إنّها الرابعة فجراً في مدينة النجف العراقية، الليل يستجمع ما تبقى من قواه، يناور في سحب ستار العتمة عن مشهد المدينة التي تستعد لاستقبال يوم صخب عادي، ومن خلفه، تنسل أول خيوط الضوء. يزحف متثاقلاً بين أضرحة "وادي السلام" في الجهة الشرقية للمدينة، صوب جهاتها الأخرى. يتلوى بين عقود المدينة النائمة، يطرق الأبواب، يتسلل من خلال الستائر، ينفجر صياحاً في حنجرة ديك أو رفّة جناحين، ويزعج نوم عمّال تكوّرت هياكلهم الصغيرة في ضيق "العربانة" (مركبهم).
في البيوت، حبوب الهال في بكارج القهوة، تتقاذفها فقاعات المياه المغلي، تلمع قطرة سكر انحدرت من صدر الدهينة الطازجة (نوع من الفطيرة)، والضوء مستمر بزحفه يصل بحماسة إلى حائط الحَضرة (مرقد الإمام علي)، ينير الصحن الذي تكومت فوق بلاطاته أجساد الزوار الفقراء، نياماً.
لحظات، وتتكاثف خيوط الضوء، تتحول إلى حزمات من الأشعة الساطعة، تتسلق ببطء الحائط الشرقي للمقام ("الطارمة"). آثار الرصاص على الحائط ما زالت ماثلة للأعين، تذكاراً وتذكيراً بطغاة العصور الّذين مرّوا من هنا. ثم ترتقي لتضفي على القباب الذهبية لمعاناً إضافيّاً. بحذر، يلتصق بعضها بزجاج الشبابيك المتثائبة، ينعكس، يتكسّر، يتبعثر، فتلمع المقرنصات والمرايا، وتزهو ألوان القاشاني والفسيفساء الخراسانية والميازيب والتيجان والعناقيد المذهبة أعلى المرقد المهيب.
تُفرد أسراب الحمام أجنحتها للهواء، تعبّ من أنفاس المدينة ملحاً وعِلماَ وحكمة وصبراً جميلاً، تهدل، تتقافز، تطير زرافات ووحدانا، وتبتعد ثم تهبط دفعة واحدة، كأنّ أحداً يناديها. حمام الحَضْرة صورة ناصعة عن النجف، فهو يتقن فن العيش مع الآخر، ومسايرة الغريب قبل القريب، وقيم التعارف الجميل ومشاركة حُبيبات الأرز والحنطة التي تقدمها أيدي الناذرين لشفاعة أو أمنية.
على مقربة من الحضرة، تنْفض الأسواق الغبش الصباحي عن أبوابها، تبدأ وتيرة أصوات الباعة المتجولين والمتسوّلين والزوّار، بالارتفاع رويدا، وكذا الألوان والروائح والتوابل، ولا يلْتئِم المشهد إلا بظهور بسطات الحلوى: الكليجة والطاتلي والدهينة النجفية، ومنافساتها من السوهان الإيراني والتمر السعودي والبقلاوة التركية.. بدع "سكّرية" ظهرت بعد انهيار الدولة والاقتصاد العراقي. وتتفرع الأسواق إلى قيصريات، لكل منها حرفتها الخاصة.
حَمام الحَضْرة صورة ناصعة عن النجف، فهو يتقن فن العيش مع الآخر، ومسايرة الغريب قبل القريب، وقيم التعارف الجميل ومشاركة حُبيبات الأرز والحنطة التي تقدمها أيدي الناذرين لشفاعة أو أمنية
شاب حنطي نحيف يرتب أكداس الكتب أمام محله، يمسح الغبار والعرق عن وجهه، ثم يبدأ بعرض الكتب: الكافي، بحار الأنوار، رأس المال، وعاظ السلاطين، القابنجي، شبستري، شريعتي، عزازيل، وروايات مترجمة لهمينغواي وماركيز وديكنز وتولستوي وهوجو وغيرهم.. إلى جانبها، صورة مؤطرة للزعيم الشهيد عبد الكريم قاسم وأخرى لمنتظَر الحلفي مبتسما، الشاب البصراوي الذي قضى شهيدا خلال التظاهرات وأصبح أيقونة للشباب العراقي الثائر.
