في آذار/مارس من العام الفائت 2022، سافرت ابنة عمتي من صنعاء مروراً بعدن ثم إلى القاهرة لتنضم إلى زوجها هناك. لقد قامت بهذه الرحلة من قبل، لكن هذه المرة كان عليها أن تتخذ إجراءات أخرى، بناءً على نصيحة اللواتي سبقنها في السفر، وبالذات صديقتها المقربة التي خاضت قبلها بشهرين فحسب تجربة بشعة، حاولت أن تجنّبها إياها.
الصديقة سلكت الطريق ذاته: صنعاء – عدن – القاهرة. سافرت مع قريبة لها مساء من صنعاء على متن سيارة توفرها شركة نقل خاصة، سيارة تكلفتها أعلى وغرضها توفير الأمن والخصوصية في عالمٍ يفتقر إلى الاثنين.
في المنحدر الشهير المسمى "نقيل يسلح"، عبرت السيارة بنقطة تفتيش، وهو مسمى الثكنات التي صارت رمز الإذلال للنساء كما للرجال. أوقف السيارة الرجل المسؤول عن النقطة ورفض رفضاً باتاً عبور السيدتين اللتين كانتا بدون مرافقٍ ذكر. حاول سائق السيارة إقناع الرجل بكل الطرق، لكنّ الرجل المسؤول بسلطاته اللامحدودة هدده بتحميله شخصياً والشركة التي يعمل فيها المسؤولية كاملة "عما يحدث". وما يحدث هو أن سيارته تسهل سفر النساء بدون موافقة أولياء أمورهنّ الذكور. بالطبع لم يكن لدى السائق المسكين خيار آخر فتنحى عن المسؤولية ومع ذلك استمر في محاولاته إيجاد حل وسط.
الساعة التاسعة ليلاً، المنحدر المرعب، سيدتان في مواجهة السلطة الذكورية كاملة وبدون أي وسيلة حماية (قانونية على الأقل) ولا خيارات. كان الحل الوحيد هو أن تعودا من حيث أتيتا وفي السيارة نفسها، وأن تتحمل الشركة من الآن مسؤولية أن تفرض على النساء إحضار المحرم معهنّ إن كنّ يردن السفر.
الرعب هو في التفاصيل التي لا تُحكى، في تشويه العلاقات الاجتماعية والأسرية، في التذكير دوماً بجسد المرأة بحيث تصبح مجرد جسد/جنس بالنسبة للآخر، وتتاح شرعية التدخل لأي كان لحماية هذا "الشرف"، ويصبح من حق رجل أن يعتدي على رجل آخر بحجة أن زوجته أو أخته غير منقبة، ويَذلّ مراهقٌ يحمل سلاحاً أستاذاً جامعياً يطلب إذناً لسفر ابنته.
في تلك الليلة، نجحت الشابتان في العبور. كان الثمن مذلاً كالعادة، لكنهنّ عبرن على عكس كثيرات. توصلن إلى حل مع الرجل بوساطة من السائق، يقتضي أن - في تلك الساعة من الليل - يتواصلن مع أولياء أمورهنّ الذين سينطلقون إلى أقرب مركز شرطة، للإقرار بموافقتهم على سفر "محارمهم" والتعهد بأن تكون المرة الأخيرة التي يسمحون لهنّ بالسفر لوحدهنّ. تختم هذه التعهدات وترسل عبر الهاتف للمسؤول - السلطة.
