خلال شهر تموز/ يوليو الماضي، نشر "المجلس القومي للمرأة" في مصر تقريره عن "صورة المرأة في دراما رمضان 2016". تناول التقرير 28 مسلسلاً اختيرت من بين الأكثر عرضاً على الشاشات، وتَضمّن انتقادات حادة لها كونها قدمت صورة شديدة السلبية للمرأة واحتوت على العديد من المظاهر السّلبية التي لها انعكاساتها الخطيرة على المجتمع. وهي انتقادات باتت تتكرر كل موسم.
وفقاً للتقرير، بلغ عدد المشاهد التي تعرضت فيها المرأة للعنف المادي أو المعنوي أو كليهما، 1607 مشهد، مورس معظمه من قبل رجال على رأسهم الزوج. وقد ظهرت المرأة كثيراً في أدوار الراقصة، فتاة الليل، الزوجة الخائنة، المطلقة التي تخطف الزوج من زوجته، المرأة العاملة غير الناجحة في حياتها الأسرية، الأم التي لا تربي أبناءها بشكل سليم. وكثرت مشاهد العري والإثارة واستخدام الشتائم والألفاظ غير اللائقة التي تهين المرأة، إذ لوحظ كثرة السًباب بالأم. كما الترويج لفكرة الاهتمام بالمظهر الخارجي للمرأة دون الاهتمام بالجوهر، وعرض العلاقات غير الشرعية على أنها أمر طبيعي ومقبول، إلى الحد الذي يخلق حالة من التعاطف مع خيانة المرأة لزوجها على سبيل المثال، مما يشجع العديد من النساء اللاتي يتعرضن لإهمال أزواجهن لاتخاذه مبرراً للخيانة الزوجية. والتركيز على حياة الطبقات الثرية من خلال المنازل الفارهة والسيارات والمجوهرات، مع تهميش الطبقة الوسطى. وكذلك المبالغة في مشاهد تناول الخمور والمخدرات والتدخين للرجال والنساء ولعب القمار. وإلغاء فكرة وجود قيم وأخلاق تحكم العلاقات بين الناس، والترويج لفكرة عدم أهمية الترابط الأسري بالتركيز دائما على الصراعات المستمرة داخل الأسرة.
تدهور عام
المخرجة إنعام محمد علي صاحبة "هي والمستحيل" و"ضمير أبلة حكمت" و"قاسم أمين" و"مباراة زوجية" وغيرها، تتحدث عن تدهور صورة المرأة في الدراما في إطار تدهور عام للدراما وسيادة المنطق التجاري الذي يلهث وراء الإثارة وما يجذب الجمهور، وسيطرة الإعلان على الإعلام بينما تغيب القضية والرؤية إلا في القليل النادر. تقول: للتليفزيون خصوصية، فهو يحظى بنسب مشاهدة عالية، وهو يخاطب الأسرة في المقام الأول، ويعرض فيه العمل يومياً، ومن ثم يكون هناك إلحاح على الفكرة التي تقدم، وله دور خطير في المجتمعات النامية حيث نسبة الأمية مرتفعة، ويأخذ المتلقي ما يعرضه على أنه أمر مسلم به. لكل هذا، هناك معايير وقيم تحكم التليفزيون تختلف عن تلك التي تحكم السينما.
وتصف الواقع الحالي للدراما: صرنا نرى في الأعمال الدرامية إبهاراً على مستوى الصورة، وهذا له أهميته. وهناك أيضا مخرجون جيدون وممثلون يؤدون أدوارهم بصورة جيدة، لكن المشكلة تكمن في ضعف النص. هناك فقر واضح في الأفكار يتضح من خلال الاعتماد على أفكار مكررة منقولة عن أعمال أخرى عربية أو أجنبية، أمريكية وتركية خصوصا، دون أن يكون هناك تناول لمشكلات نابعة من مجتمعاتنا، ومن ثم تكون النتيجة "جعجعة بلا طحن". وفي أحيان كثيرة يكون الاعتماد الأساسي على "النجم" أو الممثل الذي يقوم بدور البطولة فيقتصر دور المؤلف على "تفصيل" الدور الذي يريده هذا النجم.
في مسلسلات رمضان لهذا العام، بلغ عدد المشاهد التي تعرضت فيها المرأة للعنف المادي أو المعنوي أو لكليهما، 1607 مشهداً..
وتتساءل: هل الهدف تكريس الواقع أم تغييره؟ الدراما والفن عموما ليست فوتوغرافيا للواقع بل اختيار من الواقع يتم وفق رؤية وبهدف الارتقاء بالذوق العام، وليس العكس. حالياً للدراما أثر سلبي جداً على عقول المتلقين وسلوكياتهم، لأن هناك مبالغة في إظهار القبح والسوء والسوقية، وتركيز على نماذج سلبية دون أن يكون هناك معادل موضوعي لها، بتقديم النموذج الإيجابي إلى جانب السلبي. كان يقال دائما "الدراما بطلها الإنسان العادي"، لكن الدراما الآن تركز على الخروج عن المألوف وتقديم شخصيات استثنائية لا يجد فيها المتلقي نفسه أو مشكلاته الحقيقية مجسدة على الشاشة.
