الفرشاة في مواجهة البندقية: الفن اليقظ والرحيل المبكر

في تموز/ يوليو 2014، اختفى هشام رزق لمدة أحد عشر يوماً قبل أن تطفو جثته على سطح النيل في حادثة ظلت ملابساتها غامضة. كان هشام رزق يمثل ذلك المزيج العبقري من الفن الخالص والضمير اليقظ.
2023-08-11

ممدوح عبد المنعم

كاتب، من مصر


شارك
اللوحة التذكارية لهشام رزق

كثيرون هم الفنانون الذين ظهروا في اللحظة المناسبة وشكلوا ما عُرف وقتها بـ"رابطة فناني الثورة"، وكان أغلبهم من طلبة وخريجي كليات الفنون الجميلة والتربية الفنية. وفي القلب من هؤلاء كان "هشام رزق" الذي ربما لم يكن يتجاوز وقتها السابعة عشرة من عمره لكنه وجد مكانه بين زمرة هؤلاء الفنانين بموهبته العريضة. كان هشام رزق متعدد المواهب والاهتمامات والأنشطة إلى الحد الذي يدفعنا للتساؤل عن كيف كان الفتى يجد الوقت لفعل ذلك كله. فقد توزعت مواهبه بين رسم الجرافيتي والكاريكاتير وعروض المسرح وفن البانتوميم بالإضافة إلى عضويته في "حركة شباب 6 ابريل" ورابطة فناني الثورة، علاوة على الاهتمام بدراسته حيث كان لا يزال عند بداية الثورة طالباً في الصف الثاني الثانوي..

آمن هشام بموهبته وقدرته على التأثير، كما اعتز بانتمائه إلى "طبقة ملح الأرض" التي تشكل السواد الأعظم من المصريين، فيقول عن نفسه عبر صفحته الشخصية على فيسبوك "لي الفخر أني أنتمي إلى تلك الطبقة الكادحة في مجتمعنا المصري. لا أخجل من كوني أعيش في مكان فقير مادياً، ولكني معنوياً من أغنى الأغنياء، لأنني أمتلك الحب لذلك الوطن. لا تهمني قشوري الشكلية، بل أحاول أن أسمو بذاتي إلى الكمال الإنساني".

كان يحمل فرشاته وألوانه ذاهباً كل يوم إلى الميدان لإنتاج جداريات بديعة وملهمة احتلت جدران شارع محمد محمود وسور الجامعة الأميركية وكثيرا من الشوارع الجانبية الأخرى، فاستطاع مع زملائه أن يصنعوا ثورة موازية. كل من عرف هشام رزق في تلك الفترة رأى أنه كان يمتلك حساً إنسانياً مرهفاً وذائقة فنية استثنائية وروحاً متمردة... علاوة على الحس الساخر.

وعلى الرغم من فضاءات الحرية التي أتاحتها الثورة آنذاك، كانت رسوم الجرافيتي تتعرض للطمس والملاحقة من قبل السلطات باستمرار. جرت معارك كرٍّ وفرٍّ بين مندوب الدولة الذي يمسك بفرشاة الطلاء البيضاء لمحو رسوم الفنانين تحت جنح الظلام، والفنانين الذين يعاودون رسمها في الصباح بحماية الجموع الغفيرة التي صنعت الثورة.

تؤكد "كارولين سيمور" أستاذة الأدب المقارن والترجمة العربية بجامعة "ويسكونسن" الأمريكية أن "هؤلاء الفنانين ووسط خيوط مظلمة من الفزع واليأس استطاعوا أن ينسجوا مساحات كبيرة من الأمل من مختلف الأدوات الفنية وأنهم لم يكتفوا فقط بالاشتباك مع الواقع السياسي والاجتماعي من خلال تلك الأدوات الفنية، وإنما حاولوا كذلك الولوج إلى عمق التساؤلات الشخصية والفلسفية. وأنّ ثورة يناير بتجلياتها المختلفة قد أنهت بشكل جذري كل أنظمة التعبير التقليدية التي كانت سائدة قبل ذلك، كي يجد الجميع أنفسهم مدرجين داخل مشهد ثقافي غني وديناميكي لخلق فضاءات جديدة من الأمل والحرية" (1).

آمن هشام بموهبته وقدرته على التأثير، كما اعتز بانتمائه إلى "طبقة ملح الأرض" التي تشكل السواد الأعظم من المصريين، فيقول عن نفسه عبر صفحته الشخصية على فيسبوك "لي الفخر أني أنتمي إلى تلك الطبقة الكادحة في مجتمعنا المصري. لا أخجل من كوني أعيش في مكان فقير مادياً، ولكني معنوياً من أغنى الأغنياء".

