"إملاءات صندوق النقد التي تؤدي إلى مزيد من التفقير غير مقبولة"، هكذا صرّح الرئيس قيس سعيد أمام ملأ من الصحفيين والصحفيـات يوم الخميس 6 أفريل أثناء زيارته إلى المنستير بمناسبة إحياء الذكرى الـ23 لوفاة الرئيس الأسبق الحبيب بورقيبة.
وسارع الرئيس إلى إضافة أن "البديل هو الاعتماد على أنفسنا" واضعا بذلك شهورا طويلة من المفاوضات بين الصندوق وتونس بين قوسين بالرغم مما تواجهه البلاد حاليا من أزمة اقتصادية ومالية عميقة، وعجز مزمن في الميزانية والتجارة، ناهيك عن التدهور المتواصل في قيمة عملتها.
تواترت التصريحات على مدى عدة أشهر من طرف الاتحاد الأوروبي والولايات المتحدة وغيرها من الجهات التي لها يد في هذه المفاوضات، من أجل الضغط على تونس وإقناع الرئيس قيس سعيد بأن قرضا من الصندوق سيسمح لبلاده بالخروج من المأزق. من جهته يرى جوزيب بوريل، رئيس الدبلوماسية الأوروبية، أن تونس "تواجه خطر الانهيار" وهي تصريحات وصفها وزير الخارجية التونسي بأنها "غير متناسبة".
لكن وراء رغبة الاتحاد الأوروبي في التوصل إلى اتفاق يكمن خوف أكبر يتمثل في تفاقم "أزمة الهجرة" إذا ظلت البلاد غير مستقرة اقتصاديا. ولذا تواصل إيطاليا جورجيا ميلوني بالأخص الضغط على الصندوق بشراسة من أجل التوصل إلى اتفاق.
مفاوضات حاسمة على خلفية من التوترات
تعود صعوبة الوضع الذي بلغته المفاوضات في تونس إلى التدابير التي أوصى بها صندوق النقد الدولي، ومن بينها الخفض التدريجي لمنظومة الدعم التي تؤطّر أسعار السلع الأساسية، وهو أمر لم يستسغه قيس سعيد مستذكراً "أحداث الخبز" التي اندلعت في شهر جانفي 1984، حينما رفعت السلطات التونسية الدعم عن منتجات الحبوب، مما أدى إلى زيادة حادة في أسعار الخبز والسميد والمعكرونة.
إلى جانب ذلك، فإن خصخصة بعض الشركات العمومية - وهو إجراء يدعو إلى وضعه الصندوق - قد تتسبب في اندلاع توترات اجتماعية تظهر أعراضها في ردود الفعل الحادّة التي بدرت عن النقابات صلب هذه الشركات، في أعقاب تصريح مديرة صندوق النقد الدولي حول إمكانية إجراء نقاشات بشأن الخصخصة.
ومن جهته، يعتبر الاتحاد العام التونسي للشغل - وهو المركزية العمالية الرئيسة في البلاد - أن خصخصة الشركات المملوكة للدولة خط أحمر لا ينبغي تخطّيه، لكنه خفف مؤخرا من شدة موقفه ليقترح نهج إعادة هيكلة يقيّم كل حالة على حدة.
على سبيل الذكر، وافق الاتحاد العام التونسي للشغل قبل عدة سنوات على تسريح ألف موظف·ـة من الخطوط التونسية، من أصل إجمالي 6500 موظف·ـة. علما وأن خطة إعادة الهيكلة التي تقترحها الإدارة الحالية للناقلة الوطنية التونسية يتماشى مع برنامج الإصلاحات المقدم من طرف الحكومة إلى صندوق النقد. وتشمل هذه الخطة بيع الأصول غير الأساسية التي بحوزة الشركة، على غرار الطائرات القديمة والعقارات المملوكة لها فضلا عن إرساء شراكة استراتيجية.
