أن تخرج لوجهتك متأبطاً الفرحة، لتبقى حيث وصلت متأبطاً المجهول. أن تصعد في سماء بلدك وضحكات طفليك وقودٌ يشعرك بأنك أسرع من هذه الطائرة التي تحلق على متنها، لتمكث متأملاً ضحكاتهما في ما بعد وعيناك يملأهما القلق والتوجس مما قد يحمله لهما الغد، وأنت تنتقل بهما من مطار إلى آخر، تحتويهما بقوة وكأنما تخشى فرارهما كما فر الوطن من قبل.
أن تُصغي لصوتك الداخلي الذي طالما كان بوصلتك في أحلك فترات حياتك، لتجده صوتاً مبحوحاً ضعيفاً حزيناً لا تتمكن من سماعه، فلا تقوى على تحديد وجهتك. فتجد نفسك في لحظة خاطفة خانقه وكأنك في تابوت ضيق قابع في إحدى زوايا الشحن الباردة تلك، لتكتشف أنك لست جثة هامدة بل مواطناً قيد الانتظار. أنْ تعلق في البلد الأول لأشهر لتستمر بعدها بتجديد إقامتك في بلد آخر لأشهر وأشهر، في الوقت الذي لا تجد فيه من يجدد لك الأمل بعودة وطن كنت تظن يوماً بأنك تساهم في إعداده ليكون مكاناً أفضل لطفليك. أن تقرر في لحظة ما أن تتأبط المصاعب، أن تغامر وتتخلى عن حلمك وتركن طموحك على أحد رفوف الذاكرة فقط لتحمي طفليك من كل ما تراه وتسمعه ممن تحبهم، وهم قابعون تحت النار في اليمن، ذلك البلد المنسي.
أن تصبح أقصى أمنياتك عندما ترى في عيني ابنتك أزهاراً وألواناً وفرحاً ألا يتحول كل هذا لدخان رمادي، أو عندما تتأمل تقاسيم وجه ابنك فتجد معنى البهجة كلما وطأت قدماه الصغيرتان مكاناً جديداً تنتقل إليه قسراً، لتكتم بدورك عويلاً في داخلك يذكرك في كل محطة أنْ إلى متى وكيف وأين؟
أن تكون يمنياً، عالقاً، موجوعاً، أن تكون والداً مسؤولاً تائهاً. أن تكون تلك الأم التي في لحظة لم تعد تملك سوى الحب لتدافع به عما تبقى لها من خيارات الحياة التي فرضتها الحرب وبشاعتها، فتتقوى به تارة وتحارب لأجله تارةً أخرى. اليوم لا يزال الطفلان غير مدركين من كل هذا سوى حقيقة يتيمة واحدة، أنهما من تلك الرقعة الجغرافية التي يتفنن الجميع في تقطيع أوصالها اجتماعيا وجغرافياً وطائفياً، غير آبهين أو مكترثين بما سيحل على أجيالها الحالية والقادمة. ربما لا يدركان أكثر من هذا، لكنها تدرك تماماً أن عليها أن تقلق كثيراً من أن يمر مزيد من الوقت فلا يعرفان وطناً غير قلبها.