انهيار اقتصادي وسيادي.. الحصاد المرّ للحرب في اليمن

صارت جغرافيا البلاد أكثر انقساماً داخل كلٍ من الشمال والجنوب: فأجزاء كبيرة من محافظة مأرب تحت سيطرة الجيش الموالي للحكومة المعترف بها دولياً، وتعز هي الأخرى مقسومة إلى جزأين، شرقي تحت سيطرة الحوثيين وغربي تحت سيطرة الحكومة، وفي الساحل الغربي أي مديريات من محافظتي تعز والحديدة، تسيطر قوات طارق صالح، نجل شقيق الرئيس الراحل. وليست الجغرافيا الجنوبية أفضل حالاً...
2023-06-11

لطف الصَّرَاري

قاص وصحافي من اليمن


شارك
ميناء الضبة لتصدير النفط، حضرموت - اليمن.

لا يقتصر حصاد الحرب في اليمن على الخسائر البشرية التي بلغت قرابة 400 ألف روح بين قتيل ومتوفى لأسباب متعلقة بالحرب. الناجون من الموت يعيشون أوضاعاً مزرية تحولت فيها الحياة إلى صراع يومي من أجل البقاء فقط: توفير الطعام، وإيجار المأوى بالنسبة لغير ملّاك المساكن، وتوفير الرعاية الصحية للأفراد الأكثر ضعفاً... وهي ما يكافح اليمنيون لتوفيره في ظل انهيار متزايد للاقتصاد الوطني طيلة سنوات الحرب التسع الماضية.

صراع الموارد

بات واضحاً خلال هذه السنوات انقسام البلاد إلى منطقتين اقتصاديتين، الأولى تحت سيطرة جماعة الحوثيين (شمال)، والثانية تحت سيطرة الحكومة المعترف بها دولياً والأطراف المناهضة للحركة الحوثية. تعتمد سلطة الحوثيين في مواردها على الجبايات: ضرائب وزكاة ومسمّيات مختلفة، كما تعتمد على أذرع استثمارية تابعة لها على مستوى شركات تجارية ورجال أعمال، إضافة إلى بعض المساعدات الدولية في المجالات الإنسانية. وفي الجانب الآخر، تعتمد الحكومة المعترف بها دولياً على الدعم الذي تقدمه لها السعودية والإمارات والدول المانحة المعرّفة بمجموعة "أصدقاء اليمن". كانت الحكومة تعتمد أيضاً على تصدير نسبة قليلة من النفط المستخرَج من المحافظات الجنوبية والشرقية، لكن هذا المورد توقف منذ تشرين الأول/ أكتوبر 2022 حين استهدفت جماعة الحوثيين ميناء التصدير في حضرموت بهجمات صاروخية. وما زالت جماعة الحوثيين تهدد بضرب موانئ تصدير النفط إذا استأنفت الحكومة تصديره، ومؤخراً أطلقت الحكومة إنذارات الانهيار المحتوم لاقتصاد البلاد في حال استمر الحوثيون في تهديد هذا المورد.

طالما كان النفط هو المصدر الرئيسي وشبه الوحيد في اليمن لتعزيز رصيد الحكومة من النقد الأجنبي، ولسد احتياجات استيراد 90 في المئة من السلع الاستهلاكية، بما في ذلك الغذاء والدواء والوقود. يطالب الحوثيون الآن بتقاسم هذا المورد مع الحكومة المعترف بها دولياً، وفي أيار/ مايو 2023، حذر قائد جماعة الحوثيين، عبدالملك الحوثي، الشركات الأجنبية من التعاقد مع الحكومة، ليس فقط لاستخراج وتصدير النفط، بل وغيره من الثروات والمعادن.

