إلى "شنكَال" عبر العالم السفلي

هنا شظية من قصة هذا البلد. أكتب على الجدران كلمات هاربة من اللغة، وأنطق تمتماتٍ بصوتٍ خافتٍ لئلا توقظ مفردةٌ ما وحوش السلطة التي التهمت البلد، ونامت على أنقاض المدينة. كيف ينتهي كل ما كان هنا؟ كيف تَضحى المدينة مقراً للموت والأسلحة ويُسلخ عنها ربيعها؟ أريد لحظةً، شارعاً لا قنبلة فيه كي لا أخيب والديّ في هذه الزيارة، لن أخذلهما.
2023-07-27

فؤاد الحسن

كاتب من العراق


شارك
النزوح من سنجار، العراق.

أفقتُ من كابوس نضح دمعه عرقاً من مسامات جلدي، وإذا بوجه أبي يتربص بي من وراء دخان سيكارته، بينما يجرح نورٌ ضبابي يهرب من عينيه سكون الفجر.

"مرة أخرى؟" سألني وهو ينفث أرقه. فهززت رأسي إيجاباً فيما يسيل دم السماء الأزرق في جسد الأفق الميت. قلت له لا تخف، لن أموت. أعرف أين يسكن الموت فيَّ ولن أسمح له بالخروج. إذ أنني أنا الملك على لا أحد ومملكتي مدينة مهجورة. لن يغتالني الموت، ففي طابوره أرواح أطفالٍ ونساءٍ يافعات، ولن يكترث بمن هو مثلي، لا شيء لديه ليخسره سوى كلمته، والكلمة تلك يدٌ تعصر قلباً يضخ دماً تعفن في شوارع قرى تحميها ملائكة أسلحتها دموعٌ.

عينّي أمي تراقبان تحرري المتأني من الكابوس. أكثر ما يجرحني هو عين أمي التي تراني كبيراً، في عالمٍ يسحق الجبال بأحذية الحرب.

 "هل ستعود مرة أخرى؟" سألتني وهي تغرس عينيها فيّ عميقاً. هززتُ رأسي إيجاباً فيما انسلُّ من السرير زاحفاً نحوها. حملت يدها بين يدي عارفاً بترصد عيني أبي لنا دون أن يوجههما نحونا. "لا تمتْ هناك، الموتى يضيعون في شنگال " (1). قلت لها في سري: هناك بستانٌ في السماء سنزرع فيه ابتساماتٍ يتيمةٍ ماتت على وجهكِ، وستحيا بعد موتٍ طويلٍ لأن أرضها خصبة بدماء الأطفال الذين ذُبحوا في الحرب. ولن أموت هناك.

انتبه عجوز احدودب ظهره لوجودي في البيت، فدلف إليه وتفحصني بنظراته. "هذا بيتي" قلتُ له ثم انتبهتُ إلى خطأ في الجملة، أسرعت بتصحيحها "كان بيتي". لفَّ لي التبغ وناولني اللفافة، ثم ساد الصمت.

وسافرت إلى "شنگال" من المخيم، دخلت نفقاً حفرَته روحٌ نسيتْ جسدها تحت انقاض المدينة، وعلى جدران النفق صورٌ من طفولتها وطفولتي بالأبيض والأسود، تحاولُ أن تبتسم عبثاً. ووقعت في نهاية النفق داخل مقبرة تسع الجميع، تعتقل وجوه موتى رأيت في ملامحها وجهي، الذي لم أتبينه لولا عينيّ المتعبتين. سرت في الشوارع التي ما تزال صورها محفورة في ذاكرتي، دروب طينية غير مبلّطة لقرية على الحدود مع سوريا. بيوت دلف إليها الأطفال جماعات في العيد وتردد صداهم في أذني:

"سبه‌ها وا بخیر
إیدا وا پیروزی بی".

 أراهم يحملون الحلوى ويخرجون، تحت شمس تدلق دمها ناراً على القرية في الثاني من آب/أغسطس. شمس أخرى تلتهب في صدري رغم شتاءات المخيمات على الحدود مع تركيا، وليل عالمي الطويل. دخلت بيتاً منزوع الباب كأخوته. لا تحتاج البيوت الخاوية إلى أبواب، فالغياب لا تسعه الغرف المغلقة. رحت أمشي متجاهلاً تحذيرات أبي بشأن قنابل ينمْنَ في سباتٍ تحت الخراب. راقبتُ صفا الغرف والحديقة التي غرقت في السراب، قرأتُ إعلانًا على الجدار عن حقوق الإنسان، بصقتُ عليه، أشعلت سيكارة ومشيت.

