توصف السينما بأنها المرآة التي تعكس صورة المجتمع؛ قصصنا، حيواتنا وشخوصنا نراها من زاوية حية متحركة، مثقلة بنصيب من الخيال.. لكن المعالجات السينمائية لواقعنا المعاش تختلف حسب وجهة نظر كل مخرج وسيناريست، فهناك من يوغل في الخيال الهلامي البعيد عن الواقع، وهناك من ينسخ طبق الأصل تفاصيل حياتنا ويترجمها كما هي، دون إضافات أو حتى مُحَسِنات سينمائية. وفي خزانة السينما المغربية مئات القصص والسيناريوهات تحولت إلى أفلام سينمائية. ومع دعم "المركز السينمائي المغربي"، زاد الكمّ ليصل متوسط الإنتاج السنوي إلى 25 فيلما، تراوحت بين الكوميدي والدرامي. فهل استطاعت هذه الأفلام أن تجسد واقع المغاربة؟
كيف تم توظيف التابوهات الثلاثة؟
لسنوات طويلة، ظلت السياسة في المغرب من المواضيع المسكوت عنها. لكن مع نهايات التسعينيات ومطلع الألفيّة الثالثة، وتزامناً مع ما عرف آنذاك بـ "العهد الجديد"، خرجت أعمال كانت شاهدة على فترة ما عرف بـ "سنوات الرصاص" في السبعينيات، إبّان الاعتقالات السياسية والعسف، لعل أبرزها "درب مولاي الشريف"، "جوهرة بنت الحبس"، و "ذاكرة معتقلة"...
يؤخذ على هذه الإنتاجات اقتصارها على حقبة زمنية مضت. صحيح أنّها حفرت في ذاكرة المغاربة الجمعية مجموعة من التمثلات النفسية والاجتماعية والثقافية أبرزت سيادة الخوف والترهيب والحذر من السياسة وكل ما يدور في فلكها. لكن ماذا عن واقعنا الراهن؟ تَبْقى التجارب السينمائية التي تتناول هذه التيمة بشكل جريء وجاد وعميق، قليلة لا تتعدى أصابع اليدين، ومنها فيلم "هم الكلاب" للمخرج هشام العسري الذي استطاع أن ينال 22 جائزة على المستوى الوطني والدولي وهو يشخص الواقع السياسي والمجتمعي للمغرب وللمنطقة إبان ما عرف بـ "الربيع العربي".
غير ذلك، تبقى المعالجات محصورة بتوظيف نمطي يقتصر غالبا في تجسيد السياسة دوما بشخص "المقدم" (وهو شخص مدني مكلف من الوزارة أو الوالي المحلي بإيصال التبليغات القضائية)، أو في "مرشح الانتخابات المحلية"، وأحياناً يتم توظيف السياسة بطريقة فجة ومبتذلة لا تراعي ذكاء ووعي المتلقي.
لم يستطع معظم المخرجين المغاربة ملامسة تابو السياسة بمعالجة تقترب من معيش المواطن البسيط وحياته اليومية المتخمة بحكايات تتلون بين ما هو ساخر كوميدي وما هو تراجيدي. ويبدو أنّ بعض المخرجين حبّذوا فكرة توظيف تيمتَي الجنس والدّين أكثر من السياسة، حتى تنال أعمالهم صبغة الجرأة وإثارة الجدل الإعلامي.