"الزمن الجميل" في قفص الاتهام
هل المشكلة تكمن فقط في الأعمال التي أنتجت في "سنوات التدهور"؟ هل كانت الدراما قبل ذلك تقدم صورة إيجابية للمرأة؟ على الرغم من أن مسلسلات الثمانينات والتسعينات كانت تتسم بقدر كبير من "المحافظة" مقارنة بنظيرتها التي تقدم الآن، إلا أن هذا لا يعني أنها كانت تقدم صورة إيجابية للمرأة. تحضر هنا دراسة الباحثة زغلولة السالم التي صدرت في عمّان بعنوان "صورة المرأة العربية في الدراما المتلفزة"، وهي في الأصل رسالتها للماجستير من الجامعة الأردنية عام 1996. تناولت عينة من الأعمال الدرامية العربية التي عرضها التليفزيون الأردني على مدار الفترة من 1992 إلى 1994، وبلغ عددها 32 عملاً تنوعت بين مصرية (15) وأردنية (10) وسورية (8)، حيث قامت بتحليل مضمون 187 شخصية نسائية من شخصيات هذه الأعمال، لمعرفة أبعاد الصورة التي تقدمها للمرأة على مستويات عدة، نفسية واجتماعية وثقافية واقتصادية وسياسية. وعلى الرغم من خلو العينة المصرية مثلاً من أعمال أنتجت خلال هذه الفترة ونالت جماهيرية كبيرة وصارت علامة مميزة لها، لأن معيار الباحثة في الاختيار كان مختلفاً، إلًا أنّ النتائج تبقى مهمة وكاشفة، لاسيما أنها لم تقتصر على جنسية عربية بعينها.
بالتحليل الكمي والنوعي للبيانات، تؤكد الباحثة أنّ صورة المرأة جاءت متأخرة عن الواقع الحقيقي لها في المجتمع العربي (فضلا عن أن تقدم نماذج يمكن تبنيها ومحاكاتها لتغيير هذا الواقع للأفضل).
فعلى المستوى التعليمي، جاءت أعلى نسبة من الشخصيات للمرأة الأمية (36.9 في المئة). وإذا أضفنا إلى هذه النسبة ــ كما تشير الباحثة ــ نسبة "غير واضح" (14.4 في المئة)، أي عدم قيام الشخصيات بأيّ نشاط يدل على أنها مثقفة أو متعلمة، تصبح النسبة أكثر من النصف. وعلى مستوى النشاطات الاجتماعية والثقافية (كالمشاركة في الأعمال التطوعية أو الانتساب للجمعيات الاجتماعية أو ممارسة أنشطة فنية ..إلخ) جاءت نسبة الشخصيات التي لا تمارس أية أنشطة أكثر من 88 في المئة، وبلغ عدد الشخصيات التي لديها ميل للعلوم والفلسفة "صفراً" في كل الأعمال. وانحصرت نشاطات الشخصيات حول موضوعين رئيسيين: النشاط المنزلي والعناية بأمور الأسرة حتى لو كانت موظفة أو عاملة، والعناية الفائقة بالملابس والماكياج وتصفيف الشعر.
صورة المرأة في هذه المسلسلات جاءت متأخرة عن الواقع الحقيقي لها في المجتمع العربي
وتمثلت الأهداف التي كانت تسعى إليها الشخصيات في العثور على زوج، إرضاء الزوج والاحتفاظ به وإسعاد وإرضاء أفراد الأسرة، المهارة في الإدارة المنزلية، الغنى المادي. وكانت صورة المرأة المُضحّية من أبرز الصور، فالتضحية مطلوبة من المرأة في أية بيئة وفي أي طبقة اجتماعية وفي أي فئة عمرية، سواء براحتها النفسية أو الجسمية، أم بالعمل خارج المنزل، أم بأموال تمتلكها، أم بالتوقف عن التعليم. وتقاس مثالية المرأة وكمالها في هذه الأعمال بمدى تضحيتها ونكرانها لذاتها.
الصورة المقدمة
كانت غالبية الزوجات ربات بيوت في مختلف الطبقات الاجتماعية. وحين تصر الزوجة على العمل تصور على أنها عاجزة وغير قادرة على أن توفق بين بيتها وعملها. والزوجة الصالحة هي التي تجعل شخصيتها وطموحاتها ثانوية. فالحل الذي تطرحه الدراما العربية، كما تقول الباحثة، لمشكلة المرأة التي تقوم بدور مزدوج هو إما الطلاق أو التفرغ للبيت والزوج والأولاد. والفتيات الجامعيات يذهبن إلى الجامعة للبحث عن عريس، والبنت في الجامعة تعيش في دوّامة إشباع الجانب العاطفي من حياتها، دون أن نعرف شيئا عما فعلته في الدراسة والبحث والتحصيل العلمي. وكان عدد مرات استخدام كلمة "حرمة" لا حصر له. ومن القيم التي تم التأكيد عليها في هذه الأعمال بالنسبة للمرأة: التضحية والطاعة والصبر على الظروف مهما كانت سيئة، وضرورة الارتباط برجل، فمكانة المرأة من مكانة زوجها ولا قيمة لها بدون ارتباطها برجل. وكانت العلاقة بين المرأة والرجل غير متكافئة، فهي ليست علاقة الند للند، بل إن المرأة تلتزم بالإطار الذي يحدده لها الرجل، فهي دائما مقهورة ومغلوبة على أمرها.
