في التفاضل السكندري القاهري: بين الثغر وعاصمة القهر

هذه محاولة لفهم التفاضل السكندري القاهري الذي أشاعه جيلي في مواقع التواصل الاجتماعي منذ بداياتها الأولى، ثم دارت الأيام وأعيد تدويرُه حتى انفصل عن سياقه ومسوّغاته، وحتى زالت الفواصل فيه بين المزاح والجدية. والآن أرى جيلاً يتفاخر بإسكندرية لم يعرفها ولم يعشها، بل يعيش على أمجاد مرويّة أشبه بالأساطير.
2023-07-27

إسماعيل الإسكندراني

باحث في علم الاجتماع السياسي ــ من مصر


شارك
حي جزيرة الزمالك في القاهرة، مصر.

لا أعرف سكندرياً واحدًا انتقل إلى المعيشة في القاهرة ولم يعقد المقارنات بين المدينتين منحازاً إلى مدينته الأم في حنينه وذكرياته الشخصية. الجميع يفعلون ذلك معللين اضطرارهم إلى البقاء في القاهرة - على عكس أمانيهم - بالارتباط المهني، ثم العائلي لاحقاً، ناقمين على احتكار المركزية المصرية لأغلب فرص الصعود المهني والارتقاء في مستوى الدخل في العاصمة، التي قيل إنها سميت "قاهرة" لتقهر أعداءها، فإذا بها قاهرة لسكانها. ربما كان هناك بعض الاستثناءات من أصحاب النجاحات في مدينتهم الجديدة، ممن صنعوا ذكريات جديدة استعاضوا بها عن تعثرات الماضي وإخفاقاته وصعوبات بدايات حياتهم في مسقط رؤوسهم.

كثيراً ما تندلع الملاسنات والمناظرات بين أهل المدينتين لِيتبارى كل فريق في عدّ مظاهر تفوق مدينته على الأخرى، حيث يُستخدم التاريخ الحضاري لكل منهما في السجال. وقد يتطور الأمر أحياناً من المزاح إلى الجد، فتُستخدم لغة متعصبة جهوياً من هذا الطرف أو ذاك. وغالباً لا ينشأ التعصب الجهويّ إلا بإسقاط الفروق بين نقد المدينة وبين ذم أهلها، فَيَعتبر أهل كل مدينة النقد، الذي لا يخلو من مفردات قاسية، موجهاً لأشخاصهم وعائلاتهم. وربما توترت بسببه العلاقات أو نتج عنه قطيعة.

كل ما سبق لا يختلف عن أي تفاضل جهوي بين أي مدينتين أو إقليمين مصريين، كما هو معتاد بين الصعيد ودلتا النيل مثلاً. السائد في جميع أنحاء مصر أن أحداً من المتعصبين جهوياً لا يُعلي من شأن مسقط رأسه أو الجهة التي ينتسب إليها إلا بالحط من قدر كل ما عداها: فالصعيديّ المتعصب (جنوب وادي النيل) يحتقر ريف الوجه البحري (شمال)، وابن الدلتا المتعصب يتعالى على الصعيدي، وكثير من أهل وادي النيل كانوا يخوِّنون أهل سيناء، ويرد عليهم الأخيرون بالازدراء والمزايدة الوطنية.

أما داخل الإقليم الواحد أو المحافظة الواحدة، فحدث ولا حرج عن تفاضل العرايشية على البدو في سيناء، والعكس، وتفاضل كل محافظة صعيدية على جارتها، وبالمثل في الدلتا، بل تفاضل كل مدينة على الأخرى داخل المحافظة الواحدة، وكل قرية على أختها في نطاق المركز الإداري الواحد.

يصل الأمر إلى درجة نزع صفة "الصعيدية" عن محافظتي "بني سويف" و"المنيا" استعلاءً عليهما من محافظات الجنوب، أو الصراعات المحتدمة، لا سيما في الانتخابات، بين الجارتين "إدكو" و"رشيد" داخل دائرة واحدة من محافظة البحيرة. وكما هو متوقع ورائج في بلدان المنطقة والعالم، فثمة أمثال شعبية ونكات وأوصاف نمطية تطلقها كل جهة على الجهات الأخرى، فتكون النتيجة ألا تسلم مدينة أو قرية من عدة أوصاف سلبية ورصيد من النكات اللاذعة. ولعل هذه العصبية الجهوية، مع ارتباطاتها العرقية والقبائلية، وأحياناً الطائفية، لا تمثل جديداً في واقع البلدان العربية عموماً.

فما أسباب النقمة السكندرية على مدينة القاهرة والعيش في مجتمعها، بعيداً عن مديح أهل مدينة أو ذم أهل مدينة أخرى...

