تفتعل الحياة، بمعناها الطقسي، غياباً حسّيّاً عن معظم أجزاء سوريا حيث جبهاتُ قتالٍ لا تنقطع عن الطحن تدور في مكانها ولا تهدأ. هناك يجازف الموت بالتمدد اليوميّ، ويصير الصراع مُنجزاً واقعيّاً قائماً بمفرده، بعجز الناس عن نفيه. آخرون يعيشون حيث يسيطر النظام القائم، في العاصمة وداخل مدن الساحل وفي الجنوب، ويتوقّعون أن تجاملهم الحياة أكثر من سواهم، فيتخففون أحياناً من غلِّ الموت ومن عناده. لكن حياتهم تلك تتعلّقُ بأنماطٍ استهلاكية تبدو دخيلةً على هذيانات الحرب القائمة. يتوسّع منطق الاستهلاك هناك فيصير الحياة برّمتها. مناطق عديدة تقع خارج هواجس الحرب ومزاجها المتكدّر، صارت منقادةً إلى صنوفٍ استهلاكية من أنماط العيش، يقلّدون فيها ما هو سائدٌ من "موضات" في دولٍ أخرى، فيبدون وكأنهم أقل شبهاً بظرفهم الموضوعيّ.
ديباجات من حداثة الشكل والمظهر
تزحف موضة سراويل الجينز الممزّقة إلى داخل "المناطق الآمنة"، لا يسمع الناس هناك اقتصاص صوت المدفعية من حواسهم، ولا يُغير الطيران الحربيّ على مناماتهم، ولم يستيقظ الجوع على أفواههم بعد، ولم تتخثّر محتويات صناديق الإغاثة الدولية في أمعائهم. تستهتر تلك "الموضة" بمجرى الحرب كاملاً، ولا أحد يسأل عن جدوى تبذير القطع الأجنبي على استيرادها، أو عن أسباب تصنيعها محلّياً في معامل مرهقة بكلفِ إنتاجٍ مرتفعة، وماذا يجني الشباب من ارتدائها إذاً..
في شهر أيار / مايو من العام الماضي، احتدم جدلٌ قاسٍ بين غرفتي صناعة وتجارة دمشق حول منع استيراد الألبسة الجاهزة، أو تقنين استيرادها على الأقل، حمايةً للمعامل المحليّة. حينها كشفت غرفة صناعة دمشق أن 70 في المئة من الملابس التي تصطفّ على واجهات المحلّات السوريّة مصدرها تركيا والصين، ما يعني أن نصيب سلعة كمالية كالملابس الجاهزة يبدو سخيّاً، والبلاد تكابد ما تكابده منذ سنوات.
أيضاً يحتمي الكثيرون بأشكالٍ تراعي حرفيّة مستجدّات "الموضة" العالمية، تسريحاتُ شعرٍ حديثة تسيطر على كامل مساحة الرأس، ولِحَىً طويلة تشذّبها صالونات الحلاقة بالهواء الحار وبالمثبتات القويّة فتلتصق بالوجه طويلاً. يصيرون أكثر شبهاً بلاعبي كرة قدم عالميين، أو بممثلين أجانب ذائعي الصّيت. يلاحقون مستجدات تسريحات الشعر على الانترنت، ولا يلاحقون المصير السياسي المتأرجح لبلادهم، كما لو أنهم في دنيا، والحرب في دنيا أخرى. بماذا يفكّرون وهم يطلبون شفاعة هذا النمط الاستهلاكي أو سواه؟ هل هم يتحايلون على الخواء الذي يستهدفهم، أم تُراهم يدارون قتامة ظرفهم الموضوعي بالتحايل عليه؟
ليس عسيراً إذاً أن يترتّب الاستهلاك مباشرةً داخل منظومة الوعي الفرديّ، فيصير مثل خصالٍ تشير إلى أوصاف صاحبها، ثم تدّعي بيأسٍ على الواقع القائم. والسلطة تستسيغ تثبيت الاستهلاك كقيمة مطلقة داخل المناطق التي تسيطر عليها، تريد معه تثبيت مصطلح "الأزمة"، وكأن الصراع الدائر في سوريا هو مجرّد "أزمة" طارئة قد تزول في أيّة لحظة. وهذا يشبه ترخيصاً مفتوح الصلاحيّة، يستبدل حاجات الناس الأساسية برفوفٍ منضّدة بعضها فوق بعض من المقتنيات الاستهلاكية المراوِغة لحقيقة مصير البلاد العالق بين فكوك المصالح الدولية المتزاحمة حوله.
