في نهاية ستينيات وبداية سبعينيات القرن الماضي، كانت مصر تصطخب بواحدة من أهم الظواهر التاريخية التي مرت بها والمدموغة بالتمرد والفتوّة، شعر معها المصريون وفي القلب منهم طلاب الجامعة أنّ بإمكانهم أن يصبحوا جزءاً من المعادلة السياسية، وأن يكون لهم صوت مؤثِّر وإرادة فاعلة في صناعة المستقبل.
هي تلك الفترة التي أعقبت هزيمة 5 حزيران/ يونيو 1967 والتي أفاقت مصر خلالها على واقع مخيف، وهي ترتطم بصخرة بالغة القسوة بعد أن ظلّت على مدى أكثر من عقد كامل تتعاطى الأحلام وتوزّع الأمنيات.
اختارت مصر أن يكون صوت الطلبة هو صوتها الثائر الذي يقول كلمته، وحمل الطلاب هذا "الدور" الذي أوجده الظرف القائم (1)، لكن النظام ومنذ اللحظة الاولى قام برسم حدود ذلك الدور بالملاحقة والتهميش والقبضة الغليظة، ما ساهم في الحد من القدرة التمثيلية لهؤلاء الطلاب، فعمد إلى منع المظاهرات العامة بقسوة مفرطة وسد قنوات الاتصال بين بيانات الطلبة وبين الصحف، وركز على "فئوية" هؤلاء الطلاب لا على كونهم صوتاً لكل فئات الشعب.
تسبق رضوى عاشور أروى صالح ببضع سنوات، وكلتاهما ارتادتا جامعة القاهرة. وحملت تلك المجايلة مشتركات كثيرة وأحلاماً واحدة، إلا أن مصائرهما ومآلاتهما كانت مختلفة.
هزيمة 1967
02-06-2016
تجتمع رضوى وأروى معاً لأنهما مثّلتا نموذجين كاشفين لما جرى في تلك الأيام، ولأن مصير الحركة الطلابية في سبعينيات القرن الماضي وما تمخضت عنه تلك الحركة فيما بعد من خيبات وانكسارات وتحلل، يشبه إلى حد مدهش - ومحزن معاً حتى الآن - مصير ما جرى لثورة الخامس والعشرين من يناير 2011: البدايات الساطعة بلحظات الميلاد الواعدة، والأمل الذي يُنبِت الأمنيات، والتصديق بأحلام الخلاص من قبضة الاستبداد التي يتغير قفازها في كل مرة فيما غشامتها وعنادها لا يتغيران... والشعور المخاتل في ومضة عابرة أننا نستطيع، ثم ذلك الانطفاء السريع بعد أن ناور الاستبداد بكل أسلحته ريثما يستعيد قبضته ويشحذ مخالبه ويستدير بكل شراسته وصلفه لتصفية الحسابات ومصادرة الأحلام.
في هذه وفي تلك، وكنتيجة مباشرة لتواري الحلم انكفأ البعض وسقط في مهاوي الاكتئاب واللاجدوى، وترسخ لديهم يقين بأنه لا طائل من وراء كل ما نفعل، وأنه من الأجدى الانسحاب من المشهد برمته أو الانسحاب من الحياة إن أمكن. في هذه وفي تلك، ظل هناك من يدرك بأن المعركة مستمرة مهما تعاظمت شراسة الخصوم، وبأن المقاومة واجبة في كل الأحوال، وبأن التعاطي مع الواقع بكل تجلياته أجدى من الانسحاب والهرب، وبأنه لا توجد أرض واحدة للمعركة، فربما كانت زراعة الوعي وبذر الحلم أكثر ملاءمةً من كل طرح ، بل ربما كانت معركة الوعي تحديداً هي التي تملك جدوى مستقبلاً، حتى لا تضيع الذاكرة وتتوه الدفاتر في تشابكات الأحداث وتعقيداتها.
قاومت رضوى بقدر اتساع الحلم، وقاوم من خلفها قطاع عريض أدرك أن المعركة ليست فقط في مواجهة الاستبداد، بل أنّها تمتد لتقاوم الجهل واللامبالاة والعدمية. ترجلت أروى حزينة ومقهورة ويائسة بعد أن نكست رايتها التي حاولت أن تحتفظ بها طويلاً مرتفعة وخافقة.
تجتمع رضوى وأروى معاً لأنهما مثّلتا نموذجين كاشفين لما جرى في تلك الأيام، ولأن مصير الحركة الطلابية في سبعينيات القرن الماضي وما تمخضت عنه تلك الحركة فيما بعد من خيبات وانكسارات وتحلل، يشبه إلى حد مدهش - ومحزن معاً حتى الآن - مصير ما جرى لثورة الخامس والعشرين من يناير 2011.