في العهد الجمهوري: من يملك المدينة؟

حتى وقت قريب - نسبياً - لم يكن في الإسكندرية سوى جامعة واحدة، جامعة حكومية تحمل اسم المدينة، وتحتل موقعاً متميزاً في قلبها.

لم يكن بالإسكندرية – فعلياً - جامعات خاصة ولا أجنبية الثقافة، مثل الجامعة الأمريكية بالقاهرة. فإن كان الفرز الطبقي شائعاً في التعليم الأساسي والثانوي قبل الجامعي، فإن الجامعة كانت المحضن "الجمهوري" الذي يجتمع فيه أبناء المدينة وبناتها جميعاً وفق معيار الكفاءة الدراسية وتنسيق الثانوية العامة فقط، بغض النظر عن الخلفيات الطبقية والثقافية والمالية لكل طالب وطالبة على حدة، وإن تميزت بعض الكليات والمعاهد بطابع طبقي مرتفع، مثل الفنون الجميلة وطب الأسنان، أو منخفض، مثل معاهد التمريض والمعاهد الفنية.

أما التعليم ذو الرسوم العالية، فلم تعرفه الإسكندرية - حتى وقت قريب نسبياً - سوى في "الأكاديمية العربية للتكنولوجيا والنقل البحري" التابعة لجامعة الدول العربية، وفي فرع "جامعة بيروت" في مجمّع الكليات النظرية، ومعهد "الكونسيرفاتوار" التابع لأكاديمية الفنون ووزارة الثقافة، لا وزارة التعليم العالي. أما الأكاديمية العربية فعدد طلابها قليل مقارنة بأصغر كلية في جامعة الإسكندرية، والطلاب السكندريون فيها كانوا أقلية وسط زملائهم من أنحاء مصر والعالم العربي. وهو ما ينطبق على طلاب الشعبة الإنجليزية في كليتي التجارة والحقوق، ذاتي الرسوم الأعلى من نظيرتهما العربية.

وأما فرع "جامعة بيروت"، فكان موصوماً بلملمة المتدنّين دراسياً ممن عجزوا عن الالتحاق بالكليات النظرية الحكومية، التي هي في ذيل تنسيق الثانوية العامة أصلاً، فلم يكن طالب الجامعة الحكومية في شعور دونيّ تجاه زميله "البيروتي"، بل كان العكس هو الصحيح.

في القاهرة، كان ولا يزال الفرز الطبقي البادئ من الميلاد ومحل الإقامة، والمؤكد باختلاف مسارات التعليم الأساسي والثانوي، يستمر وينفجر في الجامعة، سواء في "الجامعة الأمريكية" (قبل بزوغ عدة جامعات أجنبية أخرى، مثل البريطانية والفرنسية والألمانية واليابانية والكَنَدية)، التي كانت أشبه بالغيتو الطبقي المنغلق، أو الجامعات الأهلية الخاصة، أو حتى في الجامعات الحكومية (القاهرة وعين شمس وحلوان)، باستثناء جامعة الأزهر لخصوصيتها.

وعلى النقيض من التمايز العمراني الطبقي في القاهرة، لم تكن الإسكندرية تلزم مواطنها أو زائرها تناول إفطاره في مطعم "تريانون" أو عشاءه فوق سطح فندق "سيسل" متبعاً قواعد الإتيكيت، لكي تمنحه فرصة الاستمتاع بكورنيش "محطة الرمل" صباحاً أو مساءً. بل كان يمكنه تناول أكثر الأطعمة شعبية وأرخصها اقتصادياً، الفول والفلافل، في كيس ورقي أو بلاستيكي من أحد أشهر محلاتها، مطعم "محمد أحمد" القريب من كل من "تريانون" و"سيسل"، ثم يجلس على سور الكورنيش الأثريّ أقرب إلى البحر من جاره ميسور الحال. فكان السكندري، سواء المواطن أو الزائر، ينال حقه من الاستمتاع برؤية البحر أيّاً كانت قدرته الشرائية. وبين أرخص المطاعم وأغلاها تتعدد الاختيارات وتتنوع لتُرْضي مختلف الأذواق وتناسب مختلف الميزانيات.

ليس المقصود عقد مقارنة استاتيكية ثابتة بين "جوهر" المدينتين، بل محاولة لفهم مفاضلة جيل معين بينهما، وهي مفاضلة غير سرمدية، أي أنها ابنة زمانها، وقد تستمر في أجيالٍ لاحقة كما كانت امتداداً شرعياً لأزمان سابقة، أو تتبدل الأحوال حتى تزول الفروق بين المدينتين، كما هو جارٍ الآن على قدم وساق.