هل كان عبد الرحمن الأبنودي يقصد هشام ورفاقه وهو يعبر عن اندهاشه وافتتانه بجيل الثورة في قصيدته "الميدان" عندما كتب عن هذا الجيل من الثوار والفنانين ..

"طلعوا الشباب البديع.. قلبوا خريفها ربيع
وحققوا المعجزة.. صحوا القتيل م القتل".

ثم وهم يصرخون في وجوه جلاديهم الذين عمدوا إلى قطف أرواحهم الغضة:

"اقتلني. قتلي ما هيعيد دولتك تاني.. بكتب بدمي حياة تانية لأوطاني،
دمي ده والا الربيع؟ الاتنين بلون أخضر.. وبتبسم من سعادتي ولا أحزاني!"

اختفاءٌ ثم...

في تموز/ يوليو 2014 اختفى هشام رزق لمدة أحد عشر يوماً قبل أن تطفو جثته فوق سطح النيل في حادثة ظلّت ملابساتها غامضة. حادثة تحتمل كافة التخمينات التي ظلت بلا رد! هل استشرف هشام نهايته الوشيكة كما كان يستشرف روح الثورة عندما كتب على صفحته على فيسبوك وقبل موته بأيام قليلة "لا تحزنوا يا رفاق إن كنت من الشهداء، فإني اصطفيت لأكون من أهل الجنة... عنواني حب بلادي وحب شهيد روى السنابل بدمه".

مات هشام قبل أن يتم عامه العشرين. هو الذي رسم مع رفاقه على طول جدران شارع محمد محمود صور شهداء 25 يناير الذين سبقوه والذين لم يكتمل حلمهم في الحرية وتم ابتسار وجودهم على هذه الأرض بسرعة وخفة رصاص القناصة وعجرفة الاستبداد.

في ذكرى رحيل هشام في تموز/ يوليو من كل عامٍ يحيي أصدقاؤه وزملاؤه مشروعَه الفني الذي كان يحلم أن يستكمله ويضع بصمته المميزة عليه.

كتبت "ندى ضياء" في الديلي نيوز/ مصر (2) أنّ أصدقاء هشام قد احتفلوا بذكرى وفاته الأولى بطريقة غير معتادة. لم يعمدوا إلى إجترار الحزن (الذي كان موجوداً وحاضراً وفاجعاً) بل اختاروا الاحتفال كما كان يحب هشام أن يحتفل. في المعرض الذي أطلقوا عليه اسم "تاجر البساطة" عرضوا صوراً لكل الجرافيتي الذي قام هشام برسمه منذ بداية ثورة يناير وحتى رحيله. وقام بعضهم بإحضار بعض قطع من جدار سور الجامعة الأمريكية الذي تمّ هدمه والذي حمل أغلب رسوم هشام ورفاقه. كما قام الأصدقاء بعرض صور لهشام وهو يقوم بعروض التمثيل الإيمائي ( البانتوميم ) الذي كان بارعاً فيه. ورسم بعضهم قصة حياته في الجرافيتي حيث قدّم كل منهم جانباً من جوانب شخصيته الثرية والملهمة.

بعض هؤلاء الذين شاركوا في إقامة تلك المعارض لم يعرفوا هشام شخصياً، مثل أحمد الشيخ الذي يقول "لم تسنح لي الفرصة للتعرف على هشام شخصياً رغم أني كنت أمر بجوار رسوماته كل يوم. ومع ذلك يمكنني التأكيد على أن هشام صديق حقيقي لي رغم أننا لم نلتقِ من قبل .

ثمة شيء جميل ونبيل نبت في هذا المعرض الذي أقيم بدءاً من العام 2015 وحتى 2018 هو تحقيق حلم هشام في خلق مساحات جديدة من الحرية والإبداع لفنانين جدد لايستطيعون إقامة معارض فنية لعرض أعمالهم .

أخبرني "ممدوح جمال" أحد أقرب أصدقاء هشام "أن هذه المعارض والتي أقيم بعضها في دار ميريت كانت فرصة ثمينة لهؤلاء الفنانين لأن تظهر أعمالهم إلى النور وأن يراها رواد المعرض الذين كانوا يتوافدون بالمئات لإحياء ذكرى الفنان الشاب. مثلت تلك المعارض نوافذ لهؤلاء الفنانين الصغار الذين لم يعرف أغلبهم هشام رزق ولم يلتقوا به".

