حكومة "وحدة وطنية" في تونس أم حكومة حرب؟

بعيداً عن المشهد "الرسمي" المبهر فقراءة سياق ولادة حكومة الشاهد وبرنامجها وتشكيلتها يطرح مجموعة من الإشكاليات، هنا بعضها..
2016-09-14

شارك
خالد تكريتي - سوريا

"كان المكان معدا لولادته": رئيس وزراء "شاب "، حكومة "وحدة وطنية" فيها ثماني وزيرات، خطاب مركّز حول مقاومة الفساد والإرهاب والنهوض بالفئات الفقيرة، أكثر من ثلاثة أرباع نواب المجلس يمنحون ثقتهم، النواب المعترِضون يتحدثون بكل حرية.. يتوجب علينا الاعتراف بجودة الإخراج الفني لجلسة إعطاء الثقة لحكومة يوسف الشاهد رئيس الوزراء الجديد، خصوصا لو قارناه بالجلسات المماثلة السابقة. المشكلة الوحيدة في الأمر أنّه "أجمل من أن يكون حقيقياً" كما يقول المثل الفرنسي. لكن وبعيداً عن المشهد "الرسمي" المبهر فقراءة سياق ولادة حكومة الشاهد وبرنامجها وتشكيلتها يطرح التالي:

1) السياق: حكومة النهايات والبدايات

تقول: "الأسطورة" في تونس إن الرئيس السبسي هو الأب الشرعي لحكومة الشاهد التي ولدت في أواخر شهر آب/ أغسطس، وإنّه زرع نطفتها عندما تحدث قبل ذلك بشهرين عن ضرورة تشكيل حكومة وحدة وطنية تخرج البلاد من أزمتها الاقتصادية، وإنّ الجنين تشكّل بعد توقيع وثيقة قرطاج الداعمة للمبادرة الرئاسية من طرف تسعة أحزاب وثلاث منظمات وطنية كبرى في 13 تموز/ يوليو. لكن تاريخ الحمل ومكانه هما اللذان يطرحان مشكلة. فخلال صيف 2013 وفي باريس بالتحديد: "لقاء باريس" الذي جمع زعيم حركة النهضة راشد الغنوشي وزعيم حركة نداء تونس الباجي قايد السبسي (برعاية رجال أعمال تونسيين وأطراف أخرى بالتأكيد، لم يعلن عنها). سرعان ما "تسربت" أخبار هذا اللقاء "السري" للإعلام ما أحدث ضجة كبرى. فهو يأتي في أوج أزمة سياسية تعيشها تونس بعد موجة من الاغتيالات السياسية ورد فعل المعارضة المصرّة على إسقاط حكومة النهضة عبر الاعتصام أمام البرلمان وتعطيله والاحتجاجات الاجتماعية والمطلبية في سائر مدن البلاد وأرجائها. الوضع كان يوشك على التحول إلى صدام دموي، وفجأة جاء "لقاء باريس" السحري وانبثق عنه "الحوار الوطني" (الذي رعته كبرى منظمات المجتمع المدني التونسي). "لقاء باريس" لم يكن مجرد إعلان هدنة بل تسوية كاملة و "تاريخية"، يقبل بموجبها النظام التونسي (الذي لم يسقط يوماً منذ تأسيسه) بالإسلاميين كشركاء في الحكم، سالمين غانمين وفق شروط معينة أهمها :

1- عدم المس بالنظام الاقتصادي والعلاقات الخارجية "التاريخية" لتونس.

2- التخلي عن محاولة تغيير "النمط المجتمعي".

3- عدم المطالبة بأي محاسبة على الجرائم الحقوقية والاقتصادية التي ارتكبت طوال عقود الديكتاتورية.