أمّا على المستوى النفسي الاجتماعي فنجدها مذعنة وخاضعة، ليس لها كيان مستقل بنفسها وإنما تستمد هويتها من الرجل أباً وزوجاً وأخاً. وهي تفتقر إلى الانضباط العاطفي في سلوكها فعواطفها هي التي تتحكم فيها، وتفتقر إلى العقلية العلمية وتنقصها القدرة الذهنية والعقلية في مجال الفكر والمعرفة. كما أنّها سلبية في مواجهة مشكلاتها اليومية. وهي تابعة للرجل اقتصاديا، وبدونه لا تستطيع إعالة نفسها. كما أنّها عاجزة عن إدارة المشاريع الاقتصادية أو إدارة أملاكها بنفسها. وهي تركز اهتمامها على المجال الخاص والمجال المنزلي ولا تكترث بمشكلات المجتمع. وتستثني الباحثة دراما "آن الأوان" تأليف الكاتبة سكينة فؤاد، فهي "الوحيدة بين العينة الكلية للبحث التي طرحت قضايا الرجال والنساء سواء بسواء، وتقترح العلم والعمل كطريقة للخروج من حالة التخلف التي يعيشها المجتمع العربي، ولن يكون هذا ممكنا دون المشاركة الحقيقية والفعالة للمرأة".
ما الحل؟
تأتي الدراما التي تقدم صوراً إيجابية للنساء وتسعى لتحسين أوضاعهن في المجتمع إذاً على سبيل "الاستثناء". فكيف يمكن تحويل هذا الاستثناء إلى حالة عامة؟ وكيف يمكن إيجاد دراما بديلة تدفع للأمام بدلا من أن تؤدي إلى المزيد من التخلف؟ سؤال جدير بالنقاش والطرح الدائم إذ "لا يمكننا إحداث تغييرات إيجابية في سلوك المجتمع نحو المرأة دون أن تدعم الدراما ذلك" كما أكدت د. مايا مرسي رئيسة المجلس القومي للمرأة أثناء المؤتمر الصحافي الذي أعلنت فيه نتائج التقرير.
كثيرون يطالبون بعودة دور الدولة في الإنتاج الدرامي، ولكن هذا ليس حلا سحرياً كما يبدو للبعض، فالعقلية التجارية والرغبة في تحقيق الربح يمكن أن تسيطر على قطاعات الإنتاج الحكومي أيضاً، والتي تعاني من مشكلات مالية وإدارية، في عصر تحول الدراما إلى "سوق" تنفق فيه الملايين (بلغت ميزانية إنتاج مسلسلات رمضان هذا العام أكثر من 2.5 مليار جنيه، 70 في المئة منها لأجور النجوم)، كما أن المسلسلات التي أنتجت في عصر سيادة الإنتاج الحكومي ــ مما تناولته الدراسة المذكورة آنفا ــ قدمت أيضا صورة سلبية للمرأة. ويكفي أن نعرف أن مسلسل "الحاج متولي" كان من إنتاج قطاع الإنتاج بالتليفزيون المصري عام 2001.
تعوّل كوثر الخولي، المسئولة بإحدى جمعيات المرأة، على الدور المجتمعي الذي بات يمثل أداة ضغط ووسيلة لنشر الوعي، من خلال المنظمات أو حتى المبادرات الفردية التي باتت نشطة على الفيسبوك للتصدي لأي إسفاف أو ابتذال، وترى أنه يمكن تحقيق تحسن ملموس في صورة المرأة في الدراما من خلال مبادرة المجتمع المدني لفتح حوار مع القائمين على صناعة الدراما، من كتّاب ومخرجين وغيرهم، عبر جلسات أو ورش عمل مشتركة للتوصل إلى "مدونة سلوك" تتضمن معايير لمنع أي انتهاك أو تشويه للمرأة على الشاشة. ولكن إلى أي مدى يمكن أن يستجيب صناع الدراما لمبادرات كهذه؟ وإلى أي درجة سيكون الالتزام بما سيسفر عنه الحوار؟ وهل سيظل الأمر في حدود "الاستثناء"، أم يمكن بالفعل من خلال ذلك خلق "اتجاه" مناهض لأي تأثير سلبي للدراما على مكانة المرأة في المجتمع؟