لتدخل دكان العبايجي (صانع العباءة)، لا بد أن تخلع نعليك وكأنك في الوادي المقدس "طوى". يستقبلك كهل ممتلئ الجسم، كث الشوارب، فج التفاصيل، كثيف الهيبة، يقلب حجارة سبحته بيد، وباليد الأخرى يثبت "العكال" فوق الشماغ. وبغمزة من طرف عينه، يفهم مستخدَمه أن عليه جلب استكانة الشاي للضيف. على الرغم من اعتياد العبايجي على توافد الغرباء إلى المدينة، إلّا أنه يولي كل من يطأ مجلسه اهتماماً خاصاً، فالزائر عنده ليس عابراً إنما من أهل البيت. ويعتبر كل زيارة فرصة جديدة للتفاخر بنسبه الهاشمي وعشيرته "التي كانت وما زالت تلعب دورا سياسياً مهماً في العراق". وحين يفرغ من الحكي عن أمجاده، ينبه ضيفه إلى أن "العشيرة لا ترضى إلا بإكرام الخُطّار (الضيوف) كما يجب"، فلا يترك له الخيار في الوداع ولا في إكمال الجولة، ولا في انتقاء الطعام الذي يريد، ويجبره على تلبية دعوته لتناول "جدر التمن والتشريب" (أرز ومرق) الذي يحبذ أكله باليدين، لأنّ "الخاشوكة" (الملّعقة) تنقص من قيمة مذاقه.
في أحد أركان سوق "الحويش" يجلس الإسكافي الحجي مصطفى على كرسيّه المدولب، السوق المفتوحة وغياب سياسة حماية المنتج الوطني، أضفيا على صنعته معاني أعمق من كونها مجرد مهنة ورثها عن أجداده. يشعل الحجي سيجارته، ويدس قلم الرصاص خلف أذنه، ينحني، صوب الزبون، يفحص قدميه بدقة، يقارنهما بقوالب الخشب المصفوفة فوق الرفوف، يتمتم بكلمات غير مسموعة، يدون أرقاما على قصاصة الورق، ثم يفرش أصناف الجلد، يستعرض الموديلات التي يتقن صنعها ويعرضها على الزبون.
الحجي مصطفى يختصر المشهد السياسي العراقي وجدلية الأمن والحرية بقوله: "عاشت بلادنا سني خير وحظوة. صحيح أنها كانت لقاء أثمان مكلفة، لكننا كنا نحس بقدر قليل من الكرامة الإنسانية. كنا ممنوعين من الكلام، مهددين بشكل دائم، ومراقَبين في كل تفاصيل حياتنا، أما اليوم، فالمنابر تعج بأفواج الخطباء دون خوف من تهديد أو مراقبة، لكننا بتنا محرومين من أدنى مقومات الحياة الكريمة".
تعج المدينة بطلبة العلم (المعمَّمين)، المحافظين والتقدميين، ومعتنقي الأفكار العلمانية والإلحادية والشيوعية..
لا تشبه النجف، أي مدينة عراقية أخرى، ولا تشبه أي مدينة دينية أخرى، لا في عمارتها الحجرية ولا البشرية. لا في جغرافيتها ولا في تاريخها. النجف كما كل نجفي، قابلة للقسمة على اثنين، اثنين نقيضين.
هي "مدينة العلم وعليٌ بابها"، تعج بطلبة العلم (المعمَّمين) المحافظين والتقدميين ومعتنقي الأفكار العلمانية والإلحادية والشيوعية، وفيها مراجع دينية ويسارية وعلمانية، ومن شبابيكها تتسلل روائح الخمور واللهو، وتنتشر فيها الحسينيات واللطميات بالقدر ذاته الذي تنتشر فيه مجالس الموسيقى والغناء وحلقات الشعر والأدب والحانات المتنقلة والمستترة.
زرتُ النجف بعدما كنت قد أتخمت بالحكايا المتناقضة عن ناسها وتاريخها، وعشتُ كل تفاصيلها في ابتسامة وادعة، كانت تنير وجه جدي (السيد هاني فحص)، حين كان يحدثني عن شوقه الدائم للعودة إليها. زرتها متتبعاً أثره ما بين الحضرة والحوزة العلمية وبيوت المراجع والحلقات الأدبية وحي أبو خالد، وفي مذاق "القيمة" و"الفسنجون" اللتين تعدهما جدتي، وفي ذكريات أمي (التي ولدتْ هناك) وإخوتها، صبية حفاة يلعبون مع أترابهم في صحن الحضرة، ويَعدون الجنازات التي تطوف حول المقام قبل مواراتها في مقبرة وادي السلام.
للنجف مداخل كثيرة، ودروب مهما تفرعت وتشعبت تقود إلى قلبها وجوهرها وعلّة وجودها وبقائها، مرقد سيد الكلام والبلاغة. وحول مرقده، ترتفع البيوت والمدارس ودور العلم والمكتبات ومنازل الضيافة، وتتزاحم الأسواق، وتستوي الطرقات بكل الاتجاهات، وتتكاثر النواحي والأحياء، وتنمو المدينة وتتسع، تحتضن المقيمين وتفتح ذراعيها للوافدين.