لم يكن أمام حركة النهضة، التي جربت بؤس السجون والمنافي ولذّة الحكم والسلطة، إلا أن تقبل خصوصا أنها أصبحت تخشى سيناريو مماثلا للذي حصل للإخوان المسلمين في مصر. وهكذا تبادل الطرفان عهود الأمان وصكوك الغفران، وأصبح الإخوان المسلمون (حركة النهضة) جزءا من النظام التونسي "المعدّل". كل ما حدث بعد لقاء باريس من اتفاقات وانتخابات وتشكيل حكومات كان بمباركة "الشيخين" (الغنوشي والسبسي) ورعاتهما الإقليميين والدوليين. تشكيل حكومة الائتلاف اليميني (نداء تونس، نهضة آفاق تونس، الاتحاد الوطني الحر) بعد نتائج انتخابات أواخر 2014 لم يصدم إلّا الذين كانوا يتوهمون بأن النظام التونسي "العلماني" ما زال في صراع مع الإسلاميين، أو أن الإسلاميين جزء من "المسار الثوري". حكومة الحبيب الصيد التي كانت تردد باستمرار أنّ مرحلة الانتقال الديموقراطي و "الفوضى" انتهت وأنّه حان وقت الاستقرار وحكم المؤسسات، لم تستطع أن تُجْهِز تماما على "جيوب المقاومة" واضطرت مرات عدة إلى تقديم تنازلات للنقابات والدخول في صدامات عنيفة مع العاطلين عن العمل وسكان المدن المحرومة. كما أن التركيبة اليمينية - اليمينية للحكومة وهذا التحالف "غير المنطقي" بين "الحداثيين" و "الظلاميين" جعلا العديد من الأحزاب اليسارية ومنظمات المجتمع المدني ذات التوجه العلمانية تعادي الحكومة. ويبدو أن هذه الاضطرابات بدأت تقلق الشركاء / الرعاة (الاتحاد الأوروبي، أميركا، صندوق النقد والبنك الدوليان، رجال أعمال محليون، الخ..)، واعتبروها مظاهر عجز، مما شكل ضغطا شديدا على "الشيخين" وجعلهما يسرعان بتقديم كبش فداء، فتخلوا عن رئيس الحكومة السابق. أدرك "أولو الأمر" أن التشكيلة القديمة تنقصها بعض البهارات حتى تصبح أشهى ويمكن هضمها بطريقة أسهل، فكانت "الوحدة الوطنية" هي الوصفة السحرية.

2) البرنامج: أو بالأصح "الأجندة"

تكلم يوسف الشاهد طويلا في جلسة منح الثقة ولم يقل كثيرا.. خطابه الذي كان أغلبه باللهجة العامية التونسية كان أشبه بـ "كولاج" : بدا كأنه اقتطع جملا وعبارات من تحديثات وتغريدات منشورة في مواقع التواصل الاجتماعي، ألصقها في ورقة لتكون خطاباً شعبوياً أجوف بامتياز. أكثر كلمات تواترت في الخطاب هي: الإرهاب، الأمن، الفساد، الشباب، الثقة، الطبقات الفقيرة، التشغيل، النمو.. مما يدل على أن الشاهد استعان بخبراء في التواصل ليصوغوا له خطابا مبنياً على كلمات وعبارات مفتاحية قادرة على "لمس" أكبر عدد ممكن من المستمعين. كان الخطاب أيضا "تعويمياً" فهو حمّل الجميع مسؤولية الوضع في تونس: حكومة ومعارضة وشعباً وأمواتاً وأحياء، بدون أي تنسيب أو تحديد. وعلى الرغم من "شباب" يوسف الشاهد، فإن خطابه كان قديما قدم السياسة: الحديث عن الصعوبات الراهنة والكوارث المستقبلية واستحقاقات المرحلة.. مفردات يستعملها أي سياسي محترف كتغطية على فشله المستقبلي.

لكن الكلمات والعبارات المفتاحية كانت بمثابة "سواتر دخّانية" يراد بها تمرير كلمات وعبارات مفتاحية أخرى هي زبدة حديث رئيس الحكومة الجديد: التقشف، المديونية، تسريح آلاف الموظفين، تسديد قروض، إصلاحات هيكلية. ومن غرائب الصدف (!) أن هذه هي نفسها مفاتيح تقرير البنك الدولي حول الوضع الاقتصادي في تونس و "الحلول" العاجلة لإنعاشه: البرنامج الحقيقي.

ليس للشاهد وحكومته ورعاتها برنامج، بل هو "أجندة" فيها بنود عدة يجب تطبيقها في أسرع وقت وبأقل "الخسائر" الممكنة. حكومة الشاهد جاءت لتعلن الانتهاء رسميا من أشغال ترميم النظام السياسي، ويبدو أن مهامها الأساسية تتلخص في ثلاثة بنود:

-    التسويق لحلة النظام الجديدة (قمع اجتماعي - اقتصادي مع هامش من "حرية" التعبير والتنظيم لتصريف الغضب).

-    إعلان انتهاء زمن "الدولة الراعية" والدخول في عصر النيوليبرالية (وما يستتبع ذلك من "إجراءات مؤلمة" كالخصخصة وتسريح العمال ورفع الدعم عن مواد وتقليص المصاريف العمومية..).

-    قطع الطريق أمام تكوّن أية تحالفات معارضة واسعة يمكن أن تعطل أو تبطئ مسيرة "الإصلاحات" الهيكلية المزمع تنفيذها.