انهيار العملة

عندما أخذت الحرب انعطافتها الكبرى في آذار/ مارس 2015 بتدخل السعودية والإمارات على رأس التحالف الذي شكلتاه لمساندة الحكومة المعترف بها دولياً ضد الحوثيين، كان البنك المركزي اليمني لا يزال تحت سيطرتهم في صنعاء. في آب/ أغسطس 2016، نقلت الحكومة البنك إلى عدن في سياق تشديد الحصار الاقتصادي على الحوثيين وعزلهم عن التعامل المصرفي مع المؤسسات الدولية. أدى ذلك القرار إلى مضاعفة التدهور الاقتصادي في الشمال. ولأن الاحتياطي من النقد المحلي والأجنبي كان في المقر الرئيسي للبنك المركزي، واجهت الحكومة أزمة سيولة حادة في الجنوب والمناطق الشمالية الواقعة تحت سيطرتها. ولمواجهة تلك الأزمة، قامت الحكومة بإصدار طبعة جديدة من العملة ابتداءً من العام 2017.

بلغت الإصدارات المتتالية لهذه الطبعة من الريال اليمني أكثر من نصف تريليون، بلا أي غطاء مصرفي أو أي استثمارات سيادية، فالبلاد تشهد حرباً ضروساً وكل فرص الاستثمار متوقفة. أدى ذلك إلى انهيار قيمة الريال أمام العملات الأخرى، وخصوصاً الدولار والريال السعودي- أكثر عملتين أجنبيتين تداولاً في اليمن.

لطالما كان النفط المصدر الرئيسي وشبه الوحيد في اليمن لتعزيز رصيد الحكومة من النقد الأجنبي، ولسد احتياجات استيراد 90 في المئة من السلع الاستهلاكية، كالغذاء والدواء والوقود. ويطالب الحوثيون الآن بتقاسم هذا المورد مع الحكومة المعترف بها دولياً، وقد توقف استخراج وتصدير النفط منذ تشرين الأول/ أكتوبر 2022 حين استهدفت جماعة الحوثيين ميناء التصدير في حضرموت بهجمات صاروخية. 

في نيسان/ أبريل 2022، وبعد تشكيل مجلس القيادة الرئاسي الذي فوّض إليه الرئيس السابق عبد ربه منصور هادي كل صلاحياته الرئاسية، عقد البرلمان جلسة لمناقشة إمكانيات الإصلاح الاقتصادي في مناطق سيطرة الحكومة المعترف بها دولياً. في الجلسة نفسها تحدث رئيس الحكومة معين عبد الملك عن لقاء جمعه بمحافظ البنك المركزي ووزير المالية سنة 2018. كان عبد الملك حينها وزيراً للأشغال العامة ومكلفاً بمهمة المنسق للجنة حكومية تم تشكيلها لاستيعاب وديعة بقيمة مليار دولار قررت الحكومة السعودية إيداعها في البنك المركزي اليمني لدعم استقرار العملة. عن لقائه مع محافظ البنك ووزير المالية، كشف معين عبد الملك معلومات قال إنه لأول مرة يتحدث بها، حيث كان لدى لجنة استيعاب الوديعة السعودية ورقة عمل تتضمن مؤشرات انهيار العملة خلال عامي 2017 و2018.

 بموجب تلك الورقة كان سعر الدولار الواحد سيصل بحلول نهاية 2018 إلى ألفي ريال إذا استمرت طباعة العملة الجديدة، بينما كان في ذلك الوقت لا يزال سعر الدولار يعادل 700 ريال. وفي الواقع، كان التدهور الاقتصادي والتلاعب بسعر العملة قد أديا إلى انهيار الريال في أواخر العام 2019 حتى وصل سعر الدولار الواحد إلى حوالي 1700 ريال، ثم تدخلت الحكومة وأعلنت السعودية إيداع وديعة أخرى فنزل سعر الدولار إلى ما دون الألف ريال.

