عندما تنتحر الأرض جزعاً ممن يحكمها

عقدا الخراب المتعمد، إرثٌ سيُكتب في تاريخ كل من شاركوا في حكم العراق منذ 2003 إلى اليوم. وفي الوقت الذي يحاول بعض الناشطين في المجال البيئي إيصال أصواتهم واقتراح حلول، يجابَهون إما بالتجاهل أو بالتهديد أو حتى بالخطف.
2023-08-03

ديمة ياسين

كاتبة صحافية، من العراق


شارك
هور الحويزة، العراق.

أحاولُ الكتابة منذ مدة، ولكنني كلما جلست أمام لوحة المفاتيح والأحرف، تَغلّب عليَّ شعورٌ بالإحباط مما يحدث في العراق. كثير من العراقيين يشاركونني هذا الشعور وهم يرون الأرض تحتضر وتغوص في الخراب كل يوم. لم أخطط أبداً لأن أفتتح المقال بكل هذا التشاؤم، إلا إنني لم أجد في اللغة غير ذلك مما يعبر عما نشهده في السنين الأخيرة.

عقدان من الخراب

استجمعتُ كل قوتي وقررتُ أن أعود إلى الحي الذي عشتُ فيه في بغداد، بعد غيابٍ يقارب ثلاثة عقود. كانت ذاكرتي تلاحق الطريق من بيت العائلة الذي باعته والدتي في عام 2016 بعد تشبث دام لعقود، إلى مدرستي، إلى شارع الحي الرئيسي والشوارع الفرعية حيث عاش رفاق ورفيقات الطفولة والمراهقة. 

كنت قد زرتُ بغداد قبلها بسنتين لأول مرة بعد غياب طويل جداً لكنني حينذاك لم أجرأ على الاقتراب من شارع البيت أو حتى زيارة الحي نفسه. كيف للذاكرة أن تُمحى تماماً ولا يبقى منها سوى صورٍ يحملها البعض ويكاد لا يصدّقهم أحد؟ مثلما اختفى بيت طفولتي وحديقته ونخلات الشارع الباسقات وأشجار التوت الضخمة في شوارع الحي الفرعية، اختفت المدينة تحت طبقات من التراب والإهمال والتشويه المتعمد. 

القصة تكررت في كل محافظات العراق ومدنه. قطعٌ متعمد لأشجار معمرة، تجريف لبساتين وأراضٍ زراعية أشبعت بطون العراقيين لآلاف السنين، هدم لمبانٍ تاريخية تحمل إرث البلد وقصص من عاشوا على أرضه. أينما ذهبتُ في العراق يطالعني نفس الإعلان مكتوب على معظم مبانيه "هدم الدور" أو "رفع الأنقاض"، يليه رقم هاتف للاتصال بمن سيهدم لك التاريخ ومن سيرفع أنقاضه. هل يُبنى شيء في العراق إذاً؟ نعم، هناك من يبني "المولات" التجارية الضخمة على بقايا التاريخ وبقايا البساتين. هناك أيضاً من يلغي أحياء بأكملها فيهدم بيوتها القديمة ويقطع أشجارها المعمرة ليكبِّر صحون المزارات الدينية، وهناك من يبني مجمعات سكنية اسمنتية تباع الشقق فيها بأسعارٍ خيالية، ولكنها تأتي مع "حراسة"، وبوابات حديدية مغلقة على ساكنيها تفصلهم عن مدن تكسرت أرصفتها واختفت أشجارها بسبب سياسات الفوضى والإهمال وصفقات الفساد وسوء التخطيط التي تتّبعها الجهات الحكومية. يطل ما تبقى من ثمرات النارنج بخجلٍ من فوق سياج حديقةٍ مهملةٍ في بيت قديم في بغداد. تنام الثمار على سياج البيت يغطيها التراب كما يغطي كل شيء آخر. منذ زمنٍ ليس بالبعيد، كانت رائحة القداح - زهرة النارنج والبرتقال - هي ما يميز شوارع بغداد في موسم الربيع، لا ينافس عطرها سوى عطر شبو الليل - الياسمين الليلي التي كانت تفوح به شوارع المدينة. اختفت هذه الرائحة تماماً واستبدلت برائحة عوادم السيارات النفاذة وثقل العواصف الترابية، مثلما استَبدلَ التصحرُ الناتج عن تجريف البساتين، ظلالَ النخيل في البصرة، حتى استحالت ضفتا شط العرب التي كانت تحفّها بساتين النخيل، إلى فضاء أصفر مفتوح لا شيء فيه سوى الجفاف، وبضع جذوع هنا وهناك لبقايا نخلات بلا رؤوس، تطل على بحرٍ مياهه ملوثة ببقايا الحروب، من سفن صدئة متروكة يسبح حولها أطفال البصرة، هرباً من صيف المدينة الذي تزداد حرارته شدة كل عام.