ينطبق هذا المثال الرمزي على أغلب مناطق الإسكندرية، حيث يتجاور الناس، أو كانوا يتجاورون. بعضهم يأكل البحريات في المطعم اليوناني وبعضهم يأكل الذرة المشوية، وجميعهم يستمتعون بقلعة "قايتباي" ومحيطها. هذا المدى الواسع من الاختيار في تكلفة المأكل والمشرب الشهي، الذي لا ينغّص عيشة صاحبه ولا يمْرضه بسبب قدرته الاقتصادية المحدودة، كان متاحاً على طول الإسكندرية وعرضها، سواء في الأحياء السكنية الصرفة التي تفتقر إلى مقاصد للاستمتاع والترفيه، أو في أحياء التنزّه والخروج (التي يعيب السكندريون على المصطافين أنهم لا يعاملونها باعتبارها أحياء سكنية أيضاً، بل كأنها مصايف مهجورة شتاءً في انتظار قدومهم الموسمي!).

في المقابل، لم يكن شاطئ النيل متاحاً لكل سكان القاهرة وزائريها على قدم المساواة، بل إنّ التجاور الطبقي فيه نادراً جداً ما يكون صحيّاً معافىً من مظاهر توتر أو احتقان طبقي، فلم يكن بإمكانك أن تهنأ بجلسة هادئة على نيل جزيرة الزمالك، مثلًا، إلا إذا كنت قادراً على دفع فاتورة المطاعم الفاخرة والباهظة التي تحتكر الإطْلال عليه، وساعتئذٍ لا يكون الاتصال بالطبقات الأرق حالاً إلا واحدة من ثلاث صور حصرية، فإما الخدمة في المطعم، أو التسول النهري في قارب يدوي صغير تقوده امرأة برفقة طفل غالباً، أو الإزعاج الاحتجاجي من مراكب النزهات النيلية الشعبية التي تتعمد الاقتراب ورفع الصوت. وربما لا يسلم الأمر من بعض المضايقات بالنظرات والإيماءات إليك أو إلى لمن معك.

وكما ينطبق مثال "محطة الرمل" على أغلب مناطق الإسكندرية - أو كان ينطبق - فإن مثال الزمالك مجرد بيان واضح لما هي عليه أحوال القاهرة، التي هي من المفترض أنها عاصمة لـ "جمهورية" مصر العربية، إلا أنها في تقسيمها العمراني الطبقي أقرب ما تكون إلى مدينة من العصر الملكي.

أما المساحات الخضراء في الإسكندرية، التي جرّفتها المعدات المدنية الثقيلة المؤتَمِرة بأمر استثمارات العسكريين لاحقاً، فكانت متاحة، إما مجاناً، ك"حدائق الشلالات" في وسط المدينة، أو برسوم زهيدة في متناول الأغلبية من المجتمع السكندري. واللافت أنّ رسوم دخول الحدائق النظيرة في القاهرة كانت أعلى، والأهم هو الخدمات المقدمة في هذه الحدائق وتلك، فكانت أسعارها تضاعف ميزانية الأسرة البسيطة إذا أرادت الترفيه الجماعي، إذا قورنت الإسكندرية بالقاهرة. باختصار، كانت ممارسة "الحق في المدينة" شائعة في الإسكندرية قبل أن نتعلم المصطلح ونقرأ أدبياته في القاهرة!

أعود إلى ذاكرتي وذاكرة جيلي عن شوارع كنا نمرح فيها آمنين، وشواطئ كنا نرتادها للعب كرة القدم وكرة المضرب والسباحة والصيد، في كل الأوقات، بلا رسوم ولا رقابة ولا مخاطر كبيرة، سوى لسع قناديل البحر أو الدوّامات في الأيام العاصفة.

كانت السيارات قليلة، ولم تكن ثمة أزمة في الرّكْن. وكانت الكثافة السكانية معقولة، فكانت شوارعنا هي نوادينا الرحبة، بلا اشتراكات ولا عضوية طبقة اجتماعية، بل حتى من دون تغيير ملابس ولا ركوب مواصلات. كان الفاصل الزمني بين انقطاع أحدنا عن اللعب وعودته إلى رفاقه (جيرانه) هو ما يستغرقه طفل أو مراهق في وجبة سريعة يتفادى بها إطلالة من أمه من الشرفة لتنادي عليه مراراً فتُحْرجه، أو ترسل أحد إخوته، أو يتعرض بسبب تأخره لأذى والده.