ليس هناك مجال للمقارنة بين السيدتين بنية أن ترجح كفة إحداهما، ولكنها محاولة لقراءة مآلات الحركة الطلابية في جيل السبعينيات من خلال رضوى وأروى، عسى أن يضيء لنا هذا بعض ما جرى في "يناير"، وأن يجنّبنا مصائر مشابهة صارت تكرر نفسها الآن بشكل يبدو عبثياً.
رضوى
"هناك احتمال آخر لتتويج مسعانا بغير الهزيمة ما دمنا قررنا أننا لن نموت قبل أن نحاول أن نحيا" (2).
شهد العامان الأخيران لرضوى بجامعة القاهرة بداية مظاهرات الطلبة احتجاجاً على الأحكام الهزيلة التي صدرت ضد قادة سلاح الطيران الذين تحملوا مسؤولية الهزيمة. منذ تلك اللحظة، أدركت رضوى أنها وجدت حاضنتها التي تعبر عن شخصيتها بجلاء كامل. رضوى المتمردة المتعطشة للحرية طوال الوقت والرافضة لكل صور القهر والوصاية... "الركض حالة أعيشها دائماً. في طفولتي كانت طاقة الحياة فيّ تلح وتفيض فأركض، وفي مراهقتي ركضت خوفاً من جسدي النامي ومن الحرملِك المنتظر. ثم بقيت أركض لكيلا أفقد ندّيتي للرجال من أبناء جيلي. أركض لكي أتعلم. أركض لكي أستقل، وأركض لكيلا يعيدني أهلي لحظيرة حبهم ووصايتهم. وأركض لكيلا يزج المجتمع بي في خانة الدونية المعدّة سلفاً للنساء" (3).
لكن التمرد لم يكن سبباً كافياً ووحيداً لتفسير انصهار رضوى في تلك الحركة، بل هناك أيضاً القدر الذي كان يستنبت مواهبها الأدبية لتصبح واحدة من علامات الأدب الهامة في الوطن العربي. هذه السيدة، ضئيلة الجسد، متوقدة الذكاء، كانت أكثر من رَصد وكتب عن تلك التجربة في رواياتها وكتبها، فقدمت المعادل الأدبي شبه التقريري الذي رصد أحداث تلك الأيام كما لم يكتب أحد. تقول رضوى على لسان بطلتها "ندى عبد القادر" في رواية "فرج" (4) وهي تصف النشوة الثورية والحماس اللذين ألهبا ذلك الجيل: "عادة ما أشعر أنني خفيفة قادرة على أن أطير. وأطير فعلاً لا مجازاً. وأذكر الآن أنني طوال العامين اللذين شاركت فيهما في الحركة الطلابية كنت أطير إلى الجامعة، أطير إلى قاعة الاعتصام، وأطير إلى المظاهرات.
تستطرد وهي تحكي حالة الزخم الثوري الذي صاحب الاعتصام الطلابي الكبير للضغط على النظام من أجل استكمال خطوات الحرب الحتمية. كتبت وكأنها تستعير ما كتبته من مذكرات وكتابات ذلك الجيل: "تلازمنا في القاعة مع آلاف الطلاب طوال سبعة أيام. نناقش الأوضاع السياسية والاقتصادية والاجتماعية. ننتقد الحكم ورموزه، والقمع، وأمريكا، وإسرائيل. نرفع أيدينا لنصوت مع أو نصوت ضد، أو نقول نقطة نظام. نختلف ونتفق ونساهم في صياغة بيان ونتشارك في الحوار والسندوتشات والغضب والقلق والزهو بالانتماء لجسد طلابي له لجنة عليا من اختياره، يوقع بياناته بعبارة "كل الديمقراطية للشعب وكل التفاني للوطن"، نرسل وفوداً إلى مجلس الشعب والنقابات ونستقبل وفوداً منها وتأتينا برقيات مساندة وتأييد. ونطالب بحضور رئيس الجمهورية للرد على أسئلتنا (5).
ندى بطلة رواية فرج ابنة الحركة الطلابية والتي زاملت ولازمت سهام صبري وأروى صالح، كانت من ضمن من اعتقلوا من الطالبات والطلبة وعاينت التجربة حتى نهايتها. عاشتْ "ندى" حتى أدركت "ثورة الخامس والعشرين من يناير" كما عاشت رضوى تماماً.
رضوى: "هناك احتمال آخر لتتويج مسعانا بغير الهزيمة ما دمنا قررنا أننا لن نموت قبل أن نحاول أن نحيا". لم يكن التمرد سبباً كافياً ووحيداً لتفسير انصهار رضوى في تلك الحركة، بل هناك أيضاً القدر الذي كان يستنبت مواهبها الأدبية لتصبح واحدة من علامات الأدب الهامة في الوطن العربي.
كانت رضوى في الولايات المتحدة تقوم باستئصال ورم شرس وعنيد في رأسها. وعقب واحدة من مرات إفