إرث العقوبات على العراق، أو كيف تغتال شعبًا بأكمله

صوّرت السردية الغربية للانتصار في الحرب الباردة النظامَ الدولي الجديد على أنه أكثر استقرارًا وسلمًا، ويستطيع الغرب فيه أن يعمل عبر الأمم المتحدة من أجل حماية الأمن العالمي. كانت العقوبات ابنة هذا النظام الجديد، التي يفترض أن تساعد على حماية الاستقرار العالمي وسيادة القانون الدولي عبر قرارات جماعية وأدوات أقل عنفًا.لكن كما بتنا نعرف بعد ثلاثة عقود، لم يكن هذا النظام الجديد أكثر سلمًا، بل ازداد خطر الحرب تحت غطاء التدخلات الإنسانية، ولم يكن جماعيًا بقدر ما كانت الجماعية مسمىً جديدًا للنفوذ الأمريكي، ولم تكن أدواته الجديدة أقل عنفًا.
2023-06-08

شارك

كانت العقوبات «الأممية» التي فُرضت على العراق منذ آب 1990 وحتى الغزو الأمريكي في آذار 2003 أصدق تعبير عن المرحلة التاريخية التي دخلها العالم منذ جلوس الولايات المتحدة على عرشه. فقد كان فرض عقوبات مُطبقة وشديدة التعقيد على بلد كان يعدّ حينها حوالي 20 مليون إنسان تجسيدًا لمدى القوة الذي بلغته الولايات المتحدة حينها، ولقدرتها على التفرد بالقرار وتسخير الهيئات الدولية لشرعنة سياساتها. وفي الوقت نفسه، مثلت العقوبات على العراق نموذجًا جرى استنساخه والتطوير عليه عشرات المرات، ليصبح أحد أهم أسلحة المرحلة الجديدة.

لم تكن مثل هذه العقوبات ممكنة في أي وقت مضى. فأثناء الحرب الباردة، حال التوازن داخل مجلس الأمن الدولي دون الوصول لاتفاق من هذا النوع، ووفّر الصراع بين القطبين بدائل لمن تُفرض عليه العقوبات. ورغم أن حالة جنوب إفريقيا، التي كثيرًا ما تستدعى كمثال إيجابي لاستخدام العقوبات الاقتصادية، شهدت مشاركة دولية واسعة، لم تصل العقوبات ضد نظام الفصل العنصري بأي حال إلى درجة شل قدرته على استيراد السلع وتدمير بنيته التحتية.

خلال النصف الثاني من القرن العشرين، استمدت دول العالم الثالث قوتها من حركاتها المعادية للاستعمار وموجة الاستقلال التي عمّتها في أعقاب الحرب العالمية الثانية، ومن وجود بديل ذي سمات اشتراكية كان أقدر على توفير حلول تنموية للنهوض ببلدان وليدة أُفقرت على مدى قرون. فقدت هذه الدول الكثير من قوتها في النظام العالمي الجديد، ليس فقط جراء التبعات العنيفة لدخولها القسري إليه، بما شمله من «تصحيح هيكلي» باهظ على المستويين الاجتماعي والاقتصادي، بل أيضًا لما فقدته على المستوى السياسي من قدرة على المناورة بين الشرق والغرب، لينكشف ضعفها في ميزان القوى الدولي بوضوح غير مسبوق. وكانت الأمم المتحدة إحدى ساحات هذا الانكشاف، بعد عقود كانت فيها دول العالم الثالث هي من منح المنظمة دورها المركزي في العلاقات الدولية.

صوّرت السردية الغربية للانتصار في الحرب الباردة النظامَ الدولي الجديد على أنه أكثر استقرارًا وسلمًا، ويستطيع الغرب فيه أن يعمل عبر الأمم المتحدة من أجل حماية الأمن العالمي. كانت العقوبات ابنة هذا النظام الجديد، التي يفترض أن تساعد على حماية الاستقرار العالمي وسيادة القانون الدولي عبر قرارات جماعية وأدوات أقل عنفًا. لكن كما بتنا نعرف بعد ثلاثة عقود، لم يكن هذا النظام الجديد أكثر سلمًا، بل ازداد خطر الحرب تحت غطاء التدخلات الإنسانية، ولم يكن جماعيًا بقدر ما كانت الجماعية مسمىً جديدًا للنفوذ الأمريكي، ولم تكن أدواته الجديدة أقل عنفًا. فكما تظهر حالة العراق، كانت العقوبات قادرة على ترك أثر تدميري يستحق توصيف الإبادة الجماعية.