مثلما اختفى بيت طفولتي وحديقته ونخلات الشارع الباسقات وأشجار التوت الضخمة في شوارع الحي الفرعية، اختفت المدينة تحت طبقات من التراب والإهمال والتشويه المتعمد.

هناك من يبني مجمعات سكنية اسمنتية تباع الشقق فيها بأسعارٍ خيالية، ولكنها تأتي مع "حراسة" وبوابات حديدية مغلقة على ساكنيها تفصلهم عن مدن تكسرت أرصفتها واختفت أشجارها بسبب سياسات الفوضى والإهمال وصفقات الفساد وسوء التخطيط التي تتّبعها الجهات الحكومية.

  صغرت مساحة غابات الموصل التي كانت مزاراً صيفياً للعراقيين حتى كادت تختفي، بينما يقف ما تبقى من أشجارها حزيناً مفتقداً لتلك الكثافة الخضراء التي كانت. في حين استبدلت تشققات الأرض وعطشها سيقان القصب والبردي ومياه الأهوار في جنوب العراق، وهي تُعد من أقدم المسطحات المائية في العالم ويقدر عمرها بآلاف السنين، حتى تم إدراجها من قبل منظمة اليونسكو عام 2016 على لائحة التراث العالمي. اختفى تماماً "هور الحويزة" في محافظة ميسان جنوب العراق، كأنه لم يكن، واختفى معه نظامٌ بيئيٌ طبيعيٌ قديمٌ ومتكامل، من أسماك وطيور وحيوانات ونباتات ومجتمع بشري لم يعرف سوى تلك الحياة. جفّ هور الحويزة تاركاً وراءه جثث الجواميس النافقة والأسماك الميتة وبقايا بيوت القصب التي بناها بشرٌ هجروا المكان بعد أن انقطعت سبل الحياة فيه. حال باقي أهوار العراق، في الناصرية والبصرة، لا يدعو للتفاؤل، فبعد أن قامت تركيا ببناء سد إيسلو على منبع نهر دجلة وسدود أخرى على نهر الفرات، وكلاهما ينبع من أراضيها، انخفض مستوى مياههما بشكل ملحوظ. القصة ذاتها تكررت بعد أن قطعت إيران من جانبها روافد مياه مهمة كانت تصب في الأراضي العراقية مثل نهر الكرخة ونهري سيروان والكارون.

كوارث بيئية تهدد العراق ولا توجد حلول جدية أو مؤثِّرة من قبل المسؤولين. "عقدا الخراب المتعمد"، إرثٌ سيكتب في تاريخ كل من شاركوا في حكم العراق منذ 2003 إلى اليوم. في الوقت الذي يحاول بعض الناشطين في المجال البيئي إيصال أصواتهم واقتراح الحلول، يجابهون في معظم الأحيان إما بالتجاهل أو بالتهديد أو حتى بالخطف. هذا تماماً ما حدث مع الناشط البيئي المهتم بالحفاظ على الأهوار جاسم الأسدي، فقد اختطفه مسلحون عندما كان في سيارته على الطريق السريع بين مدينتي الحلة وبغداد. 