نصف حياة: ما الذي تواجهه اليمنيّات إضافة إلى الحرب؟
18-12-2021
حجاب المرأة اليمنية تحايل على السواد
01-10-2020
قيل الكثير منذ ذلك الوقت عن إجراءات التقييد - العنف السلطوي ضد النساء في مناطق الحوثيين: من الرقابة على ملابسهنّ، وإغلاق النوادي النسائية والكافيهات المختلطة، والهجوم والكمائن على المطاعم والحدائق وطلب وثائق الزواج، إلى التسريح من الوظيفة، والفصل بين الجنسين في فصول الدراسة وفي حفلات التخرج الجامعية... كل هذه الإجراءات بهدف واحد سام ونبيل: الحفاظ على الشرف، وعلى الهوية اليمنية المتدينة، لكنّ ما لم يُقل، هو قصص النساء اللواتي يتعرضن لهذا، مشاعرهنّ وما يعني لهنّ هذا العنف الممنهج، عجزهنّ وقلة حيلتهنّ.
أتذكر في كانون الأول/ ديسمبر من العام الماضي 2022، كانت إحدى زميلاتي الألمعيات على موعد لحضور فعاليتين تتعلقان مباشرة بعملها ومسيرتها المهنية، وكانت في غاية الحماس. أكدت أنّ أخاها سيسافر معها إلى عدن وبعدها ستنطلق إلى دولة أخرى. كنت على تواصل معها، وقبل السفر بيوم واحد أبلغتنا أنّ الأخ غيّر رأيه وأنّها لم تعد تستطيع السفر.في ذلك الوقت، لم تكن مسألة إحضار تصريحٍ فقط من ولي الأمر مؤكدة بعد. يومها بكيت لأجلها، ورسمت الصورة الكاملة لحدث مثل ذاك: الرجاء الأولي للأخ، تعداد المخاطر، تدخل الجميع في ذلك القرار، الاستخفاف بأهمية السفر وعمل المرأة من أساسه، ثم الموافقة أخيراً، وتبدأ هي استعدادها، حقيبة السفر، تسوق سريع، التفكير في الملابس، إعداد مادة المشاركة، البحث عن الأماكن التي ستزورها في البلد الجديد، فكرة الحرية المحدودة ليومين أو ثلاثة. ثم ببساطة: كلا، لا داعي للسفر.
ظالم ألاّ تسمع قصص المظالم قصةً قصة، كي يدرك الآخر مدى فداحتها، ومثلما لا يجوز أبداً أن يتحول القتلى إلى أرقام، لا يجوز أبداً أن تكون مأساة النساء مجرد خبر على مواقع التواصل الاجتماعي. مأساتهنّ، يجب أن تروى، والقهر والعنف يجب أن يعرّفا كما يجب: لا فقط العنف الجسدي ولا السجون والمعتقلات، ولكن الضيم والأذى النفسي والعقلي... هذا التاريخ الطويل من الانتهاك ومن الحرمان، من التحكم في أجسادهنّ وإرادتهنّ.
لم تستطع السيدة ملء سيارتها بالديزل لأن العامل طلب منها محرماً لتعبئة الديزل. سيدة ستينية أعيدت من محطة الحافلات لأن لا تصريح من محرم لديها، وحين أحضرت ابنها رفضوا طالبين زوجها أو أخاها أو أباها. النساء المسرّحات من أعمالهنّ، اللواتي كنّ المعيلات الوحيدات لأسرهنّ، الزوجة والزوج اللذان تم إيقافهما في الحديقة العامة واقتيادهما إلى مركز الشرطة للتأكد من أنهما متزوجان فعلاً.
هذا هو فحوى العنف الممنهج: أن يصدّق الناس أن هذا هو الطبيعي. مثلما استسلموا لفكرة أن لا رواتب منذ العام 2016، وأنه يجب عليهم التعامل مع السوق السوداء التي تشرف عليها "الجماعة"، سيكون عليهم الآن تقبل فكرة مجالٍ عامٍ بدون نساء، وتطبيع فكرة أحقية السلطة/الجماعة في صون شرف المجتمع، والتعود على مسألة الإذلال التي تواجهها النساء وأولياء أمورهنّ.
