تونس: حين ترتفع "اليد اليمنى" للدولة

بدأت حكومة الوحدة الوطنية التونسية، المشكَّلة ببادرة من رئاسة الجمهورية، أعمالها بعد إزاحة الحبيب الصيد الذي اتُهمت حكومته بأنها لم تطبق برنامج حزب "نداء تونس" الفائز في انتخابات 2014.
2016-09-14

فؤاد غربالي

باحث في علم الاجتماع، من تونس


شارك
عبدالله عكر - تونس
بدأت حكومة الوحدة الوطنية التونسية، المشكَّلة ببادرة من رئاسة الجمهورية، أعمالها بعد إزاحة الحبيب الصيد الذي اتُهمت حكومته بأنها لم تطبق برنامج حزب "نداء تونس" الفائز في انتخابات 2014. وقد انطلقت حكومة الوحدة الوطنية بخطاب ''صارحت فيه الشعب" بالوضع الاقتصادي والاجتماعي المتردي، معلنة عن توجهاتها التي ستعالج عبرها الأزمة، والمتمثلة خاصة في كل أشكال التقشف التي تعني وقف التوظيف في الوظيفة العمومية، وتسريح الموظفين وخفض كل الأعباء المالية العائدة للقضايا الاجتماعية، وتعني كذلك تجميد الأجور وزيادة الضرائب، والإمعان بالتشغيل المرن والهش.. وفي هذا يتأكد خيار "اليد اليمنى" للدولة ولسياساتها العمومية (بحسب التوصيف الذي استخدمه بيار بورديو لتمدد النيوليبرالية واقتصاد السوق)، أي تآكل كل المكتسبات المرتبطة بدولة الرعاية الاجتماعية التي تمثل "اليد اليسرى" للدولة والتي تقلصت كثيرا في تونس وتراجعت منذ سنة 1986، بعد الانخراط في تجربة إعادة الهيكلة ضمن شروط صندوق النقد والبنك الدوليين، اللذين فرضا شروطاً للإقراض تتمثل خاصة في الحد من تدخل الدولة في الرعاية الاجتماعية، وإطلاق يد السوق، أي التعويل على المبادرة الخاصة وعلى الخيارات الفردية بدل الجماعية.
وكانت تونس أحد أهم "التلامذة النجباء" في تطبيق تلك المبادئ، بالتوازي مع نظام سياسي استبدادي يقوم على الزبائنية والفساد. وقد أدت المزاوجة بين ثلاثية السوق والاستبداد والفساد إلى تمدد رقعة الفقر حيث يعيش مليون وستمئة ألف تونسي تحت خط الفقر أي بما يقدر بـ 15.5 في المئة من حجم السكان الجملي. ويوجد من بين هذه النسبة حوالي 500 ألف يجدون صعوبة في الحصول على المواد الأساسية للحياة، بحسب دراسة للمعهد الوطني للإحصاء والبنك الإفريقي للتنمية. وإضافة إلى هذا، تصل نسبة البطالة إلى حدود 15 في المئة، أغلبها في صفوف خريجي الجامعات، كما تتزايد مظاهر التهميش الأخرى بخاصة في العالم الحضري حيث يكثر المتسولون والنشالون وعاملات الجنس السري وجامعو فضلات المزابل، وتتزايد الفجوة الاجتماعية بين من هم داخل النسق الاجتماعي والاقتصادي ومن هم خارجه.