لذا، فإن العودة إلى هذه العقوبات بعد أكثر من ثلاثين عامًا على بدء فرضها، ليست فقط من باب التذكير بفداحة هذا الماضي القريب الذي لم ينته مفعوله بعد، والذي أسس لمرحلة جديدة من الدمار مع احتلال العراق، بل هي مهمة أيضًا من أجل فهم كيف استُخدم سلاح العقوبات منذ ذلك الحين لفرض النظام العالمي الجديد وتثبيته، وما الذي يعنيه تراجع القدرة على استخدامه.

أمم الولايات المتحدة

في السادس من آب 1990، بعد أربعة أيام على غزو العراق للكويت، أصدر مجلس الأمن الدولي القرار 661، الذي حظر الاستيراد من العراق وتصدير أي شيء إليه، باستثناء الأدوية، والغذاء فقط في «الحالات الإنسانية». لكن الآليات التي وُضعت لإنفاذ العقوبات ضمنت أن يُمنع العراق تمامًا من استيراد الغذاء في الأشهر الثمانية الأولى، وهو الذي كان حينها يستورد 70% من غذائه. وخلال سنة من فرضها، أدت العقوبات لتخفيض صادرات العراق بنسبة 97% ووارداته بنسبة 90%.

مر القرار بلا اعتراض، بموافقة 13 عضوًا، وامتناع عضوين عن التصويت، هما اليمن وكوبا، ولم يكن ذلك من قبيل الصدفة. فكما تنقل جوي غوردون في كتابها «الحرب الخفية: أمريكا والعقوبات على العراق»، قدمت الولايات المتحدة لكل دولة نامية تقريبًا في مجلس الأمن «امتيازات» مقابل تصويتها لصالح القرار. إذ استخدمت نفوذها لدى صندوق النقد والبنك الدوليين لتقديم قروض لكل من الأردن ومصر وتركيا والصين، وقدمت معونات اقتصادية جديدة لكولومبيا وإثيوبيا وزائير.[5] أما اليمن، فعرضت عليه دعم الموقف الفلسطيني عبر تعيين فلسطينيٍ كأمين مظالم للأمم المتحدة في «إسرائيل». وحين امتنع في النهاية عن التصويت، أبلغ دبلوماسي أمريكي مندوبَ اليمن في الأمم المتحدة أن ذلك سيكون «أغلى صوت بالرفض أدليتَ به يومًا». وبعد ثلاثة أيام فقط، ألغت الولايات المتحدة برنامج مساعدات لليمن بقيمة 70 مليون دولار.

نصّ القرار على تشكيل لجنة تتبع لمجلس الأمن تكلّف بمتابعة تنفيذ العقوبات، باتت تعرف بـ«لجنة 661»، نسبةً للقرار. ورغم أن صلاحياتها الأولية اقتصرت على مراجعة التقارير المتعلقة بسير العقوبات وطلب معلومات إضافية حول تنفيذها، إلا أنها تضخمت بمرور الوقت، لتصبح اللجنة صاحبة الكلمة الأخيرة في كل ما يدخل أو يخرج من العراق. حددت اللجنة الواردات التي تنطبق عليها «الإعفاءات الإنسانية»، بما فيها تلك التي تدخلها الهيئات التابعة للأمم المتحدة، وباتت الطرف المخوّل بتفسير جميع قرارات الأمم المتحدة المتعلقة بالعقوبات على العراق.

صُممت «لجنة 661» على نحو مكّن الولايات المتحدة من التحكم بنظام العقوبات. فقد كانت تتخذ قراراتها بالتوافق، ما يعني أن أي عضو فيها كان لديه حق النقض. وكانت جميع جلساتها مغلقة، وفي كثير من الأحيان لم تكن أجندات الاجتماعات متوفرة حتى لبعض أعضائها. كما شملت 15 عضوًا فقط (ممثلةً الدول الأعضاء في مجلس الأمن)، رغم العدد الهائل من عقود التصدير والشراء التي باتت اللجنة مكلفةً بالمصادقة عليها، وهو ما تسبب في تأخيرات شديدة. والأهم من ذلك، لم تكن قراراتها بمنع استيراد هذه السلعة أو تلك مشفوعةً في الغالب بأي تبرير، فردّها كان عادة يقتصر على أنها «لم تتمكن من الموافقة». وعلى مدى عمرها، لم تتوفر أي معايير واضحة للطريقة التي تتخذ فيها قرارات المنع.

