بعدها بأيام تجدّد لقاؤنا. كنت صاحياً ورأيت المطاردة تقترب مني. لا شعورياً أمسكت علبة المناديل، وفور وصول الصرصار إلى مخدتي (وهي طبقات متعددة من بطانية) هويت بعلبة المناديل فوقه. لاحظت أنها أصابتْه فلم أرفعها، بل ضغطتُها فوقه بكل قوتي. لم أحتمل فكرة هروبه من تحت العلبة واستمرار المطاردة على فرشتي. كنت حاسماً تماماً. حين رفعت العلبة كانت أمامي عجينة صرصار. المشكلة الوحيدة أنها كانت فوق مخدتي!
الذي استغربته أنني كنت قد ألصقت قطعاً من عجينة دواءٍ طارد للصراصير على الحائط فوق رأسي، فلماذا تأتيني هذه الصراصير كلها؟ أخرجت علبة العجينة لأتأكد من صلاحيتها، فقرأت مذهولًا آلية عملها: تجذب الصراصير برائحتها لتأكل منها فتقتلها مسمومة خلال 24 ساعة! العجينة تجذبها إذاً! وأنا الذي ألصقتها فوق رأسي.
في تشرين الأول/ أكتوبر 2014، صحا بعض الزملاء للسحور. كنت نائماً ليلتها. ثمّة جلسة استشكال لنا في الصباح. صحوتُ على أصوات الزملاء والنوم يغالبني. غطيت وجهي جيداً بقطعة ملابس نظيفة اعتدت لفّها على وجهي اتقاء للأصوات والإضاءة والصراصير. ظللت أقترب من النوم ببطء حتى سمعت زميلًا ريفياً طيباً: "الحق يا أحمد الصرصار اللي ماشي على الأستاذ عمر هناك ده". أصبحت الآن أكثر دراية وحكمة: لا يصحّ أن أنتفض مذعوراً كعادتي: سيهرب الصرصار في ثنايا فرشتي.
لم أتحرّك. فقط أغلقت فمي وعينيَّ جيداً. لم أكن أعرف مدى مهارة أحمد في اصطياد الصراصير. ركزتُ طاقتي الإيجابية كلها مع أحمد ليُنهي المعركة بأقل الخسائر. شعرت بخطواته، ثم بلمسة خفيفة فوق ركبتي، ثم صوت أحمد العظيم "خلاص مسكته". يا فرج الله.. تحركتُ، كشفت وجهي، فاعتذر أحمد الطيب، ظانًّا أنه أيقظني. شرح لي خجلاً أن صرصاراً كبيراً كان يمشي عليّ وأنه اصطاده، مادّاً يده تجاهي بالمنديل الملفوف دليلًا على صدقه!
أشرت له بإصبعي إشارة "اللايك" المشهورة، فانصرف مطمئناً. حين غطيت وجهي ثانية خطر لي أن ذلك الصرصار ربما كان بشارة بخروجنا من السجن. كانت الجميلة ماهينور قد خرجت باستشكال قبلنا في القضية ذاتها، وكانت المرة الأولى التي يمشي فيها صرصار كبير على جسدي وأنا صاحٍ. لابد أن لذلك دلالة على شيء ما. في الصباح رفض المستشار محمد الطنّيخي استشكالنا، ثم قُبِض عليه بعدها بشهور متلبساً برشوة من أحد رموز الحزب الوطني، وفقاً لتقارير صحافية كثيرة. لكنه استقال من القضاء فأخليَ سبيله وغادر البلاد. لعلها هي تلك البشارة التي لم أفهمها ليلتها.
مع ذلك، كانت لصراصير أخرى مغامرات لطيفة، إذ لم تكن تكتفي بمطاردة سريعة. لنتفق على أن الصراصير كالبشر، تتكيّف مع قسوة الظروف. وهي ترى نفسها صاحبة البيت هنا، هذا مسكنها ونحن المتطفّلون عليه، لابد من اللعب إذاً..
بعضها كنا نجده في أواني الطبيخ الميري ("التعيين") اليومي. هذه كانت تقهرنا حقاً. في مغامرات أخرى، يهرب صرصار من مطاردة ليلية، يختفي، ثم يُطفأ النور، ونظلّ نترقبه لأننا نعلم أنه هنا، بيننا، سيظهر حين يقرّر. ما زلت أذكر مغامرتين على هذا النحو. في أولاهما أخفى الزملاء عني الخبر. ظهر الصرصار صباحاً وقُتل. لكن ما الذي فعله تحت "جنح الظلام" مثلما يقول الأدباء؟ سأترك ذلك لخيالك.
في المغامرة الأخرى انتبهت للأمر، فلم أنَم. كان الصرصار قد اختفى في الصفّ المواجه لي. كان أحدهم صاحياً أيضاً. فجأة انتفض زميلي مفزوعاً وهو يضرب قفاه بكفه، حيث أحسّ بالصرصار يتمشّى.. نعم ضرب الرجل نفسه "بالقفا"، لكن اللعين أفلت. هذه المرة شاركتُ في المطاردة. رفعنا كل شيء قطعة قطعة فلم نجده. ظللت صاحياً حتى طلع الصباح. ثم أخبرنا زميل آخر أنه رأى في الظلام بقعة سوداء كبيرة تجري نحو حمام الزنزانة. اطمأننت بعض اطمئنان: سيكون بعيداً عني إذاً. مع ذلك لم أنَم إلا صباحاً.
في ربيع 2015، قامت الصراصير بغزوة كبرى، هذه المرة في السجن كله: مرة واحدة! ألم أقل إنها مغامرات؟ حدث سدد في مواسير الصرف، فارتفع منسوب مياه المجاري في المواسير الكبيرة التي لا تمتلئ أبداً. لم تصل إلينا المياه لأن السدد كان بسيطاً، لكن منسوب المياه طرد جيوش الصراصير التي كانت تستعد لموسم الربيع في أعالي المواسير التي تكون جافة دائماً. لذلك هربتْ إلينا من جميع المنافذ حتى لا يغرقها الماء.. من فتحة المرحاض البلدي و"البلاليع" في ممرات التريّض.
.. هكذا تفتّحت الصراصير وليس الزهور في الربيع.