الاستغلال وثيقة عملٍ يوميّة
تُضمر الحرب إلغاء الآخر وقهره كليّاً. وهذا يتعمم على نحوٍ واسعٍ أيضاً، فيصيبُ مستوياتٍ أخرى خارج جبهات القتال، إصاباتٍ بعضها مباشر، وآخر مستتر. منشأ القلق هنا يخصُّ الدلالات النفسيّة العميقة التي يستبطنها مفهوم الحرب واقعيّاً حين يتعمم تدريجيّاً على بنية العلاقات الاجتماعية، فتتمحور حياة الناس حول فكرة النجاة الفرديّة، يكرّسون لها منظومة سلوكهم الواعي، في حين تتوسّع دوائر الاستغلال المباشر من حولهم، وهي ترى في الآخر خصماً وليس شريكاً. وهذه فكرة ثانية تديرها الحرب في أروقةِ اللاوعيّ الفردي، تنجح حيناً في الانقلاب من مجرّد فكرة إلى سلوكٍ مباشر، وحيناً آخر تظلّ مستترة، تترقب انهيار الدفعات الوجدانيّة الفردية الهشّة، لتصير سلوكاً مباشراً. كأنّما الحرب تنحتُ اللاوعي الجمعي على مهل، مستدلةً في خرائط عملها على الأفراد الأقلّ تحصيناً ضد الزلّات السلوكيّة، أولئك يبررون الاستغلال على أنه فعلٌ طارئ على سلوكهم، يستهينون به، كما لو أنه مجرّد انقلاب واقعيّ يفرضه الظرف الموضوعي القائم. أصحابُ أفرانٍ خاصة يتاجرون بالطحين والمازوت المدعوم الذي يحصلون عليه من الدولة بأسعارٍ بخسة، يحيّدون أفرانهم عن الإنتاج ويربحون. أصحاب محطات وقود يمتنعون عن بيع المحروقات بالأسعار الرسميّة، يتاجرون بها بوقاحة مع الأسواق السوداء المجاورة لمناطقهم، ثم يوظّفون ما يجنونه من أرباحٍ داخل مضارباتٍ عقاريّة لا سقف لها... لقد تجذّرت فكرة الاستغلال منذ سنوات، وارتفع منسوبها العام داخل وجدان السلوك الاجتماعي، ليصير متاحاً بموجبها أن تدخل شحناتٌ من اللحم الفاسد مناطق سيطرة النظام، يرشي أصحابها الحواجز الأمنية المرابطة هناك، ويدخلون بضاعتهم إلى بطون الناس المتعبة. لا يملّون من تكرار جملة "إنّها الحرب" لتصير الفكرة مضحكة إلى حد اللامعقول، لكنّها سرعان ما تستقيم، تعود لتظهر في مصفوفات السّلوك المتاح وكأنّها معفاةٌ من ضريبة الانتقاد أو المعاينة.
السوداويّة مزاجٌ يهطل على سلوك الناس
يرابط الخوف على مفترقات التفكير اليومي للناس في سوريا، يواظبون على تنفّس قلقهم على نحوٍ غير مقصود. هم لا يريدون فعل هذا، لكنّهم مرغمون عليه، وكأنّ حصار الحرب لهم لا ينتهي، إذ كيف سيشفون منها وهي التي تأكل أدمغتهم، وتغيّرُ بدهاءٍ كلّ ما هو حولهم. يصير تجوّل الأدعية بين أحاديثهم فعلاً مألوفاً، يزيحون بها عجزهم، ويأملون من تكرارها أن تتبدّل سمات واقعهم القاتمة، لكنّها لا تتبدّل. يهطل المزاج السوداويّ فوق أيّامهم كأنه مطرٌ لا يهجع. ينتحر في تفاصيل هطوله شابٌ لم يبلغ الثامنة عشرة من عمره، ولا أحد من معارفه يصدّق هذه الفعلة. قبل الانتحار وقعت جريمة قتلٍ مروّعة بلا سببٍ مقنع، جسدُ شابٍ آخر تمزّقه نصالُ المديات الحادة في مكانٍ عام ولا أحد يتدخل لإنقاذه. يحدث هذا حيث يسيطر النظام، وحيث تصير الدولة "البوليسيّة" مجرّد متفرّجٍ على الانهيار العام وشريكاً في إنتاجه. ثم يخاف الناس من تمادي قلّة الأمان، وهم محقّون.. ينزعون عن أجسادهم قلقاً ويرتدون آخر، "إنها الحرب"! تعود هذه الحجّة المضحكة لتُكبي الناس مجدداً. يستكينون، وهذا سلوكٌ اجتماعيٌّ جديد يتبجّحُ نامياً فوق العيون المصابة بالوهن، بحيث يمكن تتبّع آثار الاستكانة وهي تفيضُ من نظرات الناس، وهم يمشون في الشوارع بمحاذاة أفكارهم التي تتمحور حول البؤس، مشروعهم اليومي الذي لا تختمه خاتمة، وهم لا ينفلتون منه، وإن افتعلوا ابتساماتٍ خفيفةَ الوزن، لكنها تبقى معلّقة إلى مسقط رأسها "القلق".