أدلى زعيم الحوثيين في 17 حزيران /يونيو الفائت بتصريحات وتعليمات جديدة، هدفها صون الشرف المجتمعي وتوجيه المجتمع (الذكور الغافلين) وتذكيرهم بمسؤولياتهم. يقول قائد الجماعة: "الزوج معني بأن يصون حياته الزوجية ويحافظ على زوجته من أي اختراق، والزوجة لا حاجة لها في أن يكون لها علاقات مباشرة بالرجال الأجانب، لأن الأمور العملية التي تحتاج تواصلاً مباشراً تأتي في إطار مسؤولية الرجال" (1).
خطوة أخرى رسمية على طريق محو النساء من المجال العام. فالوظيفة كانت الملجأ الأخير، بينما لم تعد الشوارع مساحات آمنة، ولا متنفس آخر: لا كافيهات ولا نوادي ولا جامعات ولا مطاعم، ولا حرية تنقل ولا سفر. وقريباً يتحقق الهدف النهائي، وتنحصر أدوار النساء في مهمتهنّ الطبيعية الوحيدة، وهي إنجاب المزيد من الجنود ومن زوجات المستقبل. أما طموحهنّّ في أن يكنّ جزءاً من الحياة العامة ومشارِكاتٍ في صنعها، فقد قضى عليه بضربةٍ واحدةٍ حين قال: " مشاورة النساء في مجالات مسؤولية الرجال الأساسية هي استشارة من غير ذوي الاختصاص في هذا الدور، فهو دور لا تجربة للنساء فيه" (2).
جمل غير واضحة لكنّ المقصد واضح.
بالملموس
يكمن الرعب وراء هذه التصريحات التي تستنسخ تجربة طالبان الأفغانية في التفاصيل التي لا تُحكى، ما يجري خلف الأبواب المغلقة وفي المساحات الأصغر والأضيق. هو هذا التشويه للعلاقات الاجتماعية والأسرية، حيث يتم التذكير مراراً بجسد المرأة بحيث تصبح مجرد جسد/جنس بالنسبة للآخر، وشرعية التدخل لأي كان وبأي آلية متاحة لحماية هذا الشرف، فيصبح حقاً مشروعاً للرجل أن يعتدي على رجل آخر بحجة أن زوجته أو أخته غير منقبة، ويَذل مراهق يحمل سلاحاً أستاذاً جامعياً يطلب إذناً لسفر ابنته، وتنشأ أجيال كاملة من الذكور، أقصى مخاوفهم وأكثرها ظلاماً هو أن تتواجد إناث في محيطهم يكون "شرفهنّ وأجسادهنّ" مسؤوليتهم.
تبني الجماعة الحوثية في اليمن على ما أسسه السابقون وشرعنه المجتمع: نظام علي عبد الله صالح وسواعده من الإسلاميين، والزخم الوهابي من الجارة السعودية الذي اكتسح كل شيء - في عقود خلت - عبر فاعليهم المحليين، من المناهج الدراسية إلى الملبس والمأكل والمدارس الصيفية وصولاً إلى الدستور ذاته. ما تفرضه جماعة الحوثيين الآن، هو حاضرٌ في الأساس!!
تتداول مواقع التواصل الاجتماعي الحكايات التي يمر عليها القارئ مروراً عادياً كونها الطبيعي والحتمي: السيدة التي لم تستطع ملء سيارتها بالديزل لأن الرجل العامل هناك طلب منها محرماً لتعبئة الديزل؛ السيدة الستينية التي أعيدت من محطة الحافلات وهي المعتادة على زيارة بناتها كل سنة في المدينة الأخرى لأن لا تصريح من محرم لديها، وحين أحضرت ابنها رفضوا أيضاً السماح لها بالصعود إلى الحافلة، طالبين زوجها أو أخاها أو أباها! النساء المسرّحات من أعمالهنّ واللواتي كنّ المعيلات الوحيدات لأسرهنّ؛ الزوجة والزوج اللذان تم إيقافهما في الحديقة العامة واقتيادهما إلى مركز الشرطة للتأكد من أنهما متزوجان فعلاً؛ الفتاة التي لا محرم من الدرجة الأولى لديها، فهي يتيمة الأب، بدون أخ ولا جد ولا عم، ومع هذا لا تستطيع إقناع رجل لم يذهب إلى المدرسة بضرورة السفر لاستكمال منحة الدكتوراه.. الخ من القصص.