نشأت أنا في المندرة البحرية شرقيّ الإسكندرية. ذابت الفوارق الطبقية لدرجة أني لم أشعر بها، بل لم أدركها إلا متأخراً جداً في سياق استرجاع سيرتي الذاتية. ففي رفقة الزملاء/الجيران، كان التفاضل ذا معايير غير اجتماعية وغير طبقية في العموم، فمن اختاروا طريق المغامرات والشقاوة كانوا يتفاضلون بالقوة البدنية والمهارات الفردية والعلاقات الغرامية. ومن اختاروا طريق "الاستقامة" كان معيارُهم هو التدين والأخلاق الشخصية والتفوق الدراسي. ولم يكن للأهل، وبالتالي للطبقة، دور كبير في منافسات الأقران إلا بتطور "لعب العيال" إلى مشكلات جادة وعراك ودماء. فيما عدا ذلك، كان الشارع لنا جميعاً، ورحيق الأزهار التي تنمو في حدائق جيراننا كان يسع أنوفنا كلنا، بل الأزهار نفسها وثمار بعض الأشجار كانت مشاعاً لشقاوة المشاغبين، ومنهم ابن مدير البنك وابن الخفير جنباً إلى جنب.

كنا ندعو من نشاء من أهلٍ وأصدقاء محرومين من البحر، من أحياء بعيدة أو محافظات أخرى، من دون أن تمثّل استضافتهم عبئاً استثنائياً. كانت تكفينا شمسية بحر/مظلة واحدة، متوافرة في بيوت كثيرين، لتعم البهجة قلوب العشرات ممن لا تجمعهم طبقة واحدة ولا خلفية اجتماعية واحدة.

عنوان بيتك عنوان طبقتك!

في القاهرة، أدركت، ربما متأخراً جداً، أن عنوان البيت هو أول محدد طبقي للشخص، وقد يترتب عليه تغيير مجرى الحديث تماماً، احتراماً أو احتقاراً، تودداً أو نفوراً، اهتماماً أو تجاهلاً. صحيح أن بعض أحياء الإسكندرية ذات طابع طبقي متمايز عن غيرها، لكن وجه الاختلاف الرئيسي هو أن أحياء الإسكندرية جميعها مفتوحة على الأحياء المجاورة لدرجة اختفاء الفواصل بين أرقى الأحياء وأكثرها شعبية، وهو واقع مخالف لتاريخ القاهرة وحاضرها مخالفة إجمالية وتفصيلية.

فالقاهرة، كعاصمةٍ ومركز حكم، ما هي إلا سلسلة متصلة من تاريخ عزلة النخبة عن الجماهير ودوام هروبها منهم كلما اشتد الزحام، من القاهرة الفاطمية، بعد "الفسطاط" و"العسكر" و"القطائع"، إلى قلعة صلاح الدين، ثم من القلعة إلى قصر عابدين، الخديوي والملكي في العهد الملكي، ثم من الأخير في بداية العهد الجمهوري إلى قصر القبة ثم قصر الاتحادية، ومؤخرًا العاصمة الإدارية على امتداد طريق الهروب الشمالي الشرقي القديم.

لم يكن في الإسكندرية – فعلياً - جامعات خاصة أجنبية الثقافة، كمثل الجامعة الأمريكية في القاهرة. فجامعة الاسكندرية كانت المحضن "الجمهوري" الذي يجتمع فيه أبناء المدينة وبناتها وفق معيار الكفاءة الدراسية وتنسيق الثانوية العامة فقط، بغض النظر عن الخلفيات الطبقية والثقافية والمالية لكل طالب وطالبة على حدة... وإن تميزت بعض الكليات والمعاهد بطابع طبقي مرتفع، مثل الفنون الجميلة وطب الأسنان.

إن كانت قمة الحدث الثوري في نهايات القرن التاسع عشر قد تمثلت باقتحام أحمد عرابي والجنود المصريين حديقة قصر عابدين وترجّلهم فيها، خلافاً للحظر المفروض على المصريين أن يقتربوا من هذه المنطقة ومن حي "جاردن سيتي" آنذاك، فإن إلقاء القبض على غير ساكني جزيرة الزمالك في يناير/كانون الثاني وفبراير/شباط 2011 أثناء ترجّلهم فيها كان كفيلاً بإنزال أشد العقوبات البدنية والأمنية بتسليمهم للشرطة العسكرية، لمجرد أنهم تجرأوا ودخلوا جزيرة "الصفوة" أثناء أحداث الثورة الأخيرة.

تمثِّل "جزيرة الزمالك" الوريث الطبقي لنخبة "جاردن سيتي"، والوريث الدبلوماسي للإسكندرية التي كانت تحتضن سفارات وقنصليات حتى النصف الأول من القرن العشرين. كان الرحيل الدبلوماسي من الإسكندرية، تزامناً مع تطور النقل الجوي، إيذاناً بالتدهور العمراني لعدد من أحيائها، وفي مقدمتها حي "كفر عبده"، الحاضن - حتى الآن - للقنصلية البريطانية ومنازل بعض النخب.