وبالرغم من أن جميع هذه التدابير التي يدعمها الصندوق قد تم إقرارها في قانون الميزانية لسنة 2023، إلا أنها لم تبلغ بعدُ مرحلة التنفيذ. حيث يرفض الرئيس سعيد تطبيقها حفاظا على السلم الاجتماعي الذي يرى أنه "ليس لعبة ولا يمكن الاستهانة به".
يشرح أمين بوزيان، الباحث في العدالة الاجتماعية والجبائية لإنكفاضة أن سعيد ربما لم يشطّب نهائيا على صندوق النقد الدولي، إذ "ليس من المؤكد أن الرئيس يرفض بشكل قاطع أي اتفاق مع صندوق النقد الدولي ومن المحتمل أنه بصدد محاولة تحسين شروط الاتفاقية. عندما تكون قائدا في مرحلة كهذه، يجب أن تحاول على أقل تقدير الحد من الضرر من خلال التفاوض".
تونس وصندوق النقد الدولي، تاريخ من "الإصلاحات"
هذه الإصلاحات، أو الإملاءات على قول الرئيس قيس سعيد، تبرر خطابه وتعليقه للمفاوضات. ذلك أنها ليست المرة الأولى في تاريخ تونس التي ترفض فيها البلاد الرضوخ للعبة الإصلاحات بالتزامن مع تقديمها طلباً للحصول على قرض من الصندوق.
لم تلجأ تونس لمدة 20 عاما من سنة 1993 إلى 2013، إلى صندوق النقد الدولي.لكن في سنة 2013 وبعد تدهور الأوضاع الاقتصادية في البلاد، طلبت قرضا أرفقته باقتراح لبرنامج إصلاح. يقول الخبير الاقتصادي عز الدين سعيدان في مقابلة مع إنكفاضة أنه "على عكس ما يقال، لا توجد إملاءات، فكل دولة يجب أن تتقدم بنفسها ببرنامج إصلاح. بينما يكون هدف الصندوق التأكد من قدرتها على حلحلة أزمتها".
وعلى الرغم من وعودها، لم تنفذ تونس الخطة المقترحة، ثم عادت بعد ثلاث سنوات لتعيد الكرّة وتَعِدَ بتطبيق الإصلاحات غير أنها لم تفِ بالتزامها مرة أخرى، مما جعل الصندوق يفرض عقوبات ويلغي قسطا قدره 1.2 مليار دولار.
وبذلك فإن هذا التاريخ - ضف عليه تصريحات الرئيس سعيّد الأخيرة - قد "شوه منذ البداية مصداقية تونس أمام صندوق النقد الدولي" مثلما يعلق عز الدين سعيدان. حيث كانت ردة الفعل الأولية للصندوق أن تساءل على الفور عما إذا كانت تونس ستنفذ الإصلاحات الضرورية هذه المرة. واليوم، أكد الرئيس شكوك الصندوق بشأن قدرة تونس على احترام الإصلاحات".
من ناحية أخرى، يسلط موقف قيس سعيد الضوء على التباينات بين الرئاسة والحكومة. يقول عز الدين سعيدان أن "خطة الإصلاح التي لا يقبلها قيس سعيد هي خطة تونسية 100٪ اقترحتها الحكومة التونسية بنفسها".
ويضيف أن انعدام الثقة هذا كان سيؤدي إلى رفض الملف التونسي من قبل صندوق النقد، "وكانت الخلافات بين الرئيس وحكومته السبب وراء رفضه ملف تونس في 17 ديسمبر". فنشبت منذ ذلك الحين مواجهة متوترة بين الصندوق وتونس تزايدت حدّتها بعد خطاب قيس سعيد في 6 أفريل الماضي، والذي يبدو أنه أدى إلى توقف المفاوضات وألقى بظلاله على إمكانية استمرار المحادثات.
باتصالنا به، رفض ممثل صندوق النقد الدولي بتونس مارك جيرارد الحديث حول هذا الموضوع أو مدنا بإجابة.
بقية التقرير على موقع "انكفاضة".