الاستثمار السياسي للزمن

لم تأتِ حكومة الوحدة الوطنية ببدائل للبؤس الحاصل بقدر ما جاءت لإدارة وضع اقتصادي متأزم، وهو أمر مفهوم. فالأحزاب المشاركة في هذه الحكومة التي تشكل مزيجاً من بعض اليساريين القدامى وبيروقراطيي النقابات والليبراليين المتشددين لم تقدّم منذ ثورة 14 كانون الثاني / يناير أي خطاب بديل لحل المسألة الاجتماعية، رغم كونها المرتكز الرئيسي الذي أدى ويؤدي إلى الاحتجاجات المتتالية (وآخرها كان أحداث مطلع 2015)، التي كلما تزايدت يتم اللجوء إلى "سياسة انتظارية" ترتكز على نزعة خطابية ذات منحى أخلاقي تتناول قيم التضحية والصبر.. وعادة، توكل السلطات المركزية إلى السلطات المحلية مهمة إدارة الأزمة عبر استقبال المحتجين في مكاتب المحافظ أو المعتمد والاستماع إليهم وتسجيلهم في قوائم "عمال الحضائر" (خدمة مدنية لفائدة الدولة تكون بمقابل زهيد وأحيانا من دون عمل المعني بالأمر)، مع تنمية '' فن الوعود" لمجابهة الشبيبة الغاضبة، والعمل بقدر الإمكان على جعلها أكثر صبرا. وترتبط هذه السياسة بالخاصية الشعبوية التي تميز النخبة السياسية التونسية منذ الاستقلال، وهي شعبوية كابتة للصراعات الاجتماعية، ومغيِّبة لكل المقولات المرتبطة "بالجانب الطبقي للمسألة الاجتماعية" باسم مقولات متعالية تتعلق بالأمة والوطن. وقد عبّر رئيس الحكومة الجديد عن هذه الشعبوية بعبارة "لازمنا ناقفوا لتونس" من دون أن يحدد بالضبط ماهية نون الجمع هذه ومكوناتها، ومسؤولية كل طرف فيها. فالخطابات الغامضة، والإسهال الخطابي المتعلق برفع القدرة الشرائية، وإيجاد مواطن الشغل للشباب إلخ.. صارت من ميزات الخطاب السياسي في تونس الذي يتجه أكثر نحو ''تسيير البؤس" و"التصرف في الأزمة"، وإضفاء معنى أخلاقي عليها بدل تقديم بدائل ورسم مشروع محدد. بل إن هذا الخطاب المهيمن والسائد لا يتجرأ حتى على مساءلة الأسس البنيوية للمساواة وغياب العدالة الاجتماعية وعمليات إعادة إنتاجها وترسيخها عبر السياسات والخيارات الاقتصادية.

تآكل الأنظمة العمومية

في ظل اقتصاد ليبيرالي هش يتسم بغياب القدرة التنافسية وضعف حركة النمو، تتزايد في تونس جميع الأشكال المتعلقة باللامساواة الاجتماعية، حيث يتآكل النظام التعليمي والنظام الصحي ونظام الخدمات العمومية، مما أدى على مدى سنوات إلى إضعاف الطبقات المتوسطة، الأمر الذي خلخل ''التماسك الاجتماعي"، وأحدث فتوقاً في الروابط الاجتماعية، وأنتج أشكالاً جديدة للإقصاء، سواء في المدن أو الأرياف. أخذت تونس منذ الثمانينيات نصيباً وافراً من فك التزام الدولة الاجتماعي ودعم القطاع الخاص، وقد أدى هذا الأمر إلى انبثاق مشاريع مجتمعية (الحركات الجهادية، وصول الإسلاميين إلى الحكم، انتشار الشعبوية). لكن الأمر لا يتعلق بهذا النطاق وحده بل بـ "تآكل الأنظمة العمومية". ففي سياق تونسي تميزه اللامساواة والشعور المتنامي بالإقصاء الاجتماعي، صار للطبقات المرفهة إمكانية التعويل أكثر على قطاع خاص بصدد التمدد، في حين أن الفئات الضعيفة والهشة بقيت تابعة لقطاع عمومي رث. فالتعليم والصحة بوصفهما الرمز القوي للسياسات التنموية والاجتماعية، بل ورمز مشروع التحديث الذي قامت به دولة الاستقلال، صارا جزءاً من استقطاب هو في طور التشكل بين الـ "هُمْ" المحتكرون للرساميل المادية والرمزية، والـ ''نحن" هشة ومقصية وموجودة على تخوم المجتمع، تناضل بكل الوسائل المتاحة لافتكاك مكان داخل النظام. فالصراع المجتمعي في تونس ليس صراعا طبقياً بالضرورة بل هو "صراع مواقع" حيث لا يطالب المهمشون بأن يتم تغيير النظام السائد كليا بل ''بالعيش مثل الآخرين"، وهو ما يجعل خطاباتهم موسومة بنزعة معيارية تتحدث عن ''الحُقْرة" (الاحتقار) و "الكرامة" و''الرغبة في عيش الحياة". إلّا أن الشعور السائد أن دولة اللاعدالة تتنامى (بحسب الباحثة بياتريس هيبو) وذلك بغياب التناظر الاجتماعي والمجالي (بين الفئات والجهات)، الذي يظهر بوصفه أحد مكونات الدولة ونتاج السياسات العمومية، وما تفعله الخيارات النيوليبرالية المتبناة هو إعادة إنتاج للامساواة على مدى أزمنة متعاقبة وبأدوات متعددة، وهذا ما تكفلت به أغلب الحكومات التي جاءت ما بعد إزاحة بن علي، تحت ضغط شروط التداين الخارجي من جهة، والمطالبات الاجتماعية من جهة أخرى. ومن ملامح إعادة إنتاج اللامساواة استمرار جعل المناطق الداخلية مجرد خزان لليد العاملة ومنجماً للثروات الطبيعية. بالمقابل تُترك هذه المناطق لتدبير حالها عبر اقتصاد التهريب الذي صار يشكل 52 في المئة من الناتج المحلي. فتلك المناطق صارت خارج سلطة الدولة الاجتماعية.