ولكن المقارنة بين الزمالك وكفر عبده - على سبيل المثال - تقودنا إلى إدراك لماذا عرفت القاهرة ظاهرة الهروب إلى "الكومباوندات" (المجمعات السكنية المغلقة) والمنتجعات السكنية على أطراف المدينة قبل أن تمتد إليها ظلال شبيهة في الإسكندرية. كان حي "كفر عبده" - الذي لا يوحي اسمه الريفي بمقدار رفاهيته ونخبويته - متصلاً اتصالاً مباشراً بسوق "زعربانة" ومنطقة "الظاهرية"، وهما اسمان معبّران بصدق عن طبيعتهما الشعبية. كذلك فإن "كفر عبده" مفتوح أيضاً على حي "مصطفى كامل" الأقل طبقياً، حيث تسكنه الشريحة العليا من الطبقة المتوسطة، بما يسمح بقدر كبير من المناورة إذا سُئل أي من سكان الأحياء الثلاثة عن محل سكنه. قد يشرئب ساكن "مصطفى كامل" ويجيب بأنه من سكان "كفر عبده"، وقد يتواضع ابن "كفر عبده"، أو يتظاهر بالشعبية، ويجيب أنه من سكان "الظاهرية"، أو على الأقل من "مصطفى كامل".

لم يكن شاطئ النيل متاحاً لكل سكان القاهرة وزائريها على قدم المساواة، بل إنّ التجاور الطبقي فيه نادراً جداً ما يكون صحيّاً معافىً من مظاهر توتر أو احتقان طبقي، فلم يكن بإمكانك أن تهنأ بجلسة هادئة على نيل جزيرة الزمالك، مثلًا، إلا إذا كنت قادراً على دفع فاتورة المطاعم الفاخرة والباهظة التي تحتكر الإطْلال عليه

في القاهرة، أدركتُ أن عنوان البيت هو أول محدد طبقي للشخص. فالقاهرة، كعاصمةٍ ومركز حكم، هي سلسلة متصلة من تاريخ عزلة النخبة عن الجماهير ودوام هروبها منهم كلما اشتد الزحام، من القاهرة الفاطمية إلى قلعة صلاح الدين إلى قصر عابدين، ثم في بداية العهد الجمهوري إلى قصر القبة ثم قصر الاتحادية، ومؤخراً العاصمة الإدارية على امتداد طريق الهروب الشمالي الشرقي القديم.

هذه المناورة مستحيلة على ساكن "الزمالك" وجيرانه على ضفتي النيل في حي "بولاق أبو العلا" أو حي "إمبابة". كانت "الزمالك" تأكيداً لعزلة النخبة عن عموم الناس الذين يمدونهم بالأعمال المعاوِنة والخدمات المنزلية. فلم يكن شارع "قصر العيني" كافياً للفصل بين "جاردن سيتي" وبين تخوم حي "السيدة زينب" الشعبي، على الرغم من إطلال "جاردن سيتي" مباشرة على النيل قبل إنشاء طريق الكورنيش، وعزلته عن كافة المناطق السكنية الأخرى من جهة ميدان التحرير.

نعم، لم يكن شارع "قصر العيني" كافياً، على الرغم من وجاهته واحتوائه على مقرات البرلمان بغرفتيه ومجلس الوزراء وحي الدواوين الوزارية، فلجأت النخبة القديمة إلى جزيرة "الزمالك" المحاطة بمياه النيل، حيث صار الفاصل جغرافياً وليس فقط عمرانياً. ولجأ قسم آخر منها إلى حي "المعادي" قريباً من منتجعات صحراء حلوان، وقتذاك، في عزلة صحراوية لم يتوقعوا أن تندمج بجسم القاهرة الدائم التورم، عبر حي "دار السلام" المتاخم لحي "مصر عتيقة" أو "مصر القديمة".

تكاد تكون عزبة "أولاد علام" في قلب حي "الدقي" هي الاستثناء الوحيد للتلاحم العمراني الطبقي في القاهرة الكبرى، ولكنه التصاق غرفة الخادم بقصر مخدومه، وليس تجاوراً يسمح بشيء من الصعود الطبقي المعقول والممكن. وهو ما ينطبق على المقابلة بين الأحياء التاريخية في المدينتين: فحي "الحضرة" الشعبي بالإسكندرية مجاور ومفتوح على حي "الإبراهيمية" الذي تسكنه الطبقة الوسطى، كما هي الحال مع "سيدي جابر" و"كليوباترا"، أو "باكوس" و"جليم". أما حي "مصر القديمة" الشعبي في القاهرة فهو مجاور لحي الطبقة الوسطى في "المنيل"، لكنه مفصول عن جزيرتهم بنهر النيل!

