هل لا بد للكوزموبوليتانية أن تشمل تعددية أوروبية فقط؟ وبغيرها لا تكون؟ سؤال ملّح خطر لي، وأنا أرى الحالة المثالية التي يتم التغني بها والحنين إليها لاسكندرية الماضي، متجسدة على أرض الواقع وبقوة في أسوان الحاضر. لماذا يسري التحسّر النوستالجي للكوزموبوليتانية المثالية، وكأننا لا ولن نعيشها أبداً؟ هل لأنها لا بد أن تتضمن قطاعات أوروبية بيضاء البشرة؟ وهل هناك ارتباط بين الكوزوموبوليتانية والكولونيالية، وهل يمكن تفكيك مثل هذا الرابط في حال وجوده؟
وهذا سؤال يتعلق بالمفهوم نفسه كما يُتداول، لأن الوجود الاوروبي في الاسكندرية قديم قدم التاريخ، فهي ميناء بالغ الاهمية على البحر الأبيض المتوسط حيث تتشاطئ اقوام متعددة.
الواقع الصعب في مدينة أسوان
أسئلة تتطلب الإجابة عليها تسليط ضوء أكبر على الواقع الإجتماعي لمدينة أسوان المصرية، والتي تشهد مؤخراً موجة جديدة من موجات الهجرة البشرية، نتيجة تصاعد وتيرة النزاع في السودان، بدءاً خصوصاً من التدهور في الخامس عشر من نيسان/أبريل 2023.
أسوان هي المدينة المصرية الأعلى كثافة سكانية (حوالي 900 ألف نسمة) من بين المحافظات الخمس المسماة "حدودية"، وهي عاصمة محافظة أسوان التي يبلغ مجمل عدد سكانها مليون ونصف المليون، وتمتد على طول نهر النيل بالقرب من حدود السودان. وينتشر في المحافظة الفقر والبطالة، وتعاني من تدهور الخدمات الصحية، وقلة جودة العديد من الخدمات الأساسية الأخرى، على الرغم من أنها كانت تُعتبر تاريخياً مركزاً تجارياً بين مصر وجيرانها الجنوبيين..
أسوان: دولة مفقودة بين أشلاء مجتمع محتقن
23-04-2014
استقبلت أسوان عشرات الآلاف من النازحين، أغلبهم من السودان، وذلك منذ اندلاع الثورة السودانية في 2018، وكذلك أعدادا أقل من النازحين السوريين جاؤوا بعد 2011. تَجمع أسوان بالأصل خليطاً من النوبيين، والعبابدة، والبشايرة، والعديد من القبائل من صعيد مصر، التي اختارت أن تكون أسوان مستقراً لها. إضافة إلى ذلك، فإن أسوان تكاد أن تكون المحافظة الوحيدة على طول وادي الدلتا جنوب القاهرة، التي يتعايش فيها المسلمون والمسيحيون المصريون بسلام، دون تاريخ قاسٍ من أحداث الدم، كحوادث القتل أو الشروع في القتل بدافع الثأر، أو الحوادث التي يتم تسميتها عادة إعلامياً ب"حوادث العنف الطائفي".
هل يمكن للمواطن الأسمر أن يحتفي بتعددية متحققة بشكل سلمي، وترحيب إيجابي بالمهاجرين والنازحين، على الرغم من قسوة ظروف العيش واشتداد ضغط الكثافة السكانية على الموارد والخدمات القليلة أصلاً نسبياً في المحافظة؟ أم أنّ هذا الاحتفاء قاصر على المواطن الأبيض الأوروبي، أو مواطن مصري آخر ولكن يسيطر عليه وعي زائف، وعقدة "الخواجه"، بأنه طالما يعيش الأجانب الأوروبيون بيننا، فإنها تكون الكوزموبوليتانية الحقّة؟
كوزوموبوليتانية الإسكندرية
ينجح المؤرخ خالد فهمي في مقاله "رائحة الإسكندرية" (1) في تشريح الأصول الاستعمارية للتصور السائد عن الكوزموبوليتانية والمرتبط بالإسكندرية، والذي يتضمن مفاهيم عنصرية وإقصائية للعرب، وهم يشكّلون أغلبية سكان الإسكندرية في الفترة المترَحّم عليها (1860-1960)، ولم تقلّ نسبتهم في أي وقت من الأوقات عن ثلاثة أرباع سكان المدينة، بحسب الدراسات الإحصائية.
أسوان هي المدينة الأعلى كثافة سكانية (حوالي 900 ألف نسمة) من بين مدن المحافظات الخمس في مصر المسماة "حدودية". وهي عاصمة محافظة أسوان التي يبلغ مجمل عدد سكانها مليون ونصف المليون، وتمتد على طول نهر النيل بالقرب من حدود السودان.