اختفى تماماً "هور الحويزة" في محافظة ميسان جنوب العراق، كأنه لم يكن، واختفى معه نظامٌ بيئيٌ طبيعيٌ قديمٌ ومتكامل، من أسماك وطيور وحيوانات ونباتات ومجتمع بشري لم يعرف سوى تلك الحياة. جفّ هور الحويزة تاركاً وراءه جثث الجواميس النافقة والأسماك الميتة وبقايا بيوت القصب التي بناها بشرٌ هجروا المكان بعد أن انقطعت سبل الحياة فيه.

"وبالأخير، ما يبقى بس العراق". وما زلنا نرددها، لكن يبدو أن أرض العراق قررت الانتحار جزعاً من كل مَن حكموها وحولوها من أرض الرافدين وأرض السواد - اسم أطلق عليها لشدة خضرة نخيلها - إلى صحراء يسكنها التراب واليباس.

اختفى الأسدي رئيس جمعية "طبيعة العراق" البيئية في شهر شباط/فبراير الماضي، حتى إطلاق سراحه بعد أن تحولت قضيته إلى قضية رأي عام أدت إلى تدخل رئيس الوزراء لإطلاق سراحه من الجهة "المجهولة" التي اختطفته وعذبته لمدة أسبوعين. لم يُكشف عن هذه الجهة المجهولة ولم يُحاسب أحد، كما لم يُسأل رئيس الوزراء عن كيفية توصله إلى الأسدي أو مع مَن تفاوض لإطلاق سراحه. بينما اعتقلت استخبارات مدينة الناصرية في منتصف شهر تموز/يوليو من هذا العام، الشاب المعروف باسم "لاري" وهو صاحب حملة "هذه ليست قمامتي، ولكنه وطني"، والتي تهدف إلى تنظيف شوارع مدينة الناصرية في جنوب العراق بجهود شخصية. وقد حققت الحملة منذ انطلاقها تفاعلاً ودعماً شعبياً كبيرين في الناصرية نفسها وفي باقي مدن العراق، ولربما ساعد ذلك لاحقاً في تسهيل إطلاق سراح "لاري" بعد ضربه وتعذيبه ليومين. كانت الحجة هي رسمه لجدارية في إحدى شوارع المدينة للشاعر العراقي الكبير عريان السيد خلف. اعتقله من رأى أنّ الرسمة فيها شبَه من الرئيس السابق صدام حسين.

 لم يطلق سراح "لاري" إلا بعد تداول قضيته بشكل كبير على وسائل التواصل الاجتماعي، وليس قبل أن تجبره استخبارات الناصرية على توقيع تعهد بعدم الرسم على الجدران وبالتوقف عن حملة التنظيف تماماً. لم يُحاسَبْ أحد ولم يعد هناك من ينظف شوارع المدينة، التي تعدّ من أكثر مدن العراق إهمالاً، كما أنّها من المدن التي تتعرض دائماً للقمع من قبل الجهات الحاكمة بسبب شدة سخط أهلها ومعارضتهم للفساد المستشري في دوائر الدولة. كانت الناصرية من المدن الرئيسية التي شاركت بقوة في حراك تشرين الأول /أكتوبر 2019، وخسرت كثيرا من أبنائها جرّاء قمع السلطات العنيف.

أزمات دولية ومعارك وهمية

في ظل كل تلك الكوارث البيئية، ومع إطلاق الناشطين البيئيين لحملة "الأهوار تستغيث" التي ما زالت تشهد تفاعلاً شعبياً كبيراً، اختارت الجهات الحاكمة الاهتمام بموضوع آخر تماماً. فقد أقدم منذ أيام لاجئ عراقي في السويد على حرق نسخة من القرآن مع علم عراقي مطبوع على ورقة A4، بغرض الاستفزاز والإثارة العاطفية، لتخدم طموحه الذي صرح عنه للصحافة، وهو الترشح مستقبلاً للبرلمان السويدي ضمن قائمة "حزب الديمقراطيين السويديين" اليميني. 