بهذا تصير كلفة مراوغة الواقع ممكنة، ليس لأن استهلاك الموضة كسلعة فيه تأكيد إضافي على حضور الذات الفرديّة داخل الذات الجمعيّة، بل لأن هذا الحضور يُعفي فكرة الحرب القائمة من بعض مهامها في إدارة الوعي المجتمعيّ بالصورة المثلى.
حُقنة تكنولوجيّة مرّة كل يوم
يصطفي الناس من بين استهلاك السلع التكنولوجيّة تلك التي تخصّ خدمات الاتصال بصورةٍ رئيسيّة. ينغمسون في ساعات ما بعد الظهر بتطبيقات مثل "الواتس أب" و "الفايبر" و "الفيس بوك"، يصير الحديث بواسطتها قيمةً استهلاكيّة لا ينفع تركها. اعتاد الناس خارج أحمَال المعارك أن يبثّوا مشاعرهم عبر الأثير اللامرئيّ، يخاطبون بعضهم برسائل طويلة، ويتحدثون مطوّلاً مع ذويهم في الخارج. يبقون ملتصقين بشاشات جوّالاتهم المضيئة أغلب الوقت، فتضمر الحرب من حولهم، يردّدون في سرّهم: "هي أزمة وتنتهي". لكنّ الحرب العالقة خارج حدود انتباههم تتوسع، تمسُّ يقينهم الواهي وتكمل طريقها إلى حيث مخطّطٌ لها أن تمضي. ثم يمتعض الناس داخل مناطق السلطة من انقطاع مفاجئ لخدمات الإنترنت (يحدثُ هذا من حينٍ إلى آخر)، يشعرون فوراً بفقدانٍ قاسٍ لنمطٍ استهلاكي باتوا من مكوّناته الأساسيّة. لكنهم سرعان ما يستردّون عافيتهم بمجرّد عودة الخدمة. نراهم يندمجون بين الكلمات التي يحشونها في رسائلهم الفضفاضة، أو التي تتسرّب إلى أصواتهم الحذرة خلال محادثاتهم مع البعيدين. والسلطة طاوعت ذلك السلوك، فاجتهدت خلال العامين الماضيين على توسيع نطاق خدمات الانترنت، وزيادة تعداد المشتركين به، إذ أعلن مدير التسويق في الشركة السورية للاتصالات خلال شهر آذار/ مارس من العام الماضي أن الشركة زادت الحزمة الدولية لشبكة الإنترنت بنسبة 20 في المئة، وصرّح حينها عن نيّة الشركة تركيب 200 ألف بوابة ADSL جديدة، وقدّر العدد الإجمالي لمشتركي الإنترنت في سوريا بنحو 525 ألف مشترك.
حتى أن اللعبة العالمية ذائعة الصيت "البحث عن بوكيمون" صارت من بين مقتنيات معظم الأجهزة الخلوية. يزحف المنبهرون بها كل مساء، يبحثون عن "بوكيمون" جديد تلتقطه كاميرا جوّالهم الحديث، ينتشرون في الحدائق العامة، وفي الشوارع الفرعيّة اللصيقة بها، وأحياناً يسيرون بين السيارات المصّطفة بمحاذاة الأرصفة، يلاحقون كائناتٍ غير مرئية، لا أحد يراها سواهم. ينفصلون عن الواقع بهذا المقدار، وهم يتلهّون عن حربٍ متسمّرة في مكانها منذ أعوام، تجاورهم ولا تعنيهم بشيء. تتقوّس متمددةً، ولا تصلهم نيرانها.