هذا بالضبط هو فحوى العنف الممنهج: أن يصدّق الناس أن هذا هو الطبيعي. مثلما استسلم الناس لفكرة أن لا وجود للرواتب منذ العام 2016، وأنه يجب عليهم التعامل مع السوق السوداء التي تشرف عليها "الجماعة"، سيكون عليهم الآن تقبل فكرة مجالٍ عام بدون نساء، وتطبيع فكرة أحقية السلطة/الجماعة في صون شرف المجتمع، والتعود على مسألة الإذلال التي تواجهها النساء وأولياء أمورهنّ، والفرق أنّ النساء حين يتعرضن للعنف والإذلال يبتعدن أكثر، مجبرات على التنازل والانمحاء بينما يحوِّل الذكورُ إذلالَ السلطة إلى عنف موجه تجاه الفئات الأضعف، وهنّ هنا النساء بطبيعة الحال.
لا تفارق الذهن المشاهد الموجعة للفتيات الأفغانيات وهن يذرفن الدموع بعجز حين صدر قرار طالبان بإغلاق المدارس الحكومية. مثلما يحدث في اليمن، تصعد الجماعة هناك بقرارت جديدة بين الحين والآخر، مثلاً قبل فترة قصيرة قضت بمنعهنّ من دخول امتحانات القبول في الجامعة ثم قرار إغلاق محال التجميل (كمتنفس أخير). ليس للأفغانيات من ملجأ ولا حليف، وما تعمله طالبان مبني على شبه قبول مجتمعي، تماماً كما يحدث في اليمن: تبني الجماعة ما أسسه السابقون وشرعنه المجتمع: نظام علي عبد الله صالح وسواعده من الإسلاميين، والزخم الوهابي من الجارة السعودية الذي اكتسح - في عقود خلت - عبر فاعليهم المحليين كل شيء، من المناهج الدراسية مروراً بالملبس والمأكل والمدارس الصيفية وصولاً إلى الدستور ذاته. ما تفرضه جماعة الحوثيين الآن، هو حاضر في الأساس، فقط لم يكن بصورة رسمية كما هو الآن، ويمكن أن نشهده أيضاً في المناطق التي تسيطر عليها الحكومة الشرعية...
تقلد الجماعة الحوثية بآليات قمعها ما يحدث في طهران. ربما الفارق أن في طهران، على غير صنعاء وكابول - حتى الآن-، حركة مقاومة أكثر تأصلاً وقدماً ولديها حلفاء أكثر، والأحداث الأخيرة بينت قدرة الإيرانيات على المقاومة والتلاحم مع المجتمع كما بينت أيضاً رعب النظام من حركات كهذه. أما في اليمن، أيا كانت الحجج التي من الممكن استخدامها لشرح خطورة ما يحدث، ولكارثية عواقبه مستقبلاً، لن تجد كثيرا من الآذان الصاغية، فماذا يعني أن تفقد كثير من العائلات مورد رزقها الذي اضطلعت به النساء في مرحلة الحرب؟ سيكون الرد أنّ كل العائلات صارت بدون رواتب منذ 2016 ولا مورد رزق. وماذا يعني ألاّ تجد مدارس للفتيات خلال عقد من الزمن ثم تصنع أجيالاً كاملة من الجهلاء؟ ببساطة، لا حاجة للفتيات بالمدارس، الأهم أن يتعلمن الطبخ والكنس ويصبحن زوجات مطيعات.
1- https://www.ansarollah.com/archives/615269
2- https://www.ansarollah.com/archives/615268