ربما يستحق حي "مصر الجديدة" بسطاً تفصيلياً لفهم تدرجه الطبقي البادئ من متاخمة أحياء الطبقة الوسطى، ثم الواصل إلى محيط قصر الاتحادية الرئاسي ومقر سكن أسرة الرئيس القريب منه. لكن تكفي الإشارة السريعة إلى الاستعلاء في لغة أقرب الدوائر الى قصر الرئاسة على الدائرة التي تليها، ومن الثانية على الثالثة، وهكذا، حتى يُحرم سكان حي "روكسي" من اعتراف سكان "مصر الجديدة" بهم كجيران، بل هم في نظر "الصفوة" من "الغرباء"، وهي النزعة التي يتطرّف فيها سكان المعادي "الأصليون" الذين يفتخرون بِمُمارستهم التمييز ضد كل من هو ليس "معدّاوياً".

في الوقت نفسه، ولأسباب تاريخية ترجع إلى زمن تهجير سكان مدن قناة السويس إبّان حرب الاستنزاف، حيث تعمد الاحتلال الإسرائيلي قصف المدن والمنشآت الحيوية فيها، انفردت القاهرة بظاهرة "سكان المقابر" الذين وصل تعدادهم إلى مليونيْن اثنيْن. وهم أسر وعائلات توطنت أفنية (أحواش) المقابر العائلية ويعملون في خدمة المقابر وزوارها، حيث ينامون وسط الأموات ليلاً، ويتعاملون مع الأحياء نهاراً!

من البيت إلى الجامعة والعمل

لم تعد الإسكندرية ولا القاهرة تعرفان النوم، فهما في يقظة دائمة وحركة دؤوب لم يقطعها إلا حظر التجوال في لحظات استثنائية في الخمسين سنة الأخيرة. وعموم الناس في حركتهم في المدينتين على طرفي نقيض، أو يمكن القول بأن ديناميات الحركة في كل من المدينتين قد أعطت لكل مدينة طابعها السوسيولوجي المتميز عن نظيره في المدينة الأخرى.

تُمثِّل "جزيرة الزمالك" الوريث الطبقي لنخبة "جاردن سيتي"، والوريث الدبلوماسي للإسكندرية التي كانت تحتضن سفارات وقنصليات حتى النصف الأول من القرن العشرين. وكان الرحيل الدبلوماسي من الإسكندرية، تزامناً مع تطور النقل الجوي، إيذاناً بالتدهور العمراني لعدد من أحيائها، وفي مقدمتها حي "كفر عبده"، الحاضن - حتى الآن - للقنصلية البريطانية ومنازل بعض النخب.

كانت "الزمالك" تأكيداً لعزلة النخبة عن عموم الناس الذين يمدونهم بالأعمال المعاوِنة والخدمات المنزلية. فلم يكن شارع "قصر العيني" كافياً للفصل بين "جاردن سيتي" وبين تخوم حي "السيدة زينب" الشعبي، على الرغم من إطلال "جاردن سيتي" مباشرة على النيل قبل إنشاء طريق الكورنيش، وعزلته عن كافة المناطق السكنية الأخرى من جهة ميدان التحرير. 

بغض النظر عن محل الإقامة وارتباطاته الطبقية، الواضحة في القاهرة والملتبسة في الإسكندرية، فإن الانتقال من البيت إلى أية وجهة بعيدة نسبياً، أي لا يصلح قصدها سيراً على الأقدام، يعكس وجهاً آخر للتفاضل السكندري القاهري. هذا الوجه الفاجع، بل القبيح، كان أول ما يصطدم به السكندري في زيارته للقاهرة، قبل أن يستأجر غرفة في شقة مشتركة وقبل أن يكون له محل إقامة عائلي ذو دلالة طبقية تبعاً لعنوانه وأول عددين في رقم هاتفه الأرضي.

بدأتُ بموضوع السكن (وهو في اللغة من السكون) قبل الحركة والانتقال، محاولاً تتبع سيرة افتراضية لاثنين من البالغين، أحدهما سكندري والآخر قاهري، قبل أن يتحرك أحدهما إلى مدينة الآخر، أو يتجادلا في المفاضلات الجهوية… يمكننا تجاوز مرحلتي الطفولة والمراهقة، باعتبار أن الحركة الفردية اليومية فيهما محدودة، إذ ربما كان الأقارب جميعاً في المحيط السكندري لبيت الأهل، وربما كانت المدرسة الثانوية ليست بعيدة لعقد المقارنات على مستوى مدينتين كبيرتين ذاتيْ كثافة سكانية عالية. إذاً، فلنبدأ من الجامعة…

هنا يبدو الفارق جلياً بين المدينتين، فأصحاب السيارات الخاصة لا يكادون يُعدّون وسط زملائهم من طلاب جامعة الإسكندرية، بل حتى المتيسر لهم امتلاك سيارات خاصة يفضّلون في الغالب استخدام المواصلات مثل بقية أقرانهم. ولم يكن التاكسي ضرورة - حتى وقت قريب - بل لم يكن يمثل أية مزيّة لخلوّه من العداد ودوام نشوب الخلافات بين السائقين والركاب حول الأجرة.

