أعلن الرئيس الأميركي أوباما في العام 2011 أن "متطوّعي هيئة السلام يعودون إلى الولايات المتحدة بعد اكتسابهم تجارب بالخارج ويقدّمون لمجتمعاتهم فهماً أفضل لثقافات وتقاليد أخرى تعرفوا عليها". وتعتبر هيلاري كلينتون بأن منظمة هيئة السلام "تمثل تنوّع الولايات المتحدة، وتلهم ملايين الأشخاص عبر العالم حول ما يمكن تحقيقه سوياً".
فهل هم متطوّعون قدِموا لخدمة الإنسانية؟ وهل هم رسل للسلام والمحبة والتعارف بين الشعوب وتلاقح الحضارات وترادفها وتثاقفها؟ أم هم مستعرِبون ومستمزغون (من أمازيغ) ومستشرقون قدموا لدراسة لغات وعادات وتقاليد الشعوب العريقة؟ ماذا يقول أهالي المغرب العميق عنهم؟ وكيف ينظرون هم لأهالي المغرب العميق؟ وهل لهم أهداف غير معلنة أم هم أبرياء من التهم التي يظن الأهالي أنها وراء قدومهم؟ وهل غيّر قضاؤهم عامين متتابعين هنا من نظرتهم للمغاربة، العرب والأمازيغ والمسلمين؟
الشروط المطلوبة في عائلة تستقبل متطوّعاً
قبل وصول المتطوّع الجديد، يكلف المتطوّعون القدامى بالبحث عن العائلة التي ستستقبله. يجرون معها اجتماعاً صريحاً ودقيقاً، يعرضون عليها خلاله جملة من الشروط الواضحة والبينة.
يخبرون العائلة عن بنية وكيان وهيئة المتطوع/ة، وإمكانية أن تكون له عادات وطباع وسمات وديانة مخالفة لثقافة العائلة، وأن عليهم ألا يستغربوا هذه الأمور.
"يجب أن تعلموا أن المتطوع/ة التي نجهل اسمه وعمره وولايته، يمكن أن يكون نباتياً لا يأكل اللحوم. كما يمكن أن يكون له طقس خاص بالعبادات ودين غريب عن دينكم وثقافتكم كأن يكون من عبدة النجوم والقمر مثلاً، ويمكن أن يكون لونه أسمر أو أشقر ويمكن أن يكون قصيراً جداً".
تشترط المنظمة على صاحب الدار التي سيسكنه المتطوّع وستدفع المنظمة ثمن استئجاره، وعلى ساكنة القرية، ما يلي:
- سيزور المتطوع في منزله الخاص متطوّعون ومتطوّعات أميركيات.
- لا يحق لمالك الدار المطالبة بإفراغ المتطوّع للمنزل إلا بعد نهاية عملها مع المنظمة أي مدة سنتين أو ثلاث سنوات.
إن ارتضت العائلة شروط المنظمة، تبعث لها الأخيرة بالمتطوع الأميركي الذي سيقضي أسبوعاً بصحبتها خلال فترة التدريب، ثم يمكث لديها شهرين متتابعين بعد نهاية التدريب، وينتقل ليسكن منزله الشخصي، إن وافق مالكه على شروط المنظمة المتعلقة بكراء الدار.
يخضع المتطوّعون الحاصلون على شهادات الإجازة أو الماستر، والمتراوحة أعمارهم ما بين 21 سنة و70 سنة لتكوين في مجال الحديث باللسان الدارج والأمازيغي المغربي لمدة ثلاثة أشهر، ودورات تدريبية في دراسة وفهم العادات والتقاليد المغربية وكذا الأديان السائدة بالبلد.
تشترط المنظمة على العائلة التي تودّ استقبال متطوعة أميركية ألا يكون لها شبان مراهقون، خشية إقامة علاقات جنسية معها، احتراماً لعادات وتقاليد المغرب العميق التي تحرّم إقامة علاقات جنسية خارج إطار الزواج. وتشترط المنظمة على العائلة التي ترغب في استقبال متطوّع ألا يكون لديها فتيات مراهقات أو شباب.
