رثاء...

"صلاح" لم يكن ابن أمي الوحيد، لكن أمي كانت - تقريباً - عالم صلاح الأوحد. هذه العلاقة التي تُسلّم بها العائلات التي تحظى بطفل/ة من ذوي الاحتياجات الخاصة... يعرف الجميع أن هذا الكائن هو "ذنب" الأم حتى تموت، وأن الأم هي كون هذا الكائن حتى يموت.
2023-07-06

ريم مجاهد

كاتبة من اليمن


شارك
اني مما يأمن القلب خائف، خط منير الشعراني - سوريا.

يدور الموت في دوائرنا، يرتبط بالحياة ولا يحيد عنها. وفي كل مشهد حياة، هناك دوماً مساحة لموت جديد. إنها اللعبة الأزلية التي لم يستطع البشري التكيف معها ولا تقبلها بدون شروطه غير القابلة للتحقق.

والموت لا يكون حقيقياً ما لم يكن يخصنا، ما لم تلسع ناره شغاف قلوبنا، ما لم يهيئنا للحظة الحقيقة: ما كان شيء وما هو آت شيء آخر تماماً، فالكلمات التي لم تقل لن تقال أبداً، والندم الذي تعايشنا معه في ظل حياة الآخر لن نستطيع غفرانه لأنفسنا بعد الآن، الخطط غير المنفذة، والمحبة المتأخَر التصريح بها، والعناق والقبلات والهدايا المؤجلة، كلها تقبع في الزوايا، ذنوب خالدة، مرارة غير قابلة للتطهير، وغصة مهما تحولت إلى دمعة فإنها لا تنتهي ولا تغادر الحلق.

و في مسيرة الكبر، يقترب الموت على مهل، ليس موتنا، بل موت الآخرين، ونسلم به كالرياضيات: إنها ساعة الرمل المشؤومة، تتناقص أيامنا وأيامهم كلما ازددنا تشبثاً بحياتنا وحياتهم، أولئك الذين نحبهم والذين لا يجب أن يموتوا أبداً في ظل وجودنا.

حين كان يجن الليل، ونتجمع في الغرفة الطويلة التي ننام فيها جميعاً، على الرغم من وجود غرف أخرى، كانت الفوضى تعم المكان: في الغالب خمسة صبيان من أعمار مختلفة وأنا. أخي الأكبر تركنا باكراً وذهب إلى المدينة.

كانت مسؤولية "صلاح" التي لم يكلفه أحد بها هي أن يعدّ لنا فراش النوم، ويضع البطانيات عليها. والمسؤولية العظمى التي لها دوماً الأولوية لديه هي أن يتفقد أمي، أن يظل بجانبها، فإذا ما أكملتْ عملها ودلفت إلى الغرفة لترتاح، دخل هو ليكمل رعايته لنا أو حتى أذيته: لقد اعتاد أن يستفز أحدنا أو أن نستفزه.

لن ينام صلاح قبل أن يقول لأمي: وأنتِ من أهله، فترد هي عليه قائلة: تصبح على خير. العملية المقلوبة هذه هي نظام عهدناه منذ كنا أطفالاً. "صلاح" سينام إنْ قال جملته هذه. قد يقولها لنا، لأحد فينا إن كان راضيا عنه، لكنه سيقولها لأمي كل ليلة، أيا كانت حاله وحالها، وانشغاله وانشغالها، وصحته وصحتها. ولا أعرف متى قالها أول مرة لكني أدرك أنها قيلت كل ليلة في الثلاثين عاماً التي مضت.

وحين كبرنا، وغادرنا القرية إلى المدينة، أضيفت إلى أولويات "صلاح" أولوية انتظار عودتنا. كان مستعداً لأن يظل تحت الشمس اللاهبة على سطح الدار أعلى الهضبة، ينتظر قدوم سيارة من الوادي علّها تحمل أحد إخوته، أو أن يسهر في الليل مراقباً الوادي إن كان هناك ضوء متحرك، فقد يكون مسافراً عائداً في الليل. لم يمّل يوماً من انتظارنا، ولم يرحم أمي من تكرار السؤال كل يوم لمئات المرات: متى يعود فلان، ومتى يعود فلان، ومتى تعود ريم؟

مقالات ذات صلة

و"صلاح" لم يكن ابن أمي الوحيد، لكن أمي كانت تقريباً عالم صلاح الأوحد. هذه العلاقة التي تسلّم بها العائلات التي تحظى بطفل/ة من ذوي الاحتياجات الخاصة، يعرف الجميع أن هذا الكائن هو "ذنب" الأم حتى تموت وأن الأم هي كون هذا الكائن حتى يموت.

