أراجع هذه العيادة أسبوعياً لأعالج الالتواء الذي أصاب كاحلي. لا أقضي مع الطبيب سوى عشر دقائق أو أقل، وأقضي ساعة أو ما يزيد في صالة الانتظار، وعليّ أن أغفو وأتثاءب وأتمايل وأنا أحدّق في النصيحة الأخلاقية المعلّقة في الصالة "الانتظار فضيلة". قلت لنفسي: النوم فضيلة. حينما صرخ سكرتير الطبيب في وجه العجوز الثرثارة بجانبي، استيقظتُ وقلتُ لنفسي: الصراخ فضيلة. تجاهلته العجوز ودخلت في حكاية جديدة غير تلك التي انقضت قبل دقائق. أقول لنفسي: الحكايات فضيلة. ثم وجدت نفسي وحيداً إلّا من تلك العجوز وفي فمها حكاية تمضغها. ربما عرفتْ بأني لا أعبأ بما يخرج منها، لا أهتم لقهقهتها. أنا مشغول بكاحلي.
خرج مساعد الطبيب ونادى باسمي، دخلت وتزاحمت مع العجوز عند الباب، دفعتني واحتلت كرسي المريض أمام الطبيب، بدا للمساعد أن يسحبها إلى الخارج ويطردها، لكن الطبيب منعه وسمح لها أن تحتفظ بجلستها بيننا.
أجرى الطبيب كي لا يحرج حضورها بيننا معاينة مزدوجة. كان أرحم من مساعده. ظلّ يسألني ويضغط بأصابعه على كاحله ثم يلتفت ويسأل العجوز أسئلة روتينية يطلقها بلا اهتمام ولا عناية، والعجوز تجيب وتسهب وتفصّل.
أسئلة مثل أغانٍ يحفظها ويتدرب على تجويدها، وأجوبة شيقة تبوح بها تلك المرأة وتطرب لها. يحدث كل ذلك وهي تقبض كفها وتطبقه بقوة، وتشرح للطبيب عن ذلك الشيء بداخله، تطلب منه أن تفتح كفّها، فيرفض، وتستشيره عن آلام يدها المغلقة منذ شهرين، تستفسر منه متى يجوز لها فتح أصابعها المغلولة فيعدها بأن ذلك سيحدث.. سيحدث في يوم ما، لكنه ليس اليوم ولا غداً ولا بعد غد.
توصلتُ وأنا أغلق عليهما الباب وأضع وصفة الطبيب في جيبي، إلى أن هذه المرأة تزور الطبيب دورياً. تتوهم بأنها استيقظت ذات صباح ووجدت رجلاً ضئيل الحجم في باطن كفها، أطعمته من فطورها وسقته، حممته وغسلت ملابسه، ذلك الرجل الذي يشبه تماماً أحد صغارها الراحلين، يرفض أن يهبط من كفها، يأبى النزول إلى العالم. يجبرها على إخفائه وستره عن عيون الناس. لذلك فهي تطْبِق كفها عليه وهذا يشعرها بوخزة أليمة.
لا تطمئن مع أحد غير الطبيب ولا تفاتح أحداً غيره بالموضوع. وصارت تظن بأن الرجل الذي نبت في كفها لا يشبه ابنها الراحل، بل هو ابنها.. ابنها جداً كما تقول.
قلت لنفسي: الوهم فضيلة.
بيتونة
ما ينبت في الكفّ
مقالات من العراق
سجون "الأسد" وسجون "صدام حسين"
لا أزال إلى اليوم لا أستطيع النظر طويلاً إلى الصور التي التُقِطتْ لوالدي في أول يوم له بعد خروجه من المعتقل، وهو يجلس تاركاً مسافة بيننا وبينه، وتلك النظرة في...
بغداد وأشباحٌ أخرى
عُدتُ إلى بغداد ولم أعد. تركتُ قُبلةً على قبر أُمي ورحلتُ. ما حدث ويحدث لبغداد بعد الغزو الذي قادته جيوش الولايات المتحدة الأمريكية، هو انتقامٌ من الأسلاف والتاريخ معاً.
فتاة كقصبة ال"بامبو"
"فاطمة" لم تستطع نيل موتها، على الرغم من دنو الموت، وتنفسه الثقيل الملتصق بتراب الأرض. فقد اختُطِفت مِن قِبل عناصر تنظيم "داعش"، على الرغم من سنواتها التسع، التي لم تنضج...
للكاتب نفسه
فسحة العيش في كرتونة
.. أما الناس الذين لا يعرفون اسمه فيسمّونه "أبو كرتونة". يظهر وحده مرتدياً الكرتونة على ظهره مثلما قوقعة الحلزون. كنزة رمادية عليها رسمة رجل آلي بمجسّات طويلة. هذا ما يستره...
في كل يوم ومنذ 41 عاماً!
ينتصب في قلب العاصمة بغداد تمثال شهريار و "قصخونته" شهرزاد، نديمته وراوية حكاياته. إنه واحد من أجمل تماثيل النحّات الراحل محمد غني حكمت. في اليوم العالمي لمناهضة العنف ضد المرأة...
نزيف الكتب
صحيح أنّ الكتاب سلعة أيضاً، تباع وتشترى ويروج لها، تخزن وتقتنى وتعرض وتفسد وتتجدد، لكن الاتجار بالكتب لا يشبه الاتجار بأي شيء آخر. أسواق الكتب في المدن العراقية، كالمتنبي ببغداد...