احتلت الأخبار المتعلقة بالفساد حيّزاً كبيراً من النقاشات العامة مؤخراً في مصر، خاصةً في ما يتعلق بقضية فساد القمح التي ارتبطت بوجود مافيا تهدر المال العام بالتلاعب في توريدات القمح. وقد شكّل مجلس النواب لجنة لتقصّي الحقائق وأحال الأمر برمّته إلى النيابة من أجل التحقيق في إهدار ملايين الجنيهات، بينما استقال وزير التموين، المَعني الأول بالأمر، وعيّن آخر مكانه لديه خلفية عسكرية.
القمح والفساد: أرقام وحقائق
تواجه مصر أزمة اكتفاء ذاتي من القمح منذ سنوات طويلة، وهي تقوم بإنتاج نصف ما تحتاجه لاستهلاكها، وهو حوالي 17 - 20 مليون طن سنوياً في حين يبلغ إنتاجها حوالي 8 - 9 مليون طن. ويستهلك دعم رغيف الخبز حوالي تسعة ملايين طن سنوياً، أي أنّ إنتاج مصر بالكاد يكفي الرغيف المدعم. ومن المفارقات أنّ هذا الكمّ غير الكافي من إنتاج القمح يذهب إلى أصحاب المصانع الخاصة بالمعكرونة والبسكويت وغيرها في حين تتجه الحكومة إلى الاستيراد من أجل صناعة الخبز المدعم.
ولتشجيع الفلاحين على زراعة القمح من أجل زيادة الإنتاج وتحقيق الاكتفاء الذاتي، قامت الدولة بتحديد مبلغ دعم قدره (1300) جنيه للفدان. ولكنّ بعض المسؤولين والتُجَّار يقومون بتسجيل مساحات وهمية من الأراضي المنزرعة بالقمح من أجل الحصول على الدعم المقدر بمليارات الجنيهات، بالإضافة إلى توريد شحنات من القمح المستورد إلى الصوامع (مكان تخزين القمح) باعتباره قمحاً محلّياً، وهو قمح أقل جودة، حيث يقومون بتمرير القمح المستورد بطرق غير مشروعة، بعد شرائه بحوالي 1500 جنيه للطن من الخارج ويبيعونه للحكومة باعتباره إنتاجاً مصرياً بسعر يصل إلى 2700 جنيه للطن، أي بالسعر العالمي ذاك مُضافة إليه قيمة الدعم الذي ينالونه من الحكومة.
لجنة تقصّي الحقائق
قرّر مجلس النواب في جلسته في أواخر حزيران 2016 تشكيل لجنة لتقصي الحقائق حول موضوع الفساد ومافيا التلاعب في توريدات القمح وإهدار المال العام لصالح مستوردي القمح، وذلك إعمالًا لنص المادة (135) من الدستور المصري التي تنصّ على أنّ "لمجلس النواب أن يُشكّل لجنة خاصة من لجانه بتقصّي الحقائق في موضوع عام"، وأن تستجيب جميع الجهات الحكومية إلى ما تطلبه اللجنة من وثائق أو مستندات أو سماع أقوال، وهو ما يتّسق مع المادة (240) من اللائحة الداخلية للمجلس.
وقد عقدت اللجنة 85 اجتماعاً لسماع أقوال المختصين والمسؤولين والإطلاع على الوثائق والمستندات المختلفة، وقامت بتسع زيارات ميدانية لأماكن تخزين القمح في مختلف محافظات الجمهورية، وتوصّلت إلى أن هناك حالات فساد موثقة توجب المسؤولية السياسية على وزير التموين والتجارة الداخلية باعتباره المسؤول الأول عن أوجه الفساد والتلاعب في منظومة القمح، سواء في توريده أو إدارة مخزونه أو طحنه أو حتى في إنتاج رغيف الخبز.