كانت مسؤولية "صلاح" التي لم يكلفه بها أحد هي أن يُعدّ لنا فراش النوم، ويضع البطانيات عليها. والمسؤولية العظمى التي لها دوماً الأولوية لديه هي أن يتفقد أمي، أن يظل بجانبها، فإذا ما أكملتْ هي عملها ودلفت إلى الغرفة لترتاح، دخل هو ليكمل رعايته لنا أو حتى أذيته: لقد اعتاد أن يستفز أحدنا أو أن نستفزه.

لا أحد يستغرب صبر الأمهات غير البشري على التعب وسهر الليالي والمعاناة في ظل طفل كهذا، لا أحد ينكر عليهن "ذنبهن" الحزين غير المبرَر، لا أحد يحاول النفاذ إلى أفئدتهن ليخفف عنهن الأسى، ولا أحد يغبطهن على الامتنان الذي يشعرن به تجاه المحبة غير المشروطة التي تبديها هذه المخلوقات تجاههن.

وتلك أمي وذلك كان "صلاح"، يتشاركان العيون الحزينة ذاتها، والنظرة المتعبة، والمحبة التي لا نفاد ولا قعر لها، يتشاركان أسى غير مفهوم لغيرهما، ويتشاركان فوق كل هذا لغة واحدة وروحاً واحدة وأمنية واحدة: أن يظلا معاً ما داما حيين وأن يموتا معاً إن أزفت الساعة.

اعتادت أمي أن تقول: ربي خذنا معاً، لا تحين ساعة أحدنا قبل الآخر.. لم يتقبل الله هذه الدعوة، وكتب عليها ما لا يريد أي والد أن يعيشه أو يختبره، ما أعتبره أنا ضد الطبيعة ذاتها، كتب عليها أن تُودعه قبره، وأن تشاهده يمضي قبلها.

مقالات ذات صلة

أي كلمات يمكن أن تقال لأم لم يكبر ولدها وظل طفلاً حتى التاسعة والثلاثين، أي كلمات يمكن أن تخفف وطأة ليلة واحدة تقضيها منفصلة عنه بعد تسعة وثلاثين عاماً قضياها معاً لم يفترقا ليلة واحدة، كيف تصوغ نصيحة بالصبر والتجلد لأم كان ولدها كظلها – حرفيا - يقبّلها في كل حين من خديها ومن يديها ومن رأسها، وإنْ نهرته أو استدارت لتصلي قبّلها من ظهرها. أي عزاء يقال لها وهو الذي في كل حين يطلب منها أن ترتاح لأنها متعبة، وأن تدهن قدميها لأنهما تؤلمانها، فيقدّم لها الزيت والكريم ويطلب منها أن تهتم بنفسها وأن تستريح. كيف لأحد أن يقنعها بأن الزمن كفيل بجلب النسيان، وهي تخبرك أن ما فات من العمر أكثر بكثير مما تبقى لها كي تنسى فيه من لا يُنسى ولا يغيب صوته ولا حضوره؟

تبكي الطيور لمرأى أمي بدون "صلاح"..

كان "صلاح" يفهم أني تركت أمي وخذلتها، فأنا الفتاة، والمفترض أن أكون بجانب أمي أخدمها وأعتني بها. لم يرحمني من سخطه مرات عديدة إذ ينهرني عبر الهاتف: عودي وريّحي أمك فإنها متعبة! وأنا ساخطة بدوري الآن يا "صلاح"، فلا شيء سينهك أمي غير غيابك.

الموت ليس الحرب فقط التي كانت تعيد الشبان جثثاً إلى القرية، بل هو كل جانب في الحياة التي يعرفونها، والتي لم يعرفوها، موت يتشاركه كل اليمنيين، موت الفقر والحاجة والإهمال الطبي والجشع وغياب الخدمات وغياب الضمير...

وها هو العيد، وتلك صورة لا يمكن لكل من عايش عائلتنا أن يتخيلها بدون "صلاح". فالعيد هو "صلاح"، هو فرحته وسهر ليلته السابقة، هو ملابسه التي ينتظرها بفارغ الصبر، هو دورانه على الجيران يسلّم عليهم ويهنئهم بالعيد، وهو رؤية أمي سعيدة بسعادته، تشرق عيناهما معاً ولا تذبلا إلا بعد العيد.

