ليست المرّة الأولى التي تُحرق فيها نسخةٌ من القرآن الكريم في بلدٍ أوروبي، ولكنّ ردود الفعل على الصعيد العراقي تغيرت في ظل الصراع المحتدم بين حكومة "الإطار التنسيقي" (1)، والتيار الصدري المنسحب من العملية السياسية، إذ اكتفى سابقاً صنّاع القرار وقادة الأحزاب بالاستنكار دون النزول إلى الشوارع وحرق السفارات.
أحرق لاجئ عراقي في السويد يدعى "سلوان موميكا" نسخةً من المصحف الشريف ومعه العلم العراقي، وكرر فعلته مع حرق صورة زعيم التيار الصدري مقتدى الصدر، والمرشد الديني علي خامنئي. أصدر مجلس القضاء الأعلى في العراق مذكرة إلقاء قبض بحق "موميكا"، وكذلك تقرر ملاحقة الفاعل خارج العراق وفق أحكام المادة (1/372) من قانون العقوبات. بعد صدور مذكرة إلقاء القبض، وصلت جماهير غاضبة إلى السفارة السويدية دون اقتحامها ولا إحراقها. ظلت ردود الفعل هادئة ودبلوماسية وهو ما لم يكن متوقعاً من حكومة الإطار التي تمتلك أحزابها ميليشيات مسلحة كان لها قصب السبق في الماضي بإمطار السفارات والجهات الإعلامية بالصواريخ ما أن تصدر عنها إساءة أقل بكثير من حرق القرآن الكريم والعلم العراقي. وبقي الأمر على هذه الحال بالنسبة لجمهور الإطار وفصائل "الكاتيوشا"، حتى بعد تكرار الحرق على يد جماعةٍ يمينية متطرفة أمام سفارة بغداد في كوبنهاغن.
مقتدى الصدر.. إثبات وجود وترميم شرعية مفتوقة
اكتفى الصدر طوال عمليات حرق القرآن في الدول الأوروبية خلال الأعوام (2005 – 2011 – 2012 – 2014- 2015- 2019- 2020 – 2022) بالشجب والاستنكار، بل وحتى حين وقع حرق للقرآن في العراق، عند الهجوم على مساجد تابعة لرجل الدين محمود الصرخي وتجريفها، وكذلك عند الهجوم على ساحات الاعتصام خلال احتجاجات "تشرين/أكتوبر 2019"حيث حرقت الخيام بما فيها، وكان من بينها القرآن والعلم العراقي..
ظلت ردود فعل حكومة "الإطار" هادئة ودبلوماسية، وهو ما لم يكن متوقعاً، حيث أمطرت في السابق احزابها وميليشياتها المسلحة السفارات والجهات الإعلامية بالصواريخ. وبقي الأمر على هذه الحال بالنسبة لجمهور "الإطار" وفصائل "الكاتيوشا"، حتى بعد تكرار الحرق على يد جماعةٍ يمينية متطرفة أمام سفارة بغداد في كوبنهاغن.
ويبدو أن حادثة حرق القرآن في السويد كانت فرصة مناسبة أمام مقتدى الصدر لإثبات وجوده، بعد فشل ما أسماه "ثورة عاشوراء" في ظل صراعه مع أحزاب "الإطار"، واقتحام أنصاره للبرلمان العراقي وصولاً إلى الصدام المسلح وما أدى إليه من خسائر بشرية كبيرة من الطرفين، واستمراره حتى تموز/ يوليو 2022، حين أصدر المرجع الإمام الحائري، الذي كان يقلده مقتدى الصدر وجماعته، بياناً تنازل فيه عن التصدي للمرجعية الدينية، ودعا الى اتباع قيادة المرشد الأعلى في إيران علي خامنئي، وحذّر من "اتباع من يتصدى للقيادة باسم الشهيدين الصدرين، وهو فاقد للاجتهاد ولباقي الشرائط المشترطة في القيادة الشرعية، فهو في الحقيقة ليس صدرياً مهما ادعى أو انتسب". كما اتهم الحائري مقتدى الصدر "بالسعي لتفريق أبناء الشعب العراقي والمذهب الشيعي باسم المرجعين الشيعيين محمد باقر الصدر ومحمد صادق الصدر". على إثر ذلك أعلن مقتدى الصدر اعتزاله العمل السياسي.
حكومة العراق 2022: البئر المالحة لتهجين تقاسم السُلطة
07-11-2022
دولة اللصوص
04-12-2022
كانت ردود مقتدى الصدر وتحركاته حول حادثة حرق القرآن محاولة لإثبات أنه ما زال يمثل الإرادة الشعبية، إذ دعا أتباعه إلى تظاهرة مليونية لمحاصرة السفارة السويدية في بغداد وإحراقها وطرد العاملين فيها، وهو فعلاً ما حصل. كما طالب أمام مجموعة من الصحافيين بتنفيذ خمسة قرارات، منها طرد السفير السويدي الذي "يمثل دولته المعادية للإسلام والمقدسات والداعمة للفاحشة، وقطع العلاقات معها. سحب الجنسية العراقية من الفاعل، والعمل على إرجاعه إلى العراق أو الحكم عليه غيابياً بما يليق بالجرم، حماية الحكومة أقرباء المجرم حفاظاً على حياتهم..."، وحذر خلال مؤتمره الصحافي ذاك من احتمالية التصعيد مجدداً في حال تكررت حادثة إحراق المصحف الشريف، مطالباً بسنّ قوانين عالمية تجرّم الإقدام على هذا الفعل وتجعل ذلك جريمة إرهابية.