الرحيل، ذاك النمط الاستهلاكي الهجين
يترك السوريون أنقاض منازلهم وروائح موتاهم العالقة في أوكسجين الهواء القريب منهم، ويرحلون على غير هدى. تفيض الجهات أمامهم وتتلوّى، فيختارون أقلّها كلفة وأقصرها، لكنهم يصلون منهكين إلى دول اللجوء في الاتحاد الأوروبي، فيبدون محقّين في خيارهم ذاك، إذ لم يعدْ لديهم ما يستحقّ البكاء في بلادهم.
غير أن دروب الهجرة تلك صارت سلوكاً استهلاكياً، ونمط تفكيرٍ شائع في المناطق الآمنة، حيث لا يزال يسيطر النظام السوري. الكثيرون تعلّقوا بذيول الفكرة، صاروا متحمّسين لبدء حياةٍ جديدة، في بلادٍ جديدة. ربما هم بدورهم كانوا عائمين مثل سيقان "بامبو" بلا جذور، لا يريدون بذلَ شيء لتغير مكائد مخططات الواقع. سلّموا به كحتميّة لا تتزحزح ورحلوا، وكانوا يفكرون بالهجرة أكثر من تفكيرهم بعشيقاتهم أو حتى بأبنائهم أو بذويهم المرضى. فتلك فرصة قد لا تتكرر، إذ يريدون من ورائها اشتقاق أوطانٍ في البعيد، وتركَ بلادهم بلا جدران أو أسقف، كجغرافيا سائبة ومستباحة تمضغها المصالح الدولية المتشابكة حولها بلا توقف.
لماذا لا يشعرون بأن هذه الحرب تستهدفهم ككيانٍ جمعيّ، ولماذا يسارعون إلى رزم أمتعتهم القليلة، ويبادرون إلى طرد أنفسهم بقبلاتٍ فاترة يطرّزونها فوق جباهِ الأمهات المسنّات؟ لعلّهم استخلصوا من بين أسنان الحرب وكلّاباتها الحادة بعضاً من سيرِ الخلاص الفرديّة، فصاروا يقلّدونها. وتلك تشبهُ علبة لحمٍ معلّب قد تنتهي صلاحيتها في أيّ وقت. صار الرحيل إذاً ثقافة استهلاكية تطلَّ من بين الأفكار المتخاصِمة حول تفسير الواقع، وطبيعة "المؤامرة".
من بقي بلا جذر داخل "سوريا الآمنة"، اجتذبته خمورٌ رخيصة تصنّعها معامل مرتجلة داخل ريف دمشق، أو في الجزء الموالي من حمص، ثم تُباع بأسعارٍ متدنية، وكأنها مسكّناتٌ طبيّة تبيعها الصيدليّات المناوبة لعموم الناس.
مؤخراً تدخَّل "الحشيش" في حياة الناس على نطاقٍ واسع، وكأنه ضمادٌ آمن لإيقاف الأفكار النازفة، يدخّنه المدّعوون إلى أعراسٍ صاخبة يستضيفها آخر فصل الصيف الحالي، ويدخّنها شبابٌ صغارٌ في العمر باتوا لا يمانعون من تجريبها، وكأنها فعلٌ يتحتّمُ عليهم تجريبه.
وحين نمرّ من بين أوصال الناس المتقطّعة في نطاق المناطق التي استبعدتها الحرب الراهنة من نفوذها الواسع، نسمع من يصرخ من قلبه: "وجدتُ بوكيمون". فالبوكيمون موجود في سوريا إذاً، وجميعُ من بقيَ فيها يبحثُ عنه!