على النجد القريب من دارنا، كان هناك بيت مهجور. أحدهم قبل سنين طويلة تزوج وأنجب ولدَين، وعمّر ذاك البيت لينتقل من بيت أمّه إليه ويحيا حياة الزوجية. ثم في ليلة غريبة، تقيّأ كثيراً ومات، وترك الولدين وأمهما وأمّه أيضاً، ولم يكتمل البيت. ظلّ بدون سقف وبدون أبواب ونوافذ. نمَت الشجيرات بداخله، وبقي قابعاً في ذلك النجد يشرف على قريتين ووادييْن مختلفَين، يتجمّع أمامه مراهقو القرى، وتستريح بجانبه النساء حاملات الحطب والحشائش ومؤونة البيت اللاتي يجلبنها من الدكان في الوادي المقابل للبيت. ثم تحوّل أخيراً إلى صفّ لمحو الأمية.
في نهاية العام 2014، وقع الحدث الأهم بالنسبة لنساء قريتنا. فقد قرّرت إحدى الفتيات المتخرجات من المدرسة الابتدائية أو ربما الإعدادية، أن تتطوع لتكون أستاذة لمحو الأمية في القرية. وبمساعدة من هنا وهناك استطاعت الحصول على المنهج. واتفقت النساء على الموقع، وقالت الفتاة أنها ستعطيهن حصّتين في الأسبوع. يتجمعن في العصرية، بعد أن يكملن إطعام أطفالهن وماشيتهن، وبعد أن يلبين طلبات أزواجهن، ويتأكدن من تقسيم عمل البيت على الفتيات والأولاد، فتلك تجلب الماء وذلك يرعى الماشية وتلك تعجن لخبز العشاء، وبعد أن يكنّ قد اغتسلن من عمل اليوم.. ومن المؤكد أنهن جميعاً يضعن الكحل وأغلبهن يطلين "الهرد" على وجوههن، ويرتدين جلابياتهن النظيفة، ثم يغدون إلى الأعلى، إلى النجد، حاملات الدفاتر التي كتب عليها أبناؤهن بخط كبير ومنسق أسماءهن، وتبدأ معهن الأستاذة الصغيرة حرفاً حرفاً وكلمة كلمة، وتشجعهن على حفظ القرآن: ويكون القرآن والصلاة الصحيحة من أسمى أهدافهن لتعلم محو الأمية. قد يكون الهدف الأول (حسبما يقلن)، لكني أعتقد أن الأولوية صارت لحفظ أرقام هواتف أبنائهن المبعثرين في المدن. فلكم سمعتهن يتمنين لو كن يستطعن الاتصال بمفردهن دون استجداء الأولاد الصغار.
أسأل أمي: ها، كيف الدراسة؟ تضحك: خلاص يا بنتي كبرنا، تدخل الكلمة من هنا وتخرج من هنا. ومع أني أكلمها عبر الهاتف ولا أرى إشاراتها، لكني أعرف أنها تشير إلى أذنيها. لكنها لا تقول الحقيقة. هي فقط تتواضع، فهنّ جميعاً مكافحات، صبورات، فلاحات حقيقيات إنْ أقدمن على شيء فلا بد أن ينجزنه. كان الندم حينها ينهش قلبي، وكان إحساسي بالعار عميقاً وجللاً: كيف لي أن أواجه أمي وذاتي الآن بعد مضي كل هذه السنين التي تمنيتُ فيها لو أن أمي تقرأ ولم تخطر على بالي فكرة أن أعلّمها بنفسي؟ ما زلت أندم حتى اللحظة، لكني أعد نفسي بأني قد أستدرك هذا يوما ما. أيّامها اكتفيت فقط بأن أشجعها، وأخبرها بأني سأبعث لها بعد شهر واحد رسالة على الموبايل لتقرأها. تضحك أمي من جديد وتقول لي: على الله يا بنتي.
كانت أمي تكافح وتنافس جاراتنا الفلاحات. لدى جاراتنا فتيات صغيرات يذهبن للمدرسة، يساعدنها في عمل البيت ويساعدنها في التعلم، بينما أمي لديها ذكور من حواليها، متجولين أو مسافرين، والفتاة الوحيدة مشغولة بأعمال ما في المدينة. لكن إخوتي الأصغر عادوا إلى القرية وساهموا في تشجيعها وتعليمها. كانت تتشاجر معهم وتتشاجر مع أبي ولا تحتمل نزقه وطريقته في التدريس. أخبرتني أن جارتنا الصغيرة عفراء تأتي أحيانا إليها لتستمع إلى ما حفظته من القرآن، وتصحّح لها ما أخطأت به. كانت تمضي بصعوبة، لكنها كانت تمضي، وأنا سعيدة غاية السعادة، سأضيء من سعادتي طريقها، ومستعدّة لأن أهب في سبيل تعليمها القراءة والكتابة عيناً ويداً. كان حلماً أن تقرأ لي أمي مقالاً منشوراً في صحيفة وترى بجانبه صورتي، من فئة الأحلام البعيدة وشبه المستحيلة. لكنه فجأة بدا ممكناً. وأمي المنشغلة دائماً وجدت وقتاً لطموح شخصي بحت لا علاقة له بنا أو بماشيتها أو بالأرض.
