خلال السنوات الأخيرة، تكوّنت قناعة بأنه بعد كل ما يُنشر حول الاقتصاد الفلسطيني، والعديد من المؤتمرات والندوات التي تُعقد بشأنه، فإننا (كجماعة باحثين ومؤلفين مختصين بالموضوع)، أصبحنا نكرّر أنفسنا ونخاطب بعضنا البعض، ولم نعد نؤثر لا بالقرار ولا بالفكر الاقتصادي الفلسطيني. هذه الحالة من تهميش رأي الباحث الفلسطيني المختصّ، تُعزَى للعديد من العوامل الذاتية والخارجية، من أهمّها أنه منذ أكثر من 25 عاماً، استندت دراساتنا إلى افتراض إمكانية التوصّل إلى حلّ سلمي تفاوضي للقضية الفلسطينية، ومعه للإشكالية التنموية الفلسطينية. لكن التحرير ما زال هدفاً بعيد المنال، بينما الهيمنة الاقتصادية الاحتلالية صارت أقوى اليوم من أية فترة مضت، والاستيطان الاستعماري يتجذّر بالأرض أكثر كل يوم.
كيف نبحث؟
إضافة إلى ذلك، فالأجندات السياسية والنظريات الاقتصادية التي تحرّك تدخلات الدول المانحة والمؤسسات المالية الدولية في الشؤون الاقتصادية الفلسطينية تؤثر بدورها على الإنتاج العلمي والبرامج الفنية المتّصلة، التي تصدر عن مؤسسات السلطة الفلسطينية وعن العديد من مؤسسات المجتمع المدني. ولا يمكن إغفال دور الفكر الاقتصادي الفلسطيني، أو العقيدة السائدة لدى العلماء والنخب، الذي لعب دوراً في تبرير وتمرير كل من "مدرسة دراسات السلام الاقتصادي" والأنماط الجاهزة للسياسات الاقتصادية "المناسِبة" لفلسطين، بحسب رأي المفاوض الإسرائيلي في باريس، والمانح الإصلاحي في بروكسل، وخبير البنك أو الصندوق الدولي القادم من واشنطن.
نجد في السياق الجامعي الفلسطيني، المستقل نسبياً، محاولات للتحرّر من الأجندات والعقائد المستوردة وبلورة رؤية "لاقتصاد مقاوم". لكن تداول غالبية هذه الأبحاث والمؤتمرات يتم داخل دائرة ثابتة ومتكرّرة من خبراء متشابهي التفكير، بأهداف علمية أكاديمية أساساً، مما يعيد إنتاج الأفكار نفسها، بدلاً من إنتاج أفكار جديدة.. لهذه الأسباب، قطعت على نفسي في عام 2015 ألا أشارك في مؤتمرات عن الاقتصاد الفلسطيني وألا أقوم بإعداد أبحاث جديدة عن الموضوع، حيث فرَغت جعبتي من الأفكار والملاحظات الأصيلة ووجدت نفسي أكرر ما أعرفه وما لديّ أن أقوله.
عندما بادر معهد أبحاث السياسات الاقتصادية الفلسطينية - ماس - في أوائل هذا العام لتنظيم مؤتمره، تحت شعار "نحو رؤية جديدة للنهوض بالاقتصاد الفلسطيني"، تفهّمت بعض التحفظات التي أبداها صحافيون ورسميون وخبراء حول "جدوى" مؤتمر آخر إضافي. وعلاوة على حالة "إرهاق المؤتمرات" التي تصيب الجميع بسبب كثرتها، وتكرار موضوعاتها، والاكتفاء بعقد مؤتمر دون الاكتراث لمتابعة استنتاجاته، فإنّ السؤال (المحقّ) الذي طرحه غالبية المستفسرين والمشككين منذ البداية كان: كيف سيغيّر هذا المؤتمر أموراً تبدو مستعصية على الحل، رغم العشرات من المؤتمرات السابقة؟ ومَن سيتحمل مهمّة تطبيق توصياته؟ هل سيأتي هذا المؤتمر بجديد؟
حلول عملية وعقبات قابلة للتذليل
مع اقتراب موعد عقد مؤتمر "ماس" الاقتصادي في 31 آب / أغسطس 2016 في رام الله، وإتمام ما خُطِّط له من التحضيرات العلمية والفنية والسياسية، فإن الإجابة على هذه التساؤلات أصبحت لازمة. وكان من أهم الأهداف التي أعلن عنها مدير عام ماس منذ إطلاق فعالياته التحضيرية، أن هذا المؤتمر يسعى لطرح حلول عملية لمشكلات تقف عائقاً أمام النمو الاقتصادي والصمود المجتمعي، قد تكون مزمنة أو قديمة ومرتبطة بقيود يفرضها الاحتلال أو بقصور في الأداء الفلسطيني، لكنها قابلة للتذليل إذا تحددت السياسات المناسبة، والإجراءات الواقعية، والجهات المسؤولة والشريكة في المعالجة، والفترة الزمنية المعقولة لتوقّع نتائج من تطبيقها. بمعنى آخر، حتى لو استعرض المؤتمر المسائل نفسها التي نوقشت مراراً وتكراراً، فإن سرّ النجاح في وضع رؤية جديدة لا يكمن بعناصر تلك الرؤية، على أهميتها، بقدر ما يتعلق بإمكانية خلق الأجواء لاعتمادها وطنياً ومرافقتها لتحقيق النهوض المنشود فعلاً.