لم يكن شارع "قصر العيني" كافياً، على الرغم من وجاهته واحتوائه على مقرات البرلمان بغرفتيه ومجلس الوزراء وحي الدواوين الوزارية، فلجأت النخبة القديمة إلى جزيرة "الزمالك" المحاطة بمياه النيل، حيث صار الفاصل جغرافياً وليس فقط عمرانياً. ولجأ قسم آخر منها إلى حي "المعادي" قريباً من منتجعات صحراء حلوان وقتذاك، في عزلة صحراوية لم يتوقعوا أن تندمج بجسم القاهرة دائم التورم.

هوة تتسع يشعر بها السكندري المعتاد على ركوب "المشروع" حين تضطره الظروف إلى الانحشار في "ميكروباص" القاهرة. فلم يكن شائعاً، حتى في الشريحة العليا من الطبقة المتوسطة، أن تمتلك الأسرة الواحدة أكثر من سيارة. ما يعني أن أفراد الأسرة السكندريّة مضطرون لركوب المواصلات العامة كثيراً مع عدم وجود مزيّة كبيرة في التاكسي في عهد ما قبل ظهور شركات النقل المرتبطة بتطبيقات رقمية. ولا يزال "المشروع" (الميكروباص) والترام وبعض خطوط الميني باص والأتوبيس تمثل بدائل إنسانية كريمة في أوقات كثيرة، ليس منها موسم الصيف قطعاً.

 يكفي هنا اختفاء وظيفة وظاهرة "التبّاع" (المنادي الذي يعاون السائق مثل الكمساري في الحافلات الحكومية لكن بدون كرسي مخصص له، وبسلوكيات مزعجة)، كما يكفي أمان الركاب من تقطيع ملابسهم بالمسامير البارزة والنتوءات المعدنية في مقاعد "الميكروباص" القاهري لإدراك جانب من الفروق في المواصلات العامة الأكثر انتشاراً في كلٍ من المدينتين.

أما في القاهرة، فالسيّارة الخاصة ليست رفاهية، كما أنها ليست مزية أيضاً بسبب أزمة الركن، فهي الشر المحتوم الذي لا بد منه، وبديلها الكريم – نوعا ما – الذي يحتفظ فيه الراكب بكرامة جسده وسلامة ملابسه هو التاكسي. فإن كانت المواظبة على ركوب التاكسي ومقاطعة المواصلات العامة في الإسكندرية ذات مؤشر طبقي واقتصادي لافت للملاحظة، حتى بين أبناء الشرائح العليا من الطبقة المتوسطة، فإنه في القاهرة سلوك اعتيادي جداً لمن يريد النجاة من الانهيار العصبي أو تخفيف العذابات اليومية على الأقل. لذلك يشيع بين طلاب جامعات القاهرة امتلاك سيارات خاصة، وقد تكون هي السيارة الثانية أو الثالثة في الأسرة. ولا أقصد بشيوع الظاهرة أنها أكثرية من الطلاب، ولكنها شيء معتاد وغير مثير للانتباه، وإن أثار النفوس للمقارنات والتنافس، خاصة في الجامعات الخاصة والأجنبية.

وحين يتخرج الطالب أو الطالبة في جامعة الإسكندرية، ثم يوفق لوظيفة في مكان مرموق مثل مكتبة الإسكندرية التي تقبع في مواجهة مجمّع الكليات النظرية، فإن هؤلاء الشباب حديثي التخرج، متواضعي الأجور يترددون في بداية الأمر: هل يليق بهم أن يذهبوا إلى عملهم الجديد راكبين "المشروع" الذي كان مواصلتهم اليومية أثناء الدراسة؟ فإذا بهم يجدون رؤساءهم في العمل، وأغلبهم من حاملي درجات جامعية عالية، يركبون "المشروع" أيضاً!

لم تعد الإسكندرية ولا القاهرة تعرفان النوم، فهما في يقظة دائمة وحركة دؤوب لم يقطعها إلا حظر التجوال في لحظات استثنائية في الخمسين سنة الأخيرة. وعموم الناس في حركتهم في المدينتين على طرفي نقيض، أو يمكن القول بأن ديناميات الحركة في كل من المدينتين قد أعطت لكل مدينة طابعها السوسيولوجي المتميز عن نظيره في المدينة الأخرى.