تحتوي الأفلام المغربية على قدر مهم من المشاهد ذات الطابع "الإغرائي"، فالجنس معطىً تجاري يلعب على الوتر الحسّاس للمتلقي. لكن المتابعين للإنتاجات السينمائية المغربية يرون بأن معالجة تيمة الجنس تتمّ في إطار درامي يبتعد عن الغاية الفنية. فمثلاً، صوّر فيلم "المنسيون" لمخرجه حسن بن جلون مشهد الاغتصاب بطريقة يرى بعض النقّاد أنّها تستجدي غرائز المتلقي أكثر مما تستدعي تعاطفاً إنسانيّاً مع المُغْتصَبة. كذلك نجد الأمر نفسه في أعمال أخرى مثل فيلم "الزين اللي فيك"، الذي أثار العام الماضي عاصفة من الجدل والاستهجان لدى معظم المتابعين المغاربة، إذ اعتبره البعض فيلما يقترب من الأعمال "الإباحية "، وقد أراد المخرج "نبيل عيوش" أن يترجم حياة الدعارة بمراكش المغربية، بطريقة وُصفت لدى بعض النقاد بالفجة والسطحية، لكن وبالمقابل يرى البعض أنّ الفيلم يفضح واقع تجارة الجنس بأسلوب صادم يعبر عن "مشهد واقعي" ينكره المغاربة. وعلى ما يبدو فتيمة الجنس تم إقحامها في السنوات الأخيرة بمعالجةٍ مُبَالَغٍ بها، تختلط بألفاظ نابية وتخاطب الغرائز السفلية للمتلقي، دون أن ترتقي بفكره ووجدانه. ومن دون أن تعتمد على مقاربة فنية تطرح نقاشا مجتمعياً جاداً، يبتعد عن التناول الرخيص والمبتذل.
وأخيراً، فالمغرب بلد يدين معظم سكانه بالاسلام، وهناك بالطبع اليهود، وهم موجودون بين العرب والأمازيغ وفي كل المناطق عملياً. ويعتبر أنّه من الصعب نقاش التابو المرتبط بالدين، ما يستوجب الحديث عن فكرة التدين لدى المغاربة، وإشكالية التناقض والنفاق الاجتماعي وعلاقتها بتدين الإنسان المغربي. أفلام كثيرة تناولت هذه التيمة، نذكر منها: "ماروك"، "الجامع"، "حجاب الحب".. فيلم "ماروك" لمخرجته ليلى المراكشي أثار عامَي 2005 و2006 زوبعة من الجدل المجتمعي بين تيار إسلامي محافظ وآخر حداثي ليبيرالي، إذ اعتبر التيار الأول أن الفيلم يتضمن إساءة حقيقية لتعاليم الإسلام، بينما رأى الحداثيون أنّ العمل يسعى لإظهار رسالة التسامح والتعايش بين المسلم واليهودي.
أما فيلم "حجاب الحب" لمخرجه عزيز السالمي فتناول تيمة الدين والتدين في قالب نمطي يقتصر على الانتشار الواسع لظاهرة الحجاب في صفوف الفتيات. وهو أراد أن يقارب فكرة التديّن انطلاقاً من فكرة ممارسة العلاقات العاطفية والجنسية خارج إطار الزواج، وهي حالة منتشرة في صفوف الشباب. لكن الفيلم يفتقر إلى الأداء التمثيلي الجيد لبطلَي الفيلم، إضافة إلى غياب قصة تحمل بعداً دراميا وتشويقياً تحكي بعمق تفاصيل التناقض الكامنة وراء هذه الظاهرة.
السينما المغربية اكتفت هنا بتصوير المظهر فقط، دون الدخول المباشر لقلعة الغموض المكتنزة في الشخصية المغربية.
وهي لم تطرح نقاشا مجتمعيا جادّاً وصريحا بين المغاربة، لأنّ معظم الأعمال تفتقر لمحتوى فكري وأدبيّ عميق.. باستثناء بعض الأعمال الناجحة والمبدعة في تفاصيلها، من قبيل "حلّاق درب الفقراء"، "وبعد"، "هنا ولهيه"، و "الملائكة لا تحلق فوق الدارالبيضاء". وهكذا ما زالت السينما المغربية، بأفلامها الطويلة والقصيرة، تحتاج لقوة سردية قوية، لسيناريست يستطيع أن يترجم أفكارنا وأحلامنا وهمومنا وتطلعاتنا بشكل مبدع، يخاطب المغربي قبل الفرنسي، والوجدان والعقل (قبل ما يخاطب ما تحت الحزام!)، وتحويل المأساة إلى كوميديا ساخرة تنتقم من آهاتنا. سينما تتمرد وتثور على القيم الجامدة، وتستفز تناقضاتنا...