لهذا السبب قبل كل شيء، فهذا المؤتمر (الذي يتحوّل خلال هذه الأيام الأخيرة التحضيرية إلى ما يشبه "الحدث")، يبشّر بأن يكون "غير شكل" (مختلفاً)، يستحقّ ليس المشاركة الجدية والاهتمام الإعلامي الدقيق فحسب، بل يعبّر عن منعطف في مسار المؤتمرات الاقتصادية الفلسطينية. يمكن إيجاز ذلك بالنظر إلى آليات التحضير له، ومستوى المشاركة الرسمية والخاصة والأهلية والمناطقية، والمضمون الاقتصادي والاجتماعي الذي يتصدّى له، ناهيك عن توصياته المتوقعة وواقعيتها من ناحية إمكانية تنفيذها طالما توفرت النيات وتكاتفت الجهود.
أولاً، من حيث التحضيرات، فإن الجهة المبادِرة هي مؤسسة علمية وطنية مستقلة لها تاريخ عقدين من البحث في المسائل الاقتصادية، وبالتالي فهي الأكثر تأهيلاً للتحضير العلمي الصحيح لهذا الجهد. هذا ما تمّ فعلاً خلال إعداد المعهد لأربع أوراق بحثية تحضيرية تتناول التحديات الاقتصادية الكلية، والتشوّهات في هيكل الاقتصاد، وضعف القدرة الإنتاجية المحلية، والهيمنة الإسرائيلية التجارية. وتعالج أخرى المشاكل الاجتماعية الملحة من بطالة وفقر ولامساواة، بالإضافة لتحليل معمّق لأوجه الضعف في بيئة الأعمال والتجارة. ثمّ تستعرض ورقة رابعة متطلبات إحياء القطاعات الإنتاجية المحلية والبنية التحتية المتهالكة.
كما تمّت دراسة هذه المسائل في أربع ندوات حوارية حضرها 75 خبيراً حكومياً وخاصاً وأكاديمياً، وعُرضت التوصيات الناتجة عن هذه المشاورات على 50 خبيراً في مجموعات بؤرية لفحص دقة التوجهات المقترحة وقابليتها للتنفيذ، وستتمّ إعادة نقاشها وتدقيقها في المؤتمر العام القادم. هكذا لا يعود المؤتمر ومضامينه خاصاً بمعهد "ماس"، بقدر ما يعكس توافقاً واسعاً يستند إلى البحث والحوار الصريح حول ما يجب أن تتضمنه الرؤية الاقتصادية الفلسطينية في المرحلة المقبلة.
الراعون
من ناحية ثانية، فإنّ رعاية رئيس الوزراء الفلسطيني للمؤتمر منذ انطلاق التحضير للمؤتمر حتى صباح افتتاحه له بكلمته، تؤكد الجدية التي تتعامل بها السلطة الفلسطينية مع هذه المبادرة. كما أن الرعاية المالية لاحتياجات عقد المؤتمر من قبل 10 شركات فلسطينية هامة، إضافة إلى المشاركة الفعالة في الحوارات التحضيرية وفي المؤتمر نفسه من قبل جميع فئات القطاع الخاص الفلسطيني والعديد من علماء الاقتصاد الفلسطينيين، وحضور 50 مشاركاً من قطاع غزة المحاصر (بواسطة ربط الفيديو) بين الـ 200 مشارك المتوقع حضورهم، ثم الاستغناء عن دعم مالي أو مشاركة غير فلسطينية في التحضير التي تزيد من أصالة هذا الجهد وتجعله مؤتمراً "وطنياً" بامتياز.
ربما، ما يشجّعني هو أن مضمون المؤتمر يعكس إدراكاً واسعاً لحجم الأزمات الاجتماعية التي تهدد نسيج الصمود الوطني وإخفاق الاقتصاد الوطني عن تحقيق نمو متواصل، وحمايته لبنيته وقدراته الإنتاجية، وعدم فكّ ارتهانه لاقتصاد القوة القائمة بالاحتلال، وتوسّع الفجوات بين المناطق (خاصة غزة والقدس ومناطق "ج" في الضفة) وانتهاك إسرائيل لجميع الاتفاقات الاقتصادية الثنائية والمعاهد الاقتصادية والتجارية الدولية. وهذه أسباب وجيهة تستدعي وقفة صريحة مع الذات ورؤية موحّدة أمام مخاطر مواصلة الاحتلال والاستيطان خلال الفترة المقبلة. أي أن آمال فرض الدولة الفلسطينية بالحكم الجيد والبناء المؤسسي تبدّدت، وبات هناك إقرار بأن ما تمّت تجربته من سياسات وتوجّهات في الماضي لم تفلح، وحان الوقت لتفكير اقتصادي مغاير يضع الصمود الاجتماعي من خلال البناء الاقتصادي في الخندق الأمامي لمقاومة الاحتلال، بما يتوفّر من وسائل يمكن التوافق عليها وطنياً وحسب أولويات "الأهمّ، ثم المهم".
أخيراً فإن تركيز جدول أعمال المؤتمر على مناقشة واعتماد أطر متكاملة من العشرات من الأهداف والسياسات والإجراءات والجهات المنفذة لا يترك مجالاً حيوياً إلا ويتم التطرق له، كما لا يوفر لأية جهة - رسمية أو خاصة - المجال للتهرب من استحقاقات تحمّل مسؤولياتها المالية أو القانونية أو الإدارية أو الأخلاقية.. في إدارة أمور هذه المرحلة الصعبة للغاية في هذا "النفق المظلم" الذي ما زلنا نقبع فيه.
وهذه هي البشرى السارة من فلسطين!