يستيقظ بائع الكتب في العاشرة صباحاً كل يوم، لديه ساعتان ليتمضمض ويغفو من جديد واقفاً عند باب الحمام، ولديه ساعة أخرى لكي لا يستحم ولا يكوي ملابسه ولا يفطر، ساعة كاملة من أن لا يفعل شيئًا على الإطلاق، وهذه واحدة من أندر المواهب يمتلكها "سمير هيكل"، وهو اسمه بين زبائنه المواظبين على تبضع كتب السياسة والتاريخ منه، فسمير هو أنشط من يبيع هذه الكتب.
يدفع عربته ويعبر الجسر الذي استيقظ مثله قبل قليل بعد غفوة طويلة فوق نهر العشّار، ومثله أيضًا: العشّار لا يغسل وجهه، لم يغسله منذ عقود طويلة، آسن ومظلم ولم يعد منجماً للذكريات، أتلف البعوض والطحالب والأزبال كل اللحظات القديمة التي يعرفها سمير.
"كنت أرمي الفلس في هذا النهر وأراه يتلألأ في القاع. العشّار لم يعد يتفرع من شط العرب بل يتغوط فيه"، يردد سمير هذه الجملة منذ أربعين سنة تقريباً.
وصل البارحة إلى ركنه داخل زقاق فرعي في السوق اعتاد أن يضع بضاعته الكتبية عنده، تبدو وجوه الكتّاب والمفكرين وكتّاب المذكرات في أغلفة كتبه تحدّق فيه، شعر بأن تشرشل يقول له بأنها ستمطر، لمْلمنا وعد إلى البيت، بينما يضيف طبيب الرئيس: صحتك أهم شيء عندنا، ارجع ونم حتى لا تصاب بالنقرس! يصرخ فيهما "كنت خياط البلاط"، النقرس هو داء الملوك.
بدأ السوق يخلو من مرتاديه، ليس عليه أن يصدّق الكتب، يسمي نفسه أحياناً حينما يسكر رفقة أصحابه، بائع الأكاذيب. يبيع الأكاذيب ولا يصدقها. حينما يكرع كأسه الثالث يدلي بنظريته الثقافية التأسيسية: "تناص، تناص، وحقكم كله تناص، تعرفون شنو التناص؟ يعني أن أبصق في فمك وأنت تبصق في فم صاحبك، وصاحبك يبصق في فم صاحبه، وهكذا نتشارك كلنا بصقة واحدة. كذابون وحقكم كذابون، شنو هوه التحليل السياسي، يعني نخيطلك حقيقة على المُرام، على المقاس، نشتري خوفك ونعطيك قناعة بأهمية أن تكون جبان وغبي وعنصري ومنحط وجاهل، كذابون، كذابون". يقول كذابون بالكاف لا بالجيم العراقية، وهذا يعني بالنسبة لندمائه بأن العرق تغلغل في عظامه وعليهم أن يقذفوه في بيته فوراً.
في ذلك اليوم، أمطرت فعلاً حسب نبوءة تشرشل، وتبللت كتبه واختلطت وجوه الكتّاب بالساسة بالمؤرخين بالصحافيين، وصار الجميع بالنسبة له وجهاً واحداً.
بيتونة
تناصّ
مقالات من العراق
سجون "الأسد" وسجون "صدام حسين"
لا أزال إلى اليوم لا أستطيع النظر طويلاً إلى الصور التي التُقِطتْ لوالدي في أول يوم له بعد خروجه من المعتقل، وهو يجلس تاركاً مسافة بيننا وبينه، وتلك النظرة في...
بغداد وأشباحٌ أخرى
عُدتُ إلى بغداد ولم أعد. تركتُ قُبلةً على قبر أُمي ورحلتُ. ما حدث ويحدث لبغداد بعد الغزو الذي قادته جيوش الولايات المتحدة الأمريكية، هو انتقامٌ من الأسلاف والتاريخ معاً.
فتاة كقصبة ال"بامبو"
"فاطمة" لم تستطع نيل موتها، على الرغم من دنو الموت، وتنفسه الثقيل الملتصق بتراب الأرض. فقد اختُطِفت مِن قِبل عناصر تنظيم "داعش"، على الرغم من سنواتها التسع، التي لم تنضج...
للكاتب نفسه
فسحة العيش في كرتونة
.. أما الناس الذين لا يعرفون اسمه فيسمّونه "أبو كرتونة". يظهر وحده مرتدياً الكرتونة على ظهره مثلما قوقعة الحلزون. كنزة رمادية عليها رسمة رجل آلي بمجسّات طويلة. هذا ما يستره...
في كل يوم ومنذ 41 عاماً!
ينتصب في قلب العاصمة بغداد تمثال شهريار و "قصخونته" شهرزاد، نديمته وراوية حكاياته. إنه واحد من أجمل تماثيل النحّات الراحل محمد غني حكمت. في اليوم العالمي لمناهضة العنف ضد المرأة...
نزيف الكتب
صحيح أنّ الكتاب سلعة أيضاً، تباع وتشترى ويروج لها، تخزن وتقتنى وتعرض وتفسد وتتجدد، لكن الاتجار بالكتب لا يشبه الاتجار بأي شيء آخر. أسواق الكتب في المدن العراقية، كالمتنبي ببغداد...