خلال الأشهر الأولى من العقوبات، حالت الولايات المتحدة، ومعها عدد قليل من الدول الغربية على رأسها بريطانيا، دون تطبيق استثناء «الحالات الإنسانية» الذي سمح باستيراد الغذاء بموجب القرار. تنقل مذكرة أممية جدالًا دار داخل اللجنة حول طلب بلغاري للحصول على إذن لتصدير شحنة من حليب الأطفال مطلع عام 1991. حاججت الولايات المتحدة بأن نقص الغذاء الشديد، كما يحصل في مجاعة واسعة النطاق، وحده يشكل «حالة إنسانية» تستوجب الإعفاء، وأن المواد الغذائية بحد ذاتها ليست «مواد إنسانية». وظلت تدفع بأن السماح للعراق باستيراد الغذاء «يقوض الهدف من القرار» 661، حتى آذار عام 1991، حين أصدرت اللجنة قرارًا باعتبار الظروف الإنسانية منطبقة على جميع سكان العراق، ليُسمح باستيراد الغذاء بإخطار، بالإضافة إلى استيراد «السلع الإنسانية» بشرط موافقة اللجنة. منذ بداية العقوبات وحتى ذلك الحين، لم يستورد العراق من الحبوب سوى 10 آلاف طن، أي ما يعادل تقريبًا حاجته منها ليوم واحد فقط.

لكن الولايات المتحدة، ومعها بريطانيا، وجدت طرقًا للالتفاف على هذا القرار أيضًا. فتحت عنوان منع المُدخلات الصناعية، رفضت إدخال الكثير من المواد الضرورية لإنتاج وحفظ الأطعمة، فمنعت مثلًا استيراد الألمنيوم لتعليب المنتجات الغذائية، والبلاستيك لإنتاج زجاجات العصير، وحتى الملح على اعتبار أنه يمكن أن يستخدم في صناعة الجلود، فيما منعت استيراد القماش الأبيض للأكفان بحجة أنه يمكن أن يعزز صناعة الملابس العراقية. وفي مثال يكاد يكون فكاهيًا، تقدمت سوريا بطلبٍ للسماح لها بطحن القمح لصالح العراق، فبعد تدمير عدد كبير من مصانعه، ومنعه من استيراد آليات صناعية، لم يعد العراق قادرًا على معالجة ما يزرعه من قمح. لكن ممثل الولايات المتحدة في اللجنة عارض الطلب على أساس «وجوب التركيز على بناء القدرات داخل العراق».

كانت حجة «الاستخدام المزدوج» كذلك عنصرًا رئيسًا في تبرير الولايات المتحدة لرفضها العديد من العقود. فبذريعة وجود استخدام عسكري للسلع، إضافة إلى استخدامه المدني، منعت الولايات المتحدة استيراد كل شيء كان من شأنه أن يساهم في ترميم البنية التحتية العراقية المدمرة، من المولدات الكهربائية إلى أجهزة تنقية المياه إلى المواد الإنشائية، فضلًا عن قائمة طويلة من الممنوعات المثيرة للسخرية. فقد منعت لقاحات الأطفال بحجة أنه يمكن استخراج الفيروسات الضعيفة فيها لإنتاج أسلحة بيولوجية، ومنعت استيراد البيض على اعتبار أنه يمكن أن يستخدم كحاضنة للفيروسات، ومعجون الأسنان لأن الفلورايد يمكن أن يستخدم لإنتاج أسلحة كيميائية، والأتروبين (وهو دواء ضروري في أي عملية جراحية يخضع فيها المريض للتخدير العام) بحجة أن الجنود العراقيين يمكن أن يستخدموه في المعركة كترياق من غاز الأعصاب.