انتبه عجوز احدودب ظهره لوجودي في البيت، فدلف إليه وتفحصني بنظراته. "هذا بيتي" قلتُ له ثم انتبهتُ إلى خطأ في الجملة، أسرعت بتصحيحها "كان بيتي". ابتسم العجوز بين شعيرات لحيته التي لم تحلق منذ دهور. شيء ما فيَّ بعث الطمأنينة في قلبه، وعلى الرغم من أن لجدران البيوت المفجرة أذان صاغية تنقل ما يُقال للجماعات المسلحة في المدينة، إلا أنه نطق: "كل مراهق هنا يحمل، إضافة إلى كتلته الخصوية، وشعيرات متفرقة على وجهه، كلاشنكوفاً. أكاد أجزم أنهم لا يجيدون استعماله، لكن الموت رخيص، يمكنك أن تشتريه بنظرةٍ تلقائية لشاب يقف في شارع مقفر، أو لسيارة مظللة تمر في الشوارع". لفَّ لي التبغ وناولني اللفافة، ثم ساد الصمت.

تركني العجوز وأنا أتطلع الى الدرب الخالي. تراءى لي الموت متّخذاً هيئته الأزلية أمام شبح طفل ينتفض في داخلي: أحصنةٌ تجر عربة الموت محملة بوجوه نسوة تركن عيونهن خلف أبواب لم تعد هنا\ ك، ترقبن عودة رجال دُفنوا في مقابر جماعية غطتها يد الريح الترابية وضاعت في الهباء. تعدو الأحصنة وترفرف جدائل عجائز قصنها على شبان أغتيلوا ويبس دمهم في التراب. ثمة سوطٌ يلسع الأحصنة في سكون المساء، يرتدّ الصدى على جدرانٍ مكسورة. هنا شظية من قصة هذا البلد.

تراءى لي الموت متّخذاً هيئته الأزلية أمام شبح طفل ينتفض في داخلي: أحصنةٌ تجر عربة الموت محملة بوجوه نسوة تركن عيونهن خلف أبواب لم تعد هنا\ ك، ترقبن عودة رجال دُفنوا في مقابر جماعية غطتها يد الريح الترابية وضاعت في الهباء.

سارت عربة الموت في المدينة، حاملة أجساد مَن ماتوا ومن سيولدون غداً، ثم اختفت. وفي رأسي تتردد كلمة هاربة من اللغة، هاربة من المكان: لم ينته الموت بعد، لم يحن للحياة هنا أن تبدأ، ولن تبدأ الحياة لأنها لن تنتهي. أكتب على الجدران كلمات هاربة من اللغة، وأنطق تمتماتٍ بصوتٍ خافتٍ لئلا توقظ مفردةٌ ما وحوش السلطة التي التهمت البلد، ونامت على أنقاض المدينة.

ألتقيت رجلاً حمل خيمته من المخيم في كردستان ونصبها في باحة بيته التي تهدمت غرفه. دعاني أن اقترب وأن أشرب شاياً. كانت طفلته نائمة في الخيمة، وزوجته تغسل الثياب بيديها في طشت سمائي اللون فيما أشعل الرجل سيكارة تلو الأخرى. "لماذا عدت من المخيم؟" سألته بينما قدم لي سيكارة. حدجني بنظرة سكينية، وبدا كمن أوقِظ تواً من النوم. "بقيت هناك لأكثر من تسع سنوات، العالم لن ينتهي في المخيمات، سينتهي في شنگال".

تركت العجوز بعد الشاي، وأطلقت قدميّ تقودانني في شوارع القرية، في رأسي تغص السماء بصدى الرصاص، بأرواح تركت أجسادها في المقابر الجماعية، تسير في الدروب ولا يراها سواي. وفكرتُ: إن كان الموتى يوهبون حياةً مثالية، والأحياء يُتركون لموتٍ مثالي، من ذا الذي يعيش حقاً؟ فالمدينة تعتاش على ذكريات موتاها وغياب الأحياء عنها. ينتهي الشارع، ولا أتوقف، ينتهي العالم، ولا أتوقف. لم أكد أبدأ بعد، كيف ينتهي كل ما كان هنا؟ كيف تَضحى المدينة مقراً للموت والأسلحة ويُسلخ عنها ربيعها؟ أريد لحظةً، شارعاً لا قنبلة فيه كي لا أخيب والديّ في هذه الزيارة، لن أخذلهما.