كما أنّ أدبيّات هذه النسخة الكوزموبوليتانية عن الإسكندرية لطالما استبعدت وجود الشوام في المدينة، مسلمين كانوا أو أرثوذكس، وتأثيراتهم الكبيرة على الحياة فيها، وخصوصاً الثقافية والفنية. وهو ما يدعم فرضية اقتصار مفهوم الكوزموبوليتانية على البيض الأوروبيين فقط، و"حنينهم الجارف" للمدينة.
والمفارقة تقع في أن يتم ليس فقط إعادة إنتاجه، واستمراره حتى هذه اللحظة من تاريخنا المعاصر، بل والتباهي به، والحنين إليه من قبل العديد من أبناء المدينة المصريين، دون تحقق وإعمال النظر فيما يحمله من تصورات تقصيهم هم أنفسهم عن مدينتهم.
كوزموبوليتانية منسية: النوبة المصرية
وفي المقابل، لا تتباهي النوبة المصرية برفع شعار الكوزموبوليتانية أو التعددية الثقافية، وإنما تمارسه وتتعايش معه بشكل طبيعي، فعلاً لا قولاً. وذلك على الرغم من الظروف الأقل حظاً من القاهرة وكثير من محافظات شمال وادي النيل. ولا يعني ذلك بالطبع، حالا مثالية في مدينة فاضلة، فلم تسلم اسوان عبر العقود الأخيرة من بعض حوادث العنف، كان أكبرها، حوادث وقعت بين بعض الأهالي من الدابودية، وهم نوبيون، والهلايلة، وهم من العرب، في عام 2014، على خلفية مضايقات تعرضت لها امرأة، ونجم عنها ما يزيد عن 25 قتيلاً وعشرات المصابين. إلا أنها تظل الأقل تكراراً وسط محافظات جنوب وادي النيل.
هل يمكن للمواطن الأسمر أن يحتفي بتعددية متحققة بشكل سلمي، وترحيب إيجابي بالمهاجرين والنازحين، على الرغم من قسوة ظروف العيش واشتداد ضغط الكثافة السكانية على الموارد والخدمات القليلة أصلاً نسبياً في المحافظة؟
يتباهي الفن النوبي بالحضارة الممتدة لآلاف السنين، إذ يشدو الفنان النوبي خضر العطار، في واحدة من أشهرأغانيه (فخور أنا):
"فخور أنا بحضارتي،
وعايش انا بهيبتي،
عزة نفسى ما تزول،
اسألوا التاريخ الماضي مين أنا.
أنا ابن مينا وتهارقا.
أنا ابن كوش ونباتا أنا،
وبنت النوبة نفرتاري بجمالها".
ظهرت هذه الأغنية للمرة الأولى على مسرح فنان الشعب "سيد درويش" في أوبرا الإسكندرية. إذ أن الخطّ الغنائيّ الذي يمثله "خضر العطار"، ربما يكون الأقرب إلى سيد درويش، في قربه وتمثيله للناس وهمومهم عن طريق فنه الغنائي.
ماذا يريد النوبيون؟
03-04-2013
هذا التباهي بالحضارة والتاريخ في أغنية العطار لا ينعكس في أغلب الأحوال كممارسة إقصائية، بل على العكس، نجحت الجماعات النوبية المصرية في قلب مدينة أسوان المصرية في الإسهام بأن تعبر المدينة عن مزيج من رسوخ الهوية والاعتزاز بالنفس، وممارستهما بطريقة الود والتعارف بين الناس، والترحيب بهم، والتركيز على المشترك للبناء عليه.
يجمع طابع أسوان بين تشكيلات متنوعة نجحت المدينة في احتوائها التعددي. وعلى الرغم من ذلك، تندر الكتابة عن هذا البعد وعن كونه نموذجاً.
لا تتباهي النوبة المصرية برفع شعار الكوزموبوليتانية أو التعددية الثقافية، وإنما تمارسه وتتعايش معه بشكل طبيعي، فعلاً لا قولاً.
وعلى الرغم من وجود أقلّيّات أوروبية تتعايش ضمن النسيج الاجتماعي لمدينة أسوان، في المناخ السلميّ الذي يشكل طابع المدينة، إلّا أن هذا الحضور يتم في إطار غير استعماري، فيُحتفى بالكوزموبوليتانية بمعزل عن الرواسب الإقصائية والعنصرية. حينها يمكن استحضار العديد من الأغاني ومنها أغنية (مرحبتين بلدنا حبابا) :
"مرحبتين بلدنا حبابا
حباب النيل حباب الغابة
ياها ديارنا نحن أصحابا..
نهوي عديلا ونرضي صعابا".