كذلك رأت اللجنة أن هناك العديد من الشخصيات التي تقع عليهم المسؤولية القانونية، سواء كانت جنائية أو تأديبية، وهم من الموظفين العموميين بالوزارات المعنية (وزارة التموين – وزارة الزراعة – وزارة الصناعة والتجارة الخارجية – بعض شركات الصوامع – بعض أصحاب مواقع التوريد والتخزين من القطاع الخاص المستأجرة لصالح شركات وزارة التموين).
وقد حرّرت اللجنة محضراً بواسطة رؤساء مباحث التموين المرافقين للزيارات الميدانية للجنة، وتمّ تحويل الأمر إلى النيابة العامة للتحقيق فيه. واشتمل التقرير النهائي للجنة على محضر إثبات لكل حالة من حالات الفساد أو المخالفة للقانون، وكذلك الوقائع والمستندات المختلفة التي تؤكد وجود فساد كبير، ولذا فقد قرّر مجلس النواب إحالة الأمر برمّته للنيابة العامة وذلك في الجلسة المنقعدة أواخر آب/ أغسطس الماضي. وتبع ذلك إصدار النيابة العامة بياناً رسمياً أكّدت فيه أنه تكشف من التحقيقات قيام بعض أصحاب الصوامع والشون بالاشتراك مع اللجان المشرفة على تسلم الأقماح بالتلاعب في كميات الأقماح المحلية، بإثبات توريد كميات بالدفاتر أزيد من التي يتم توريدها فعلياً، فضلًا عن الاستيلاء على الأقماح المحلية المدعومة من الدولة واستبدالها بأخرى أقل جودة وسعراً للاستيلاء على فوارق السعر بينهما بما يقدر بحوالي نصف مليار جنيه مصري.
عسكرة وزارة التموين.. هل هو الحل؟
تزامن مع الإعلان عن تقرير لجنة تقصي الحقائق استقالة وزير التموين بعد الإعلان عن فساد قُدّر بمئات الملايين من الجنيهات في عمليات توريد القمح الذي تتلقاه الصوامع من المزارعين ومن التجار. وقد ارتبط ذلك بهجوم إعلامي شرس على الوزير المستقيل المقيم في أحد فنادق القاهرة الكبرى بنفقات مالية كبيرة، مما أثار شكوكاً حول وجود شبهة فساد تطاله.
وفي ظل حالة عسكرة كبيرة شهدتها مصر مؤخراً كان آخرها حركة مصغّرة لتغيير المحافظين، شملت ستة محافظين كان خمسة منهم لواءات جيش، تمّ تعيين لواء في الجيش وزيراً جديداً للتموين، وهو كان قد تولّى منصب رئيس هيئة إمداد وتموين القوات المسلحة في السابق. وعلى إثر تبعات أزمة فساد القمح، قام الوزير الجديد بإقالة رئيس مجلس إدارة الشركة القابضة للصوامع، وكذلك تغيير رئيس جهاز تنمية التجارة الداخلية. ولا تزال التحقيقات جارية مع حوالي 40 مسؤولاً تورّطوا في قضايا فساد القمح، حبس أغلبهم على ذمة التحقيقات ومُنعوا من التصرف في أموالهم أو السفر إلى الخارج. وقد عَرض ثلاثة منهم التصالح وسداد قيمة المبالغ المالية المقدرة بحوالي 150 مليون جنيه مصري، ولم يُبَتّ في الأمر حتى الآن.
وفساد القمح هو مجرد ملف واحد من ملفات فساد عدة في مصر، ومع وجود مافيا تنهب مليارات الدولارات في ظل تورُّط وتواطؤ عدد كبير من المسؤولين. يبدو أن الأزمة لن تنتهي طالما تظل مصر عاجزة عن تحقيق الاكتفاء الذاتي من القمح في ظل سياسات حكومية متضاربة. وكما هو معتاد، فسيظل المواطن المصري البسيط هو مَن يدفع تكلفة الفساد الباهظة!