حين اندلعت الحرب وعلقت في المغرب، كان لدي من الأحاديث والألم ما لا يمكن التحدث به، لا يمكنك أن تقول أي شيء عبر الهاتف، ولا يمكنك أن تبكي أو تصوغ ردّات فعلك. لذا تصبح الكتابة هي الخيار الأسهل. فجأة اندلعت الحرب، وفجأة صرتُ مشردة، وفجأة تسرب مني الكلام فخسرت الأصدقاء، وفجأة استبدلت كل حديث ببكاء يومي.. وكل هذا يمكنك فقط أن تكتبه، لكن ماذا إن كان الشخص الذي يجب أن يقرأ كل هذا لا يمكنه القراءة؟ أمي تظل أمي، أينما كنتَ وكيفما كنتَ، تعتقد أن أمك يمكن أن تحميك من كل سوء وأن تحمل عنك كل ألم، تماما مثلما كنا صغاراً إن جُرحنا نبكي ونهتف: أماه! وفي المغرب لم أكن أريدها أن تحمل ألمي، كنت فقط أريدها أن تعرفه، فسألتها برجاء مرّ إن كانت ما تزال تدرس، فنفت هذا قائلة أن كل شيء توقف: الدراسة وسيارة القرية التي تحمل كل المؤونة للدكان الوحيد، وحتى شبكة الهاتف وهي تحدثني من على قمة الجبل، شارحة لي هي وإخوتي بأن لا مكانا آخر تصله شبكة الهاتف غير ذلك المكان، فطائرات التحالف قصفت أبراج الاتصالات.
كتبت إليها كثيراً. كنت أكتب إليها رسائل طويلة جداً، أشرح فيها كل شيء بطريقة غير مرتبة، ورسائل قصيرة أحتفظ فيها بملاحظات الهاتف، رسائل أخرى أبكي فيها، رسائل أعتذر فيها، رسائل أعدها بأني سوف أعود، رسائل أتمنى فيها لو تقرأ كل ما سبق. بقيت تلك الرسائل في أماكنها لم يقرأها أحد ولا حتى أنا، وأمي لم تكن تهتم بكل هذا: لا بأني أريدها أن تقرأ ولا بمدفعيات الحوثيين التي تدك القرى المجاورة، ولا بطائرات التحالف، ولا بشبح المجاعة. كانت تصعد إلى قمّة الجبل كي تلتقط شبكة الهاتف وتحدثني بينما يصلها صوتي متأخراً، وفي كل محادثة كانت تؤكد عليّ: عودي إلى القرية! إنّ هراء الكتابة هذا شيء، أنا فقط أتهرب من خلاله، لكن أمي لا تحتاج لأن تقرأ كي تعرفني وتعبر لي عن كل شي بجملة واحدة: "عودي إلى القرية". فهي بهذا تختصر كل شيء: الحرب والأمن، الحب والفقد، الوصل والبعد.
ما زلت أحسد أولئك الذين تقرأ أمهاتهم، أحيانا أحسدهم بشدّة، وأتمنى أن أخبرهم كم هم محظوظون، وأن أطلب منهم أن يكتبوا لأمهاتهم.. كثيراً. وأحيانا أخرى أجدني متصالحة: صحيح أن أمي ستقرأ ما أكتب، لكنها أيضا ستعرف أكثر عن هذا العالم البشع، وروح أمي أنقى حتى من أن تعرف وأرهف بكثير من أن تحتمل، وأمي لا تحتاج لأن تقرأ كي تفخر بي وكي تعرفني وكي تحسّ بي، لكني سأخبرها هنا أن الحرب ستنتهي يوماً، وسأعود أيضاً وسنتعلم معاً.. هي أن تجد مرة أخرى وقتاً لطموحها الشخصي وأنا بأن أقتسم معها طموحي الشخصي بحيث ستقرأ هذا، بينما ابتسم وأنا بجانبها.