مواطَنة اجتماعية مهدَّدة

في ظل تصاعد اللامساواة الناتجة عن الخيارات والسياسات الاقتصادية، يسود لدى الفئات المقصية والمتوسطة شعور بأنهم يعيشون مواطَنة منقوصة، بل إنهم متروكون، وأن الثورة نفسها لم تقطع جذرياً مع صيرورة اللاعدالة المرسخة عبر الزمن، وأن '' الزواولة" (أي المعدمون والفقراء) هم المتضررون الأُوَل مما يحدث. كما أدى استمرار تهميش الداخل إلى صعود خطابات تطالب بالعدالة، ليس انطلاقاً من خلفيات قيم المواطَنة بل استناداً إلى منطق جهوي يتعارض مع الفكرة الديموقراطية ومع مبدأ المساواة بين المواطنين. لكن وبالمقابل تتجه الإصلاحات المزمع إجراؤها في إطار ''العلاقة الحميمة'' مع صندوق النقد الدولي إلى إفراغ فكرة المواطَنة من مضمونها الاجتماعي الذي يضمن الحد الأدنى للكرامة الاجتماعية، حيث تتجه السياسة العمومية في مجال التشغيل مثلا إلى إضفاء مزيد من مأسسة الهشاشة المهنية عبر ''مرونة العمل"، فيتراجع العمل القار ويتحرر التشغيل من صرامة الاتفاقيات الجماعية ومن التحكيم أو تدخل الدولة.. فتتحطم الهويات المهنية، ويتزايد عدد المعطوبين اجتماعياً بفعل تآكل الدعامات المادية والعلائقية. يلاحظ هذا الأمر بشكل خاص في الفضاءات الحضرية والمدن الكبرى حيث تتكثف المسافة والتمايزات المجالية والرمزية بين أحياء السكن الشعبي الفوضوي والأحياء الفخمة. وهكذا تحولت الشوارع العمومية في كثير من المدن التونسية إلى فضاءات للكفاح اليومي للفقراء القدامى والجدد عبر ''الانتهاك الهادئ للمعتاد"، وممارسة السياسة من خلال الحياة اليومية حيث السعي الدؤوب للحصول على حقوق حضرية مثل السكن والكهرباء والشغل من خلال احتلال الشوارع والساحات العامة والأزقّة الضيقة حيث يعرضون السلع المهربة للبيع. وبمقابل تنامي مظاهر الرثاثة والتهميش، تبرز في تونس ''الدولة اليومية''، حيث بتنا إزاء دولة تحاول تأطير الهامش دون السعي إلى تغييره، عبر الصمت عن المخالفات القانونية للمهمَّشين وذلك لعدم قدرتها على توفير بدائل، لكنها تبقي في الوقت نفسه على ذراعها الأمنية القوية من أجل وضع حدود لكل أشكال تمدد الهامش غير المحبَّذة. و في الضفة الأخرى تتنامى الحركات الاجتماعية لتجد بذلك، وفي كل مرة، الدولة والنخبة السياسية نفسها وجهاً لوجه مع فئات تُذكِّر أحياناً بعنف أن تمدد اليد اليمنى للدولة لا يجب أن يذهب إلى حد غير معقول.

 

مقالات من تونس

للكاتب نفسه

تونس: الثورة تنقسم على نفسها

كان 17 كانون الأول/ ديسمبر هو لحظة تكثيف معارضة التونسيين لتوصيات مؤسسات التمويل العالمية التي كانت تونس أحد "تلامذتها النجباء"، والتي أفرزت شروخاً اجتماعية، وجيوشاً من العاطلين عن العمل، ولا...

تونس: مثقفون هاربون من السياسة

لم تكن النخب الثقافية في تونس تتوقع أن يحدث تغيير جذري يطيح بالنظام، بل أن يُحْدِث النظام إصلاحات سياسية تتعلق بحرية التعبير والتعددية السياسية. تهاوي النظام كان الصفعة القاسية لغالبيتها،...