فكيف لها أن تعيش هذا العيد؟ كيف لأحد فينا أن يقول عيد؟ ولماذا عيد إن لم يكن "صلاح" هو العيد؟ أفكر بكلمات أخرى غير الأسى أستطيع أن أصف بها مشهداً كهذا لكني لا أجد.

في آخر مرة قابلتهما فيها بعد ثمانِ سنوات فراق، كان في العيد. أتذكر الآن بامتنان تلك اللحظات. حينها، فاجأني صلاح الذي كان قد تعلم شيئاً جديداً. كنت أضحك عندما أسمعه ولكني الآن أبكي، كان يمسك أمي من رأسها ويظل يقبّلها حتى تدفعه بعيداً أو تضربه بلطف، بينما هو يضحك ويواصل قبلاته قائلاً: أنت حبيبتي يا أماه، أنت حبيبتي..

اعتادت أمي أن تقول: ربي خذنا معاً، لا تحين ساعة أحدنا قبل الآخر.. لم يتقبل الله هذه الدعوة، وكتب عليها ما لا يريد أي والد أن يعيشه أو يختبره، وما أعتبره أنا ضد الطبيعة ذاتها. كتب عليها أن تُودعه قبره، وأن تشاهده يمضي قبلها.

كان "صلاح" يفهم أني تركت أمي وخذلتها، فأنا الفتاة، والمفترض أن أكون بجانب أمي أخدمها وأعتني بها، لم يرحمني من سخطه مرات عديدة إذ ينهرني عبر الهاتف: عودي وريحي أمك فإنها متعبة! وأنا ساخطة بدوري الآن يا "صلاح"، فلا شيء سينهك أمي غير غيابك.

كيف للموت أن يكوي قلب أم بهذه الطريقة؟

في محاولتي لجعلها ترى الواقع الذي كانت مقْدمة عليه حين كان "صلاح" يقبع في "العناية المركزة"، وكلنا نعرف النهاية، قلت لها تقبّلي أمر الله إنْ حدث، قالت لي فليحدث لكن ليحدث لكلينا فما حياتي بدونه، قلت لها لديك نحن، يجب أن تعيشي لأجلنا نحن! ضربت لها مثلاً فلانة التي قتل اثنان من أبنائها في الجبهة وأعيدت جثتاهما، أولهما في عيد رمضان والثاني في عيد الأضحى، وفلانة التي قتل ثلاثة من أبنائها دفعة واحدة في السوق، والأهم جارتنا العزيزة التي تكاد تكون أماً لنا والتي دفنت حتى الآن ثلاثة من أبناءها.

انتبهتُ بعدها لقسوة الأمثلة، لقسوة ما أحاول به جلبها إلى الواقع... لقسوة حياتنا، ولكيف أن الموت دوماً هنا، الموت هو رديف الحياة لدينا، بشكل يومي وفج، موت بكل الطرائق الممكنة وغير الممكنة، موت جاف بشع لا يحترم قوانين البداهة التي من المفترض أن تمنع موت الأبناء قبل آبائهم. لقد ظل "صلاح" في المستشفى لأكثر من شهر ونصف، عرف في تلك الفترة من أحاطوا به، وبينهم أمي، أن الموت ليس الحرب فقط التي كانت تعيد الشبان جثثاً إلى القرية، بل هو كل جانب في الحياة التي يعرفونها والتي لم يعرفوها، موت يتشاركه كل اليمنيين، موت الفقر والحاجة والإهمال الطبي والجشع وغياب الخدمات وغياب الضمير، موت القيم الإنسانية وموت الرغبة في الكفاح لأجل حياة أفضل.
موت الحياة ذاتها. 

مقالات من اليمن

للكاتب نفسه

يمنيّات يخلقن واقعاً موازياً في ظلّ الحرب

ريم مجاهد 2022-03-31

بدأت "مَعين" بالاهتمام بالسجينات "العاديات"، وخلال الحرب أصبحت وسيطاً في نزاعات ومفاوضات كثيرة. أعادت "أشواق" بناء مدارس مقصوفة من العدم. تعمل "داليا" على توفير مهنٍ لنساء الحُديدة الفقيرات، بينما تطوعت...