يؤكد "جمال" أن هشام كان ملهِماً في محيط أصدقائه لأبعد حد وأن قراءاته المتعددة وثقافته الإستثنائية على الرغم من حداثة سنه جعلته مؤثراً وفاعلاً في تلك الدائرة من الأصدقاء الذين تشاركوا معه الدراسة في كلية التربية الفنية بالزمالك. وأن كل هؤلاء الأصدقاء قد تحققوا فنياً بالفعل واستطاعوا المضي قُدماً في صناعة الجمال في مجالات فنية متعددة.

أحد هؤلاء الأصدقاء هو "محمد أبو المجد" يقول "كان هشام رزق يمثل ذلك المزيج العبقري من الفن الخالص والضمير اليقظ. وأنه كان دائم التمرد على كل الأشكال التقليدية في التعبير الفني. وأنه لن يستطيع نسيان ذلك الصديق الذي كان أحد صناع ثورة الجدران التي ألهمت الميدان في الصمود والمقاومة.

بعض المشاركين في إقامة تلك المعارض لم يعرفوا هشام شخصياً، مثل أحمد الشيخ الذي يقول "لم تسنح لي الفرصة للتعرف على هشام شخصياً رغم أني كنت أمر بجوار رسوماته كل يوم. لم نلتقِ من قبل ومع ذلك يمكنني التأكيد على أن هشام صديق حقيقي لي"

وفي واحدة من أهم وأكبر لوحات الجرافيتي التي احتلت ميدان التحرير لفترة طويلة وامتدت بطول اثني عشر متراً وارتفاع أربعة أمتار، قام الفنان "عمار أبو بكر" بتخليد ذكرى هشام رزق فصوره وهو يحمل عصا الراعي أو الصولجان الفرعوني في يد و"المذبة" التي ترمز لخصوبة الأرض في اليد الأخرى. أخبرني "عمار" أنه رسم خلفية الصورة على شكل مربعات صغيره رمز بها إلى "البيكسلز" التي تظهر لنا عند محاولة تكبير الصورة فلا نستطيع أن نرى شيئاً. وأن هذا المعنى هو ما أراده بالضبط للتعبير عن الرؤية الملتبسة التي أحاطت بالوفاة الغامضة لهشام، فيما يرمز صولجان المُلك إلى قوة وسيطرة الفن فيما ترمز مذبة الخصوبة إلى قدرة الفن على التأثير واستنبات الوعي والتفكير .

رحل هشام مبكراً ولكنّ جزءاً كبيراً منه ظل حاضراً في أصدقائه الذين استكملوا بعض أحلامه في الفن وإن ظلت أحلامهم في الحرية تتعرض للخنق والمصادرة حتى الآن.  

______________________

1-  Caroline Seymour-Jorn Creating Spaces of Hope: Young Artists and the New Imagination in Egypt.
مطبعة الجامعة الامريكية، القاهرة، 15 كانون الأول /ديسمبر 2020. ويحمل غلاف الكتاب القيم صورة جرافيتي رسمت لتخليد هشام رزق.   
2-  Hesham Rizk: a late artist risen again through the eyes of his friends https://www.dailynewsegypt.com/2016/07/19

مقالات من مصر

ثمانون: من يقوى على ذلك؟

إليكم الدكتورة ليلى سويف، عالمة الرياضيات المصرية بالأصالة، البريطانية بالولادة، على صقيع رصيف وزارة الخارجية في لندن، تُعدُّ بالطباشير – ككل المساجين - أيام اضرابها.

في مصر يمكنك فقط الاختيار بين سجن صغير وآخر أكبر

إيمان عوف 2024-12-09

تحوّل القانون رقم (73) لسنة 2021، الذي يتيح فصل الموظفين المتعاطين للمخدرات، إلى أداة لملاحقة العمال والنشطاء النقابيين العماليين، والنشطاء السياسيين والصحافيين. وعلى الرغم من اعتراض النقابات والجهات الحقوقية على...

للكاتب نفسه

عمْ "سيِّد"

هو أحد أقارب والدي، لا أراه إلا نادراً. عرفتُ قصته بالصدفة في حوار عائلي عابر، ولكن الرجل – بعد تردد - أطلعني على بقية التفاصيل المؤلمة، التى لايعرفها إلا قلة...