بالمحصلة، لم يستطع العراق استيراد أي شيء تقريبًا في السنوات الخمس الأولى، إما بحجة أنه مدخل في الصناعة، أو أن له استخدامًا مزدوجًا، أو أنه ليس سلعة إنسانية أساسية. ثم في عام 1995، صدر قرار مجلس الأمن 986 الذي أقر برنامج «النفط مقابل الغذاء» وسمح للعراق بتصدير جزء من إنتاجه النفطي مقابل السماح له باستيراد حاجاته الأساسية. ورغم أن مبعوث الأمين العام للأمم المتحدة أشار إلى أن هذا الترتيب سيوفر أقل من ثلث المبلغ المطلوب لتأمين أبسط الحاجات البشرية للعراق، إلا أن الدور الذي لعبته الولايات المتحدة داخل اللجنة لم يختلف كثيرًا. تغيرت اللغة المستخدمة، فبدلًا من «رفض» عقود الاستيراد، باتت اللجنة «تحجزها» في انتظار الموافقة لأشهر أو سنوات. وبحلول أيار 2002، بلغت قيمة العقود المحجوزة 5.5 مليارات دولار، كانت الولايات المتحدة بمفردها مسؤولة عن حجز 90% منها، فيما حجزت بريطانيا حوالي 5% منها، وفُرضت الحجوز المتبقية بشكل مشترك بينهما.

في صيف 2002، بعد أن بلغت قائمة الممنوعات الأمريكية من الطول حدًا أثار السخط حول العالم، أقر مجلس الأمن آلية جديدة لمراجعة عقود الاستيراد، وضعت بموجبها قائمة من السلع المحظورة، والسلع التي تحتاج لموافقة، والسلع المسموحة بوضوح، وشُكلت لجنة أممية جديدة لمراجعة العقود. بمجرد أن خرجت المسألة من يد الولايات المتحدة، جرت الموافقة على الفور على معظم العقود، وانخفضت الحجوزات بنسبة 87% بحلول تشرين الأول من العام نفسه. لكن بعد 12 عامًا من الحصار الخانق، كان الضرر قد وقع بالفعل.

لم يكن تصميم لجنة 661 وحده ما منح الولايات المتحدة السلطة النهائية في تشكيل نظام العقوبات. فلأن القرار 661 لم يكن محدد المدة، كان رفع العقوبات يتطلب قرارًا جديدًا في مجلس الأمن يمكن دومًا استخدام حق النقض ضده، ما عنى أن العقوبات ستبقى قائمة حتى تقرر الولايات المتحدة رفعها. وفي حين أن الهدف المعلن للقرار كان سحب القوات العراقية من الكويت، إلا أن الولايات المتحدة سرعان ما بدأت تضيف قائمة معقدة من الشروط التي يصعب أساسًا قياس امتثال العراق لها، فضلًا عن صعوبة تحقيقها. كما بدأت توظف لغة حقوق الإنسان، رابطةً رفع العقوبات بوقف الانتهاكات التي يرتكبها النظام العراقي بحق شعبه (في حين صوتت الولايات المتحدة قبل أربع سنوات فقط من فرض العقوبات ضد قرار أممي يدين العراق لاستخدامه الأسلحة الكيميائية ضد الجنود الإيرانيين). وقبل أن تتم العقوبات سنتها الأولى، كانت الولايات المتحدة تعبر بوضوح عن أن الشرط الجديد لرفعها هو تغيير النظام.

لم يكن ذلك محط إجماع في الأمم المتحدة، لكن كما علّق هانز فون سبونيك، منسق الأمم المتحدة للشؤون الإنسانية في العراق، الذي كان مسؤولًا عن برنامج النفط مقابل الغذاء أواخر التسعينيات: «كان هناك بعض النباح، لكن لم يكن هناك عضّ». ولم تخفِ مادلين أولبرايت، التي كانت في منتصف التسعينيات المندوبة الأمريكية للأمم المتحدة، هذه اللامبالاة بـ«النباح» الأممي حين قالت «سنعمل مع الآخرين على نحو مشترك حين نستطيع وعلى نحو فردي حين ينبغي».

بقية التقرير على موقع "حبر". 

مقالات من العالم العربي

ثمانون: من يقوى على ذلك؟

إليكم الدكتورة ليلى سويف، عالمة الرياضيات المصرية بالأصالة، البريطانية بالولادة، على صقيع رصيف وزارة الخارجية في لندن، تُعدُّ بالطباشير – ككل المساجين - أيام اضرابها.

فلسطين في أربع جداريات دائمة في "المتحف الفلسطيني"

2024-12-19

"جاءت انتفاضة الحجارة في 8 كانون الاول/ديسمبر 1987، وجلبت معها فلسفة الاعتماد على الذات، وبدأ الناس يزرعون أرضهم ويشترون من المنتوجات المحليّة، ويحتجّون على الاحتلال بأساليب ومواد وأدوات محليّة. وشعرت...