وعلى الرغم من أن مترو الأنفاق في القاهرة يُعد الحل المثالي في المشاوير البعيدة أو في قضاء المصالح بحي وسط البلد ومحيطه، إلا أن الزحام الشديد وسوء الخدمة فيه يضطران الكثيرين إلى الابتعاد عنه على الرغم من الحاجة الفعلية إليه، وهو عكس استغناء كثيرين من سكان الإسكندرية عن "قطار أبى قير" الشعبي، حيث لا يغطي إلا خطاً واحداً من وسط المدينة إلى شرقها، وله بدائل عديدة، فضلاً عن عدم انتظام تقاطُره وغياب الحاجة الملحّة إليه في كثير من الأحيان، وغياب الأمان مع تحركه بأبواب مفتوحة خلافاً لكل المواصلات العامة. وربما تتضح مفارقة أخرى مع الترام السطحي، الذي ألغيت كل خطوطه في القاهرة، وبقاء شبكته كاملة في الإسكندرية، بل تطويرها وعدم وجود نية في تغييرها - حتى الآن!

اختلت هذه المقارنة في السنوات الأخيرة، أي عقب "ثورة يناير 2011، إذا حاولنا تطبيقها حرفياً أو التوسع فيها على المنوال السابق. فقد طرأت على الإسكندرية تغيرات، أو بالأحرى تدهورات كثيرة. لكن الذي ترعرع في الإسكندرية وتشكّل وعيه المبكر فيها لا يمكنه الانفكاك عن مثل هذه المقارنات كلما تكبّد الذل في شوارع القاهرة، الأشد تلوثاً وقبحاً والأكثر إزعاجاً أضعاف الإسكندرية. وليس المقصود عقد مقارنة استاتيكية ثابتة بين "جوهر" المدينتين، بل محاولة لفهم مفاضلة جيل معين بينهما، وهي مفاضلة غير سرمدية، أي أنها ابنة زمانها، وقد تستمر في أجيالٍ لاحقة كما كانت امتداداً شرعياً لأزمان سابقة، أو تتبدل الأحوال حتى تزول الفروق بين المدينتين، كما هو جارٍ الآن على قدم وساق.

الملمح الأخير في المقارنة بين التحرك في شوارع المدينتين هو نظرة عموم الناس، ومنهم أصحاب السيارات الخاصة، لكل من سائقي التاكسي وسائقي الميكروباصات. ليس النظرة الطبقية، وإنما التصور الأخلاقي والتوقع السلوكي من هاتين الفئتين الحيويتين. وهذه النظرة ليست فقط نتيجة لممارسات سابقة لكلٍ من الفئتين، وإنما هي أيضاً أحد محددات السلوك المستقبلي لهما، حيث يتحسن سلوك من يؤمَل فيه الخير حتى لا يخذل حسن الظن فيه، وتسوء أخلاق من لا يُتوقَع منه إلا الشر حتى لا يشذ عن أقرانه فيُنبذ منهم.

فالمتوقع من سائقي عربات الكارو ("العربجية" قائدي العربات التي تجرها الحيوانات) وأصحاب "التوكتوك" في الإسكندرية، بل في أشد مناطقها شعبية، هو بالضبط المتوقع من سائقي "ميكروباصات" القاهرة، المشتهرين بتعاطي المخدرات وتداولها والجهر بالفطر في رمضان، بشكل استفزازي شبه احتفالي لا يفعله سواهم. أما سائقو "المشاريع" السكندريون، فهم في مصافّ سائقي التاكسي الأبيض القاهري (حين كان سائداً وحده) ، حيث يشيع بينهم الجامعيون وأصحاب السلوكيات المتحضرة واللغة المهذبة – ولو كانوا أقلية – كما أن منهم هواة الاستماع إلى أغاني الطرب والموسيقى العربية الكلاسيكية أثناء العمل.

لم يبق من الإسكندرية إلا صورة وذكريات

كانت هذه محاولة لفهم التفاضل السكندري القاهري الذي أشاعه جيلي في مواقع التواصل الاجتماعي منذ بداياتها الأولى، ثم دارت الأيام وأعيد تدويرُه حتى انفصل عن سياقه ومسوّغاته، وحتى زالت الفواصل فيه بين المزاح والجدية. والآن أرى جيلاً يتفاخر بإسكندرية لم يعرفها ولم يعشها، بل يعيش على أمجاد مرويّة أشبه بالأساطير، كمشجّعي فرق النوادي الجماهيرية العتيقة التي هبطت من الدوري الممتاز من سنوات طويلة ولم تصعد إليه ثانيةً.  

مقالات من مصر

ثمانون: من يقوى على ذلك؟

إليكم الدكتورة ليلى سويف، عالمة الرياضيات المصرية بالأصالة، البريطانية بالولادة، على صقيع رصيف وزارة الخارجية في لندن، تُعدُّ بالطباشير – ككل المساجين - أيام اضرابها.

للكاتب نفسه