عدتُ إلى المكان الذي بدأتُ منه، وفتشت بيديّ وعينيّ وصور رأسي عن النفق. لم يكن هناك دليل، وكأني رُميتُ خارج ثقب في الزمن. أخرجتُ هاتفي واتصلت بأبي، لم يكن هناك، أتصلت بأمي، لا جواب! انفجر الفزع في داخلي وهرولتُ في الشوارع كي ألحق بهما في لحظة أخيرة. وكلما أسرعتُ، التهم السراب الازقة والبيوت ورائي. لاح لي البيت الذي ولدت فيه، وبابه الموصد أبداً بوجه الطفل في داخلي، طرقت عليه بيديّ وأنا أصرخ كمن مسه الجن، سال الدم من يدي ولوث ثيابي، ماذا ستقول أمي حين تجد الثياب مدماة؟ قلتُ لها ألاّ تقلق، هل ستثق بي مرة أخرى لأسير هنا وحدي؟ أمي!

إنْ كان الموتى يوهبون حياةً مثالية، والأحياء يُترَكون لموتٍ مثالي، فمن ذا الذي يعيش حقاً؟ فالمدينة تعتاش على ذكريات موتاها وغياب الأحياء عنها. وكيفما كان العالم قد بدأ فإنّه ينتهي عند قدميّ، في شنكَال.

فُتِحَ الباب أخيراً وخطوت إلى باحة البيت، اقتعد أهلي الأرض وعلت أصوات ضحكاتهم، انسحبت الشمس برفق وهبّت ريح منعشة، دعتني أمي إلى الجلوس، وقالت أنها حلمت بي أقبل خدّها لأنني لم أفعل ذلك من قبل. استدرتُ متسائلًا عمّا حلَّ بالعاصفة السرابية، رأيت وجهاً متعباً يطل بين الغيوم ابتسم لي مرة أخيرة، وسحبتني ذراع أمي.

ثم أفقتُ. في باحة بيتنا حفرة ملأى بوجوهٍ أعرفها. أهلي! من يدفنهم؟

حفرت قبوراً منفردة لموتى ليسوا سواي، ودفنتهم بينما أمطرتْ السماء جدائل نساءٍ قُطِعت رؤوسهن ورُميت في مكب للنفايات. يعلوُ سرابٌ من أنفاس موتى لم يُدفنوا بعد. أغطيهم بالتراب وأستوي على ظهري قربهم، تملأ الشمس عيني ويرتخي جسدي. وكيفما كان العالم قد بدأ فإنّه ينتهي عند قدمي، في "شنگال". 

______________________

  1 - سنجار (بالكردية شنكال، Şingal) هي مدينة عراقية ومركز قضاء تقع في غرب محافظة نينوى شمال العراق على جبل سنجار وتبعد عن مدينة الموصل 80 كم.

مقالات من العراق

فتاة كقصبة ال"بامبو"

فؤاد الحسن 2024-09-29

"فاطمة" لم تستطع نيل موتها، على الرغم من دنو الموت، وتنفسه الثقيل الملتصق بتراب الأرض. فقد اختُطِفت مِن قِبل عناصر تنظيم "داعش"، على الرغم من سنواتها التسع، التي لم تنضج...

للكاتب نفسه

فتاة كقصبة ال"بامبو"

فؤاد الحسن 2024-09-29

"فاطمة" لم تستطع نيل موتها، على الرغم من دنو الموت، وتنفسه الثقيل الملتصق بتراب الأرض. فقد اختُطِفت مِن قِبل عناصر تنظيم "داعش"، على الرغم من سنواتها التسع، التي لم تنضج...

الموت امرأة من شنكَال

فؤاد الحسن 2024-06-03

أعلنت جائزة سمير قصير لحرية الصحافة عن اللوائح القصيرة المرشحة للفوز . وفي فئة مقالات الرأي، أعلنت عن أسماء المرشحين الثلاثة وهم عبد الرحمن الجندي من مصر، ومصطفى الأعصر من...