3) التشكيلة

"العقل المدبر" لتشكيلة الحكومة الجديدة قرأ جيداً "فن الحرب" للحكيم الصيني "سون تزو" وفهم أنّه من أهم القواعد الذهبية لكسب الحرب تقليص عدد الأعداء وزيادة عدد الحلفاء، حتى لو اقتضى الأمر القليل من التنازلات والكثير من الهدايا والعطايا. حكومة يوسف الشاهد هي تطبيق عملي لهذه القاعدة، فهي تتشكل من "خليط" هجين يصعب تخيل التقائه في مكان واحد، فما بالك في حكومة واحدة. تشكيلة "الوحدة الوطنية" تضم بقايا الحزب الذي حكم تونس لمدة نصف قرن، والإخوان المسلمين (حركة النهضة)، ونيوليبراليين (حزب آفاق تونس)، ويساريين (حزب المسار ــ الشيوعي سابقاً ــ ووزيرا مقربا من حزب الوطنيين الديموقراطيين)، وأحزابا "وسطية" (الحزب الجمهوري، التحالف الديموقراطي)، وحتى "عروبيين"، بالإضافة إلى عدد كبير من المستقلين (حزبيا)، ووجوها نقابية معروفة، ورأسماليين كبارا وبعض التكنوقراط. عندما تلتقي كل هذه المكونات في "جسم" واحد فإنه من الصعب تصديق فكرة "الوحدة الوطنية"، ومن الطبيعي أن تدفعنا أنفسنا الأمَّارة بالسوء إلى الاعتقاد بأننا أمام حكومة محاصصة وترضيات هدفها الأساسي هو "التعبئة العامة" قبل الذهاب إلى الحرب.

يتعمق هذا الاتجاه أكثر عند الاطلاع على السير الذاتية للوزراء. فمثلا "الفتى المعجزة" الذي انتقل في أقل من سنتين من قواعد حزب إلى رئاسة حكومة، السيد يوسف الشاهد، هو خبير وأستاذ في الاقتصاد الفِلاحي، عمل مستشارا لدى الاتحاد الأوروبي كما عمل موظفاً في السفارة الأميركية (2010/2011) بتونس، ورسالة الدكتوراه التي ناقشها سنة 2003 تتمحور أساسا حول تحرير الأسواق الفِلاحية. وزيرة الطاقة والمناجم والطاقات المتجددة، السيدة هالة شيخ روحه، عملت موظفةً في "سيتي بنك" (1997-2003) ثم انتقلت إلى "البنك الدولي" (2003-2007). السيد وزير الاستثمار والتنمية، فاضل عبد الكافي، معروف بتوجهه الليبرالي المتطرف كما أنّه كان رئيس بورصة تونس لسنوات عدة. وزير الصناعة والتجارة الإسلامي الهوى، الليبرالي العقيدة، زياد لعذاري، عمل هو الآخر مستشارا لدى هيئات دولية عدة. وهذه عينات عن "بروفيل" أغلب الماسكين بالوزارات الحساسة والمفصلية. طبعا كون وزير الخارجية "الجديد" خميس الجهيناوي كان مديراً للمكتب التجاري التونسي في تل أبيب خلال التسعينيات ليست له أي علاقة بموضوع المقالة... لكن وجب التنويه.

وتنعم هذه الحكومة برضا أغلب مكونات الطيف السياسي وأغلب النواب وأغلب منظمات المجتمع المدني الكبرى وأغلب "أصدقاء" و "أشقاء" تونس. وهذه الثقة الكبيرة يجب أن تترجم إلى أفعال وسياسات من المنتظر أن تطرح نتائجها خلال سنوات قليلة. فمع دخول العام 2017، ستجد الدولة التونسية نفسها مجبرة على سداد الأقساط الأولى من قروض ضخمة اقترضتها في السنوات الأخيرة (لوأد المسار الثوري ورشوة قطاعات وفئات معينة وضمان ولائها). وبما أن خزينتها فارغة، والدائنين لا قلب لهم، فيبدو أنها ستضطر إلى بيع "ممتلكاتها" و/أو تقليص مصاريف أبنائها حتى تفي بتعهداتها.

ختاما...

كل المؤشرات تنبئ بأن تونس ستعيش أزمات كبيرة: حكومة تحظى بأغلبية برلمانية ساحقة ستحاول تنفيذ بنود أجندة غير شعبية وغير وطنية، نظام "ديموقراطي" بلا معارضة تقريباً، أغلبية شعبية ستجد نفسها في موقع الاختيارات الصعبة والقاسية من نوع ثنائيات الأمن أو الحرية، التقشف" أو الإفلاس... ربما سنكتفي بإيمان العجائز منتظرين "مهدي" تونس: شهر "جانفي المجيد": كانون الثاني / يناير حيث تتكرر ومنذ 2011 الانتفاضات...

مقالات من تونس

للكاتب نفسه