في 2020، وفي ذروة تفشي جائحة كورونا (كوفيد19)، تجاوز سعر الدولار الواحد حاجز الألف ريال، ثم انخفض في نيسان/ أبريل 2022، بعد تشكيل مجلس القيادة الرئاسي برعاية سعودية -إماراتية وإعلان الدولتين دعم الاستقرار الاقتصادي في اليمن بوديعة بنكية قيمتها ثلاثة مليارات دولار. غير أن العملة سرعان ما انهارت مجدداً لأسباب متعددة من بينها تأخر وصول الوديعة السعودية الإماراتية، وظل سعر الدولار يراوح عند سقف 1100-1200 ريال. وفي أواخر أيار/ مايو الماضي، بلغ الانهيار سقف الـ1300 ريال للدولار الواحد وقرابة 345 ريال أمام الريال السعودي. هذا في ما يخص الانهيار الكبير للريال في مناطق سيطرة الحكومة المعترف بها دولياً، أما في مناطق سيطرة الحوثيين، فأقصى سعر للدولار الواحد بلغ 604 ريال.

كان الوضع كذلك في صنعاء إلى ما قبل تشكيل مجلس القيادة الرئاسي في 7 نيسان/ أبريل 2022، ثم انخفض سعر الصرف. هنا يكمن لغز مصرفي محيّر، إذ كيف يمكن أن يؤدي حدث كهذا إلى تعافي الريال في مناطق سيطرة خصوم الحكومة؟ وهو ما دفع بمحللين اقتصاديين إلى وصف تماسك الريال في مناطق سيطرة الحوثيين بـ"الوهمي".

بلغت الإصدارات المتتالية من الريال اليمني أكثر من نصف تريليون، بلا أي غطاء مصرفي أو أي استثمارات سيادية، فالبلاد تشهد حرباً ضروساً وكل فرص الاستثمار متوقفة. أدى ذلك إلى انهيار قيمة الريال أمام العملات الأخرى، وخصوصاً الدولار والريال السعودي- أكثر عملتين أجنبيتين تداولاً في اليمن

 انخفض سعر الدولار أمام الريال في صنعاء من 604 ريال إلى 545 ريالاً، والريال السعودي من 150 إلى 147. وبعد زيارة الوفد السعودي برئاسة سفير المملكة في اليمن للتفاوض مع الحوثيين في صنعاء مطلع نيسان/ أبريل 2023، انخفض سعر الدولار إلى 528 ريالاً، والريال السعودي إلى 138 ريالاً يمنياً. وحالياً يتأرجح الريال في عدن بين 1300-1350 أمام الدولار، وفي صنعاء تتسم أسعار الصرف بثبات نسبي، لكنه "وهمي" (أو متخذ كسقف بقرار ولا يتبع منطقاً اقتصادياً) بحسب خبراء الاقتصاد، مقارنة بالارتفاع المتصاعد لأسعار السلع التجارية.

احتمالات انهيار الدولة الموحدة

في هذا الوضع الاقتصادي المزري، تتصاعد احتمالات تفكك الدولة الموحدة مع ارتفاع وتيرة نشاط المكونات السياسية الجنوبية المطالِبة بالانفصال عن الشمال. خلال الأسبوع الأول من أيار/ مايو 2023، دعا "المجلس الانتقالي الجنوبي" الذي تدعمه دولة الإمارات إلى لقاء تشاوري لجميع مكونات الحراك الجنوبي السلمي. وعلى الرغم من مقاطعة بعض المكونات ذلك اللقاء، اجتمع فيه ممثلو أكثر من ثلاثين كياناً لمدة خمسة أيام. أسفر اللقاء عن إصدار "ميثاق وطني جنوبي" وضع المشاركون فيه تصوراً لأسس بناء الدولة الجنوبية التي يطالبون باستعادتها على حدود ما قبل 22 أيار/ مايو 1990، التاريخ الذي توحدت فيه دولتا الشمال والجنوب.

في 2020، تجاوز سعر الدولار الواحد حاجز الألف ريال، ثم انخفض في 2022 بعد تشكيل مجلس القيادة الرئاسي برعاية سعودية –إماراتية، وإعلان الدولتين دعم الاستقرار الاقتصادي في اليمن بوديعة بنكية قيمتها ثلاثة مليارات دولار. غير أن العملة سرعان ما انهارت مجدداً لأسباب متعددة من بينها تأخر وصول الوديعة، وظل سعر الدولار يراوح عند سقف 1100-1200 ريال.