يمضي كل متطوع - أو متطوعة - أسبوعاً أثناء فترة التدريب مع العائلة التي ستستضيفه لمدة شهرين بعد نهاية ثلاثة أشهر من التدريب، تتلقى العائلة منحة مالية متواضعة من منظمة هيئة السلام عن هذه الفترة القصيرة، وتلح المنظمة على العائلة المستضيفة لعدم تكليف نفسها عناء الإسراف على الضيف وتحمل ما لا طاقة لها به للمبالغة في إكرام الضيف الذي سيقضي عندها أسبوعاً، وعلى اعتبار المتطوّع الضيف فرداً من العائلة.
والظاهر أن المنظمة تريد من وراء عدم إسراف العائلة على ابنها الجديد، تمكن المتطوّع من معرفة كيف يعيش البسطاء من سكان قرى المغرب العميق، من خلال مائدة الطعام.
في بيتنا أميركي
تحتضن العائلة المغربية المتطوّع بعد نهاية التدريب ويعتبرها عائلته: الأم أمه والأب أبوه والأبناء والبنات إخوته لمدة سنتين، حسب ما تنص عليه مدة العمل وفق قانون المنظمة.
تخصص العائلة بيتاً لابنها أو ابنتها الجديدين، وتشترط المنظمة على العائلة الجديدة للمتطوّع أن يتوفر منزله على مرحاض.
يشارك المتطوّع عائلته الجديدة أفراحها وأتراحها بعد أن يرحل عنها ليستقر في منزله المستقل الذي تدفع المنظمة ثمن كرائه. يصوم معها شهر رمضان ويشاركها الاحتفاء بالأعراس والعقيقة والختان والأعياد الدينية، ويفطر المتطوّع لدى عائلته طيلة شهر رمضان سواء كان صائماً أم لا، كما يحضر مجالس العزاء ويقدّم التعازي في القرية.
تعتبره "الجماعة" – حكومة القرية أو القصر- واحداً من سكان القرية، يطلق المتطوّع على نفسه اسماً عربياً أو أمازيغياً.
يتعلم المتطوعون الأميركيون اللغتين العربية والأمازيغية بسرعة رهيبة، وتثير سرعة تمكنهم من اللغتين بطلاقة ريبة الأهالي والنخبة المثقفة، مما يطرح السؤال الآتي:
- كيف استطاع هؤلاء التمكن من اللغتين العربية والأمازيغية في ظرف وجيز؟
يجيبون: ربما درسوها قبل المجيء إلى المغرب!
يعمل كل متطوّع حسب تخصصه، في الصحة أو الصناعة التقليدية أو المياه والغابات أو دور الشباب. يحترمون ديانات قرى المغرب العميق وعاداتها وتقاليدها وأعرافها. تلبس المتطوعات الزي التقليدي، ويصعب التمييز بينهن وبين بنات المنطقة، خاصة عندما يسترن وجوههن بالملحفة الصحراوية أو بـ "أضغار" (رداء أمازيغي أصيل)، وليس البرقع الأفغاني الدخيل أو القناع السلفي المتطفل على الثقافة الصحراوية والأمازيغية، الذي أدخله رهط من رجال التعليم والموظفين السلفيين القادمين من غرب البلاد وساحلها ووسطها إلى هذه الحواضر.
يظهر أن المتطوعات الأميركيات على علم بالتراث الإتنولوجي والإثنوغرافي للمغرب العميق، لذا يسترن وجوههن بنقاب محلي أصيل ذي مرجعية صحراوية وأمازيغية، ويرفضن ارتداء البرقع الأفغاني والقناع السلفي، لعلمهن ضمنياً أنه دخيل على عادات المنطقة وتقاليدها المحافظة أصلاً والمتمسكة بالدين مذ عهد عقبة بن نافع.
لا تجلس المتطوعات في مقاهي حواضر المغرب العميق وقراها، لأن نساء المنطقة لا تجلسن في المقاهي إلا إن كن مسافرات، وتجلسن فقط لتناول الطعام لا غير.
لا يحتسي المتطوعون المشروبات الروحية ولا يشربون السجائر توقيراً لعادات القرى وتقاليدها.
يحصل كل متطوع على دراجة عادية تبعث بها المنظمة، ويستعمل الخوذة أثناء قيادتها، عكس بعض المغاربة الذين يقودون الدراجات النارية دون استعمال الخوذة بالحواضر والبوادي، وكذلك بالنسبة لبعض رجال الشرطة والأمن.. الذي يُعدّ ترفاً عند الغالبية العظمى.