يبدو أن طموحات سلوان موميكا السياسية لم تتحقق في العراق على الرغم من تأسيسه لمليشيا كانت تعمل تحت جناح الحشد "الشعبي العراقي" بعد احتلال تنظيم داعش الإرهابي لمدينة الموصل. لذلك قرر خلق مسرحية سخيفة على أمل تحقيق طموحاته في السويد هذه المرة. وقعت الحكومة العراقية في فخ الاستفزاز وحولته إلى أزمة دبلوماسية، فقامت بطرد سفيرة السويد في العراق وسحب القائم بالأعمال العراقي من السويد. كما تدور أنباءٌ حول تعليق عمل شركة "أريكسون" السويدية في العراق، والتي لم تُعلّق سابقاً حتى حين ظهرت شكوكٌ تحوم حولها، وخضوعها لتحقيقات من مؤسسات دولية من ضمنها وزارة العدل الأمريكية على خلفية احتمال تورطها في تمويل أو على الأقل بتسهيل اتصالات تابعة لتنظيم داعش الإرهابي في الموصل، بالإضافة إلى تورطها في صفقات فساد في العراق.

"وبالأخير، ما يَبقى بس العراق"

قالها "صفاء السراي"، أيقونة حراك "تشرين 2019" ورددناها لنصبّر أنفسنا، بعد أن خسرناه هو وأكثر من 800 روح قُتلت بدم بارد خلال سنة واحدة، في حراك ثوري كان شعاره السلمية لم يرفع فيه المتظاهرون سلاحاً واحداً، لكن رُفعت ضدهم كل أنواع الأسلحة وأُطلقتْ عليهم كل أنواع المليشيات المسلحة. "وبالأخير، ما يبقى بس العراق". وما زلنا نرددها، لكن يبدو أن أرض العراق قررت الانتحار جزعاً من كل مَن حكموها وحولوها من أرض الرافدين وأرض السواد - اسم أطلق عليها لشدة خضرة نخيلها - إلى صحراء يسكنها التراب واليباس. هو التاريخ يعود دائماً ليقتص بعنف من كل من أساؤوا إلى تلك الأرض، ولو بعد حين.

مقالات من العراق

سجون "الأسد" وسجون "صدام حسين"

ديمة ياسين 2024-12-12

لا أزال إلى اليوم لا أستطيع النظر طويلاً إلى الصور التي التُقِطتْ لوالدي في أول يوم له بعد خروجه من المعتقل، وهو يجلس تاركاً مسافة بيننا وبينه، وتلك النظرة في...

بغداد وأشباحٌ أخرى

نبيل صالح 2024-12-01

عُدتُ إلى بغداد ولم أعد. تركتُ قُبلةً على قبر أُمي ورحلتُ. ما حدث ويحدث لبغداد بعد الغزو الذي قادته جيوش الولايات المتحدة الأمريكية، هو انتقامٌ من الأسلاف والتاريخ معاً.

فتاة كقصبة ال"بامبو"

فؤاد الحسن 2024-09-29

"فاطمة" لم تستطع نيل موتها، على الرغم من دنو الموت، وتنفسه الثقيل الملتصق بتراب الأرض. فقد اختُطِفت مِن قِبل عناصر تنظيم "داعش"، على الرغم من سنواتها التسع، التي لم تنضج...

للكاتب نفسه

سجون "الأسد" وسجون "صدام حسين"

ديمة ياسين 2024-12-12

لا أزال إلى اليوم لا أستطيع النظر طويلاً إلى الصور التي التُقِطتْ لوالدي في أول يوم له بعد خروجه من المعتقل، وهو يجلس تاركاً مسافة بيننا وبينه، وتلك النظرة في...

نخلات غزة تشبه نخلات العراق

ديمة ياسين 2024-02-09

يمسك الميكرفون رجل ستيني يتحدث بإنجليزية مثقلة بلكنة عربية واضحة، تشبه ثقل عناقيد التمر في نخل بلادنا، بطيئة، بل متمهلة، مثل ثمار الزيتون وهي تكبر وتعمّر في أرض فلسطين "لا...