خياران أحلاهما مرّ
الصدر، ومن خلال تحركه الأخير وتحشيده الكبير لأنصاره وزعماء العشائر وحرقهم للسفارة السويدية ودخول المنطقة الخضراء، وضع قادة الإطار بين خيارين أحلاهما مرّ، إما أن يعاضدوه في تحركاته، وهو بهذا يضعهم أمام أزمة دبلوماسية لمخالفتهم الاتفاقات الدولية التي تنص على حماية السفارات والبعثات الدولية، بينما غالباً ما كانوا ينتهكونها في ظل حكومة الكاظمي، وصاروا الآن يريدون الظهور بوجه لطيف يتعامل مع الأمور بعقلانية عالية. أما الخيار الثاني، فهو أن يحاولوا ردع أنصار الصدر واعتقالهم، مكتفين بالردود الدبلوماسية على حادثة حرق القرآن، ما يحرجهم أمام اتباعهم، هم الذين كانوا يقصفون المقرات الإعلامية ويغتالون الصحافيين ويمنعون حفلات الغناء إذا وجدوا أنها تمس بقدسية الإسلام والمذهب... بينما يصمتون الآن ولا يشعلون عود ثقاب في السفارة، وقد اختفت جبهة "أبو جداحة" ومجاميع ما يسمى بـ "ربع الله" (2).
يبدو أن حادثة حرق القرآن في السويد كانت فرصة مناسبة أمام مقتدى الصدر لإثبات وجوده، بعد فشل ما أسماه "ثورة عاشوراء" في ظل صراعه مع أحزاب "الإطار"، واقتحام أنصاره للبرلمان العراقي وصولاً إلى الصدام المسلح، وما أدى إليه من خسائر بشرية كبيرة.
في آخر تغريدة له، وجه مقتدى الصدر رسالة شديدة اللهجة، هي أشبه بالتلويح بعودته إلى ممارسة العمل السياسي، مشدداً فيها على عدم السكوت على الظلم والفساد المستشري في الدولة العراقية ومؤكدا على منهج الإصلاح الشامل.
أثبت الصدر بهذه المناسبة جهوزية أتباعه ودق جرس إنذار عودته الوشيكة، بعد حرمانه من ثمرة فوزه بالانتخابات واستحقاقه السلطة وتشديد الخناق عليه، خاصةً أنّ انتخابات مجالس المحافظات على الأبواب، ويرغب أنصار التيار في خوضها.
ليست هذه المرة الأولى التي يستخدم فيها مقتدى الصدر هذا التكتيك. خلال الأشهر الماضية ظهر بمظهر حامي العقيدة بعد تزايد نشاط ما يعرف بأهل القضية (3) ومع بروز بعض "المعتقدات المنحرفة المشوِّهة للدين والمذهب" بحسب رأيه، فوجّه بضرورة إعلان الحرب على أصحاب هذه العقائد وعزلهم اجتماعياً، مما زاد من شعبيته وأشعل حماسة أتباعه للالتفاف حوله حتى وإن اعتزل السياسة، وسط مطالبات من زعماء قبائل تدعوه لإنهاء "استراحة المحارب".
تلويح بالعودة
في آخر تغريدة له، وجه مقتدى الصدر رسالة شديدة اللهجة، هي أشبه بالتلويح بعودته لإلى مارسة العمل السياسي، مشدداً فيها على عدم السكوت عن الظلم والفساد المستشري في الدولة العراقية ومؤكدا على منهج الإصلاح الشامل. يقول الصدر في ختام تغريدته: "اللهم فاشهد أننا حسينيون علويون فاطميون محمديون لم نسكت عن الظلم والفساد في عراق علي والحسين فانتفضنا لكنّ الدنيا أنكرت معروفها ولم يُتناه عن فعل الباطل فيها ولم يُعمل فيها بالحقِّ إلا من صبابة عشقت الإصلاح."
1 - تشكل "الإطار التنسيقي" في تشرين الاول/ اكتوبر 2021 من مجموعة من القوى الحليفة لإيران وفصائل الحشد الشعبي، وهي: "ائتلاف دولة القانون" بزعامة نوري المالكي، و"تحالف الفتح" بزعامة هادي العامري، و"حركة عطاء"، و"حركة حقوق"، و"حزب الفضيلة"، بالإضافة إلى "تحالف قوى الدولة" بزعامة عمار الحكيم وحيدر العبادي. وكان هدفه تنسيق مواقف القوى الشيعية الرافضة للنتائج الأولية للانتخابات البرلمانية المبكرة، التي تراجعت فيها أعداد مقاعدها.
2- هي فروع من "كتائب حزب الله في العراق" مهمتها حرق وتجريف المقرات السياسية والاعلامية واغتيال بعض الشخصيات المؤثرة
3- "أهل القضية": مجموعة متشددة بمناصرتها للصدر، وتبجيلها له حتى أنها زعمت أنه "الإمام المهدي المنتظر"، وراحت خلال شهر رمضان المنصرم تحشد ل"مبايعته"