تجوّل غسان كنفاني في الأزقّة، وتفرّج على الجدران المرسومة بالفحم. خفق قلبه وعرف أنّ هنا، في أحد هذه البيوت الفقيرة، توجد يد صغيرة لها قلب كبير وعين تنعكس فيها صور الحياة.
قرع الباب المصبوغ بالنيلي الذي يقطن وراءه طفل له فم لا يعرف إلا الطعم المر، وأخذ اللوحة ونشرها في جريدة "الحريّة".
حمل ناجي العلي معه إلى المنفى ذاكرة الطفل الذي احتضنه الوطن ولم يكبر أكثر. عشر سنوات بقي عمره حتى قتلوه. قتلوا طفلاً.. ترك لنا ظلّه الحنظلة، يتجوّل على نحور نسائنا وفي أحلام رجالنا.
هو طفلٌ لم يقمْ سوى باحتضان الوطن وهدهدة الأرض بين ذراعيه، والقسوة على من يخرج من الحضن.. مثل بائع متجوّل، يحاول المساومة على جزء من همّه.
قاتِله.. كان العدو الذي بإمكانه احتضانه مثلما يحتضن الصديق.. تماماً هكذا. هذه هي طبيعة الفنان الذي لا يعيش إلا من أجل فنه.
أبداً لم يجرؤ ناجي على قتل عدوّه وإسالة دمه على رصيف، كيف لطفل مثله أن يفعل؟ وهو الذي جعل الحمامة التي رسمها لغسان تذرف الدمع!
ناجي هو عين الحمامة الباكية، لا يقتل العدو.. ولهذا قتله العدو، لأنه لا يرفع في وجه عدوّه إلا ريشة، يُصِرُّ عليها بين أصابعه التي لبست شوك طفله حنظلة.
أوحى ناجي لحنظلة أن يقدّم زهرة لبنت ويقول لها "صباح الخير يا بيروت"، بعد أن تجوّل في المدينة التي شاخت من حريقٍ التهم الجميل فيها. زهرة يحملها في شوارعها التي حولها العدوّ إلى دخان.. يحملها ويقدمها للمدينة.
في ذلك اليوم الذي اخترقت فيه الرصاصة أرواح الجميع.. في اللحظة ذاتها، خرج الطفل من صورته وقال:"فشروا"، ثم قرّر البقاء بشوكه وطعمه المر. ومن لم يلتقِ بالطفل هذا، فهو أبدا لا يتذكر للوطن أي معنى أو حضن.
لم أكن أعرف عن ناجي كل هذه الأشياء، قبل أن ألتقيه في مدخل مكتب جريدة "القبَس" في لندن. همس بأذني محمد داهود، صديقي وزميلي، وهو يحرك عينيه لينبّهني إلى رجل مقرفص، حافي القدمين: "ناجي العلي هون".
عندما عرف بأننا من داخل الـ 48، ارتمى في أحضاننا وقال لمحمد:"إيّاك أن تهجر فلسطين، ابقَ هناك، حتى لو لم تملك ثمن الأكل، عدْ إلى دبورية يا دبوري". ثم نادى على المحرر المسؤول وقال له: "بدّك تشتري منهم المقالات، هذول الشباب مشوارهم بعيد.. جايين من فلسطين، وبعدين لأنها بتدخّن كمان"..
سألت ناجي: "كم هو حبك لبلدك، الشجرة؟". فقال لي:"بحجم حبي لأمّي". وطار فرحاً عندما وعدته بتصوير "الشجرة". محمد هو الذي أخذ له الصورة التي التقطتها لقريته الأم، سأله ناجي عني: "وينها الطمراوية؟ بدي أعمل معها مشروع، بس ربحي أكثر"، إشارة منه لمشروعي الذي لا يطمح لأكثر من بيع تحقيقات مصورة، تنقل أحوال فلسطين.
كان من المفروض أن ألتقيه في أواخر تموز/ يوليو، لكن الرصاصة اختطفت ريشته التي خطت على الرسم الأخير "فشروا". وعلى رسم آخر بقي ملفوفاً حول نفسه، رسم سهماً يخترق كعب أخيل.
أهديتك يا ناجي صورة لحضنك الشجرة وأنت أهديتني وأولادي حنظلة الذي حمل الزهرة في مدينة مدمّرة، وقال لها صباح الخير. مدن كثيرة تسير على الأشواك التي غرزتها بريشتك في خاصرتها، تتوق إلى زهرة. سأقول لكل مدينة لهن باسمك، صباح الخير.. كل يوم، وسأقدم لهن زهرة... زهرة الحب التي لم يعدْ يذكرها أحد.
سأستدعي طفولتي وأمنعها من بلوغ الرشد وأغذّيها باللهو وأسلّيها بدمية وأنا آكل التفاح وأهز كتفي وأقول "فشروا".