يحصل كل متطوع نهاية كل شهر على مبلغ 2500 درهم - 250 دولاراً أميركياً - الأمر الذي يثير شكوك الأهالي والناشطين الجمعويين. فكيف يعقل أن يتقاضى أميركي مبلغاً يكاد لا يتجاوز الحد الأدنى للأجور في القطاع الخاص؟ ما السر في عمل هؤلاء تطوّعاً لوجه أميركا؟
وتختلف نظرة بصاصي المغرب العميق إلى المتطوعين الأميركيين، هناك من يعتبرهم جواسيس جاؤوا بهدف لمّ معلومات وإجراء أبحاث ودراسات عن المغرب وكتابة كتب، من خلال مخالطتهم للعامة والخاصة وإتقانهم للغات واللهجات ومعرفة العادات والتقاليد، بغية استعمالها في احتلال المغرب على المدى البعيد، بعد حوالي قرن أو قرنين من الزمن. ويقول آخرون إن المتطوّعين جواسيس دون أن يعلموا. كيف ذلك؟
يرفعون تقارير يومية عن عادات وتقاليد المنطقة وأبرز الأحداث إلى مسؤولين بارزين، يستفيدون من تلك التقارير في كتابة أبحاث ودراسات تجسسية، ويعتمدون عليها في معرفة مختلف الأوضاع عن البلد.
وعلى النقيض من الآراء السابقة، يرى آخرون أنهم مجرد أميركيون عاديون جاؤوا لأداء خدمة وطنية تتجلى في نشر الثقافة الأميركية من خلال العمل التطوعي ومساعدة الفقراء والمساكين، ولتشجيع الصداقة والسلام بين الشعوب وتقديم الدعم التقني للسكان المحليين والتبادل بين الثقافات ومعرفة الآخر، كما أن عملهم ليس له علاقة بالسياسة بل هو تطوعي خيري.
رأي المنظمة
عن متطوعي هيئة السلام الأميركية ورد في دليل النظير/ المشرف الصادر عن هيئة السلام للولايات المتحدة الأميركية المغرب، تشرين الأوّل/ أكتوبر 2003 أنّهم "بالتحديد متطوعون، حيث إنّ خدمتهم غير لازمة، ولا تعتبر بالتالي بديلاً لأي إلزام جامعي أو غيره في الولايات المتحدة، ويتقاضى المتطوعون بالمغرب منحة متواضعة بدلاً عن الراتب. فمعدل تكاليف المعيشة يعد محدوداً، لذا يبدو بإمكان كل متطوع من متطوعي هيئة السلام العيش على هذا الراتب وفي المستوى المعيشي نفسه للشعب الذي أتوا لخدمته (...) مكافأة المتطوع أو المتطوعة تنبع إجمالاً من القناعة الشخصية بالعمل على نحو مباشر مع الشعب المغربي بجدية من أجل تحقيق التنمية والتفاهم".
أجريتْ حوارات عدة مع متطوعين ومتطوعات أميركيات، عن كيف ينظرون إلى الشعب المغربي وما هو الاعتقاد الذي كان سائداً عندهم؟ أجابوا:
المغاربة شعب طيب وكريم ومضياف. هذا بصفة عامة. ويتميز سكان العالم القروي والصحراء بالصدق والحلم والكرم وبإيثار الضيف والوفاء بالعهد. كنا نعتقد أن وضعكم الاقتصادي والاجتماعي صعب، بيد أننا اكتشفنا عكس ذلك كما اكتشفنا حسن معاملتكم، مما بدّد الأفكار المسبقة التي قرأناها عنكم، وتبين لنا أن أفضل وسيلة لمعرفة شعب من الشعوب هو مخالطته والعيش في كنفه، كما صححتْ لنا معاشرتكم الأحكام الخاطئة عن العرب والأمازيغ والمسلمين.
.. ويبقى الأمل كبيراً في أن تبعث الدولة المغربية بمغاربة متطوّعين لنشر الثقافة المغربية عالمياً، وأن تعترف بأهمية العمل التطوّعي وتعتبره مقدساً وجب الإقرار به وتقييمه.