انخفض سعر الدولار أمام الريال في صنعاء من 604 ريال إلى 545 ريالاً. ويصف محللون اقتصاديون تماسك الريال في مناطق سيطرة الحوثيين بـ"الوهمي"، أي أنه متخذ كسقف بقرار. وبعد زيارة الوفد السعودي للتفاوض مع الحوثيين في صنعاء مطلع نيسان/ أبريل 2023، انخفض سعر الدولار إلى 528 ريالاً، والريال السعودي إلى 138 ريالاً يمنياً. 

مطالب هذه المكونات السياسية، وعلى رأسها المجلس الانتقالي الذي يُعتبر أقواها، لا تزال في طور التفاوض مع المكونات غير المتوافقة مع سياسته، وأهمها مكونات سياسية وقبلية في محافظتي حضرموت وشبوة. كما أن رئيس المجلس الانتقالي واثنين من نوابه ما زالوا محتفظين بعضويتهم في مجلس القيادة الرئاسي، أعلى سلطة اسمية تمثل الدولة الموحدة (الجمهورية اليمنية).

المجتمع الإقليمي والدولي أيضاً ما زال يساند بقاء اليمن موحداً، لكن لا توجد مؤشرات للمدى الذي يمكن لهذه المساندة أن تصل إليه. ففي النهاية، سوف تلتفت دول الإقليم والعالم لمصالحها في البلاد، وإذا ما تم ضمان هذه المصالح في وضع الانفصال بين الشمال والجنوب، فلن يكون هناك ما يدفعها لدعم استمرار الوحدة بينهما، أو للاكتراث بالانفصال.

إلى ذلك، تظهر الصورة الشاملة للوضع في اليمن حالياً أن جغرافيا البلاد صارت أكثر انقساماً على مستوى الشمال والجنوب كلّ على حدة: إذ لا تزال أجزاء كبيرة من محافظة مأرب تحت سيطرة الجيش الموالي للحكومة المعترف بها دولياً، وتعز هي الأخرى مقسومة إلى جزأين: شرقي تحت سيطرة الحوثيين وغربي تحت سيطرة الحكومة، وفي الساحل الغربي الذي يجمع مديريات من محافظتي تعز والحديدة، تسيطر قوات طارق صالح، نجل شقيق الرئيس الراحل علي عبد الله صالح. وليست الجغرافيا الجنوبية أفضل حالاً، حيث تتوزع السيطرة هناك الحكومة المعترف بها دولياً مع المجلس الانتقالي وكيانات قبلية، ناهيك عن بؤر تواجد تنظيم القاعدة.

خلال الأسبوع الأول من أيار/ مايو 2023، دعا "المجلس الانتقالي الجنوبي" الذي تدعمه دولة الإمارات إلى لقاء تشاوري لجميع مكونات الحراك الجنوبي السلمي. وعلى الرغم من مقاطعة بعض المكونات ذلك اللقاء، اجتمع فيه ممثلو أكثر من ثلاثين كياناً لمدة خمسة أيام. أسفر اللقاء عن إصدار "ميثاق وطني جنوبي" وضع المشاركون فيه تصوراً لأسس بناء الدولة الجنوبية التي يطالبون باستعادتها

في هذا الأتون الذي لم تُخمِد ناره الهدنة شبه السارية بين أطراف الحرب، يجد المواطن اليمني نفسه في مواجهة أعباء المعيشة المتفاقمة جراء الانهيار الاقتصادي المتصاعد، وعلى المدى المنظور يواجه مصيراً قاتماً لمستقبل بلا ملامح. مصير راكمت الحرب الطويلة تعقيداته فأصبح أشبه بصورة باهتة لمسخ عملاق يصعب تمييز رأسه من رجليه. 

مقالات من اليمن

للكاتب نفسه