يُعرّف العلم الأمراض السيكوسوماتية (النفسيّة - الجسديّة) بأنها تصيب أجهزة الجسم أو وظائفه على السواء، وتقاوم أشكال العلاج الطبي المعروفة. تدمغ حياة الناس أثناء الحروب، تتوسّع إلى كل الأعمار، ولا تختص بجنسٍ دون سواه. لكنّ الاقتراب من دوائر إطلاق النار أو الابتعاد عنها تزيد أو تقلل من تلك الإصابات. يتحدث الناس في سوريا عن ازدياد إصابتهم بمرضَي قرحة المعدة وفقدان الشهية العصبي الذي يأتي نتيجةً لصدمة انفعالية مرتبطة بالخوف مثلاً. غير أنّ الإحصاءات الطبيّة الرسميّة التي تشير إلى انتشار مثل تلك الأمراض داخل البلاد تبدو غائبة في الوقت الحالي، والمشاهدة المباشرة تقود إلى التيقّن من ازدياد عدد المصابين بهذا النوع من الأمراض بصورةٍ مستمرة.
حياة جديدة من دون ملامح
تتكدّر الوجوه من فقدان الأمان. "إنّها الحرب"! تطلُّ الجملة من جديد لتثقبَ زجاج الرأس برصاصٍ إضافي خارجٍ من فلكِ المعارك المستمرّة، تتبعثر الأخلاق العامة ليصعبَ جمعها لاحقاً، ثم يتاجر الظرف الموضوعيّ القاسي برغبات الناس في البقاء، يساومهم على أنفاسهم اليوميّة، بعدما صارت كلفة الحياة باهظة يتعذّر على الجميع دفع قيمتها. ولا ينقطع الناس هنا عن معاودة اختبار منظوماتهم الأخلاقية كلّما حاصرهم الإفلاس. بعضهم لا يبالي، يحمل سلاحاً وكثيرةٌ هي الجهات التي تمنح الأسلحة، ثم يصبح جزءاً من منطق هذا السلاح، ومن منطق اللحظة الراهنة. وهذه مناسبة لارتداء أقنعةٍ جديدة، أو إزالة أقنعةٍ قديمة كانت ملتصقة فوق الوجوه. آخرون شرعوا يمارسون أعمال مرتزقة بلا خجل، واستسهلوا أن يندمجوا بعطبها الطارئ من دون ندم، ولم يجرّبوا حتى اشتقاق حياةٍ أبسط، صاروا أكثر تقديساً للماديات، وهذا يقينٌ جديد بحيث تعرّف السوريون على بعضهم خلال السنوات الماضية وكأنهم يتعرّفون على أنفسهم للمرّة الأولى.
تغازلهم مظاهر عيد الأضحى التي بدأت تطلّ من بين تخفيضات المحلاّت، ومن بين ركام السّلع المكدّسة فوق الأرصفة للبيع، لكنّهم يواجهونها بقلّة الاكتراث. ليس في جُعَبِهم أي بهجةٍ ليتحدثوا بها. أليسوا يعيشون في مناخات الحرب المؤلمة؟ أليسوا أشبه بأُضحية ابراهيم الخليل التي تبدّلت في آخر لحظة.. وكان واثقاً من أنها ستتبدّل!