموية وثقافية وسياحية.
- تغطيتها لكل جهات ومناطق الإقليم مع تنوّع كبير في طريقة النقش والأشكال المنقوشة على صخورها.
- تعبيرها عن حركة بشرية واسعة وكثيفة شهدتها المنطقة منذ أزيد من سبعة آلاف سنة.
- تجسيدها براعة إنسان ما قبل التاريخ في مجال النقش وتصويرها بيئة الإقليم خلال العصور الحجرية، فالحيوانات الممثلة على الصخور المنقوشة تحتاج إلى كميات كبيرة من المياه والأعشاب للعيش، وهو ما يدل على أن المنطقة كانت تتميّز بكثرة المتساقطات ووفرة الغطاء النباتي على طول الأنهار دائمة الجريان.
- عملية قلع الأحجار من المواقع ونقلها إلى مناطق أخرى من أجل البناء.
- سرقة الصخور من طرف تجار وسياح وهواة جمع التحف الفنية والأثرية.
- ممارسات بعض الرعاة والرحل من خلال تكسيرهم أو تشويههم لأشكال الرسوم المنقوشة.
- ظروف الصيانة الصعبة التي تساهم فيها قسوة المناخ القاري السائد في المنطقة، والذي يتميز بالفوارق الحرارية الكبيرة بين الليل والنهار والشتاء والصيف، مما يؤدي إلى تكسير الصخور المنقوشة.
ولحماية مواقع الرسوم والنقوش الصخرية بإقليم طاطا التي تندرج ضمن الموروث الحضاري المغربي الذي تحميه مقتضيات الظهير الشريف رقم 341.80.1 بتاريخ 17 صفر 1401 الموافق 25 كانون الأول/ ديسمبر 1980 الذي يتضمّن الأمر بتنفيذ القانون رقم 80.22 المتعلق بالمحافظة على المباني التاريخية والمناظر والكتابات المنقوشة والتحف الفنية والعاديات، يرى الباحث أتق أنه يجب ما يلي:
- تسجيل هذه المواقع وتشجيع الطلبة والباحثين على إنجاز دراسات وبحوث في مجال النقوش الصخرية.
- التنسيق بين الفعاليات الثقافية والإدارية والسلطات المحلية والمجتمع المدني قصد مراقبة وحماية المواقع.
- تحسيس ساكنة الإقليم بأهمية موروثهم وحثّهم على التمسك به والتبليغ عن كل الممارسات التي تؤدي إلى تخريب المواقع.
- دعوة الإعلام السمعي - البصري والمكتوب إلى التعريف بهذه المواقع على الصعيد الوطني والدولي ودقّ ناقوس الخطر لحمايتها قبل اندثارها.
- إدماج المواقع ضمن مشاريع للسياحة الثقافية قصد تحقيق تنمية ثقافية واجتماعية مستدامة.
- عدم إخراج الأدوات والمنقولات الأثرية من مواقعها ومنع سرقتها والمتاجرة فيها.
نخلص إلى أنّ حماية أكبر متحف للنقوش الصخرية بالعالم الذي يزخر به إقليم طاطا ضروري لصيانة تاريخ موغل في القدم، علاوة على حماية مواقع أثرية تعود إلى ما قبل التاريخ تقع على مقربة من مواقع النقوش والرسوم الصخرية، تضم قطعاً خزفية وأدوات حجرية صنعها إنسان ما قبل التاريخ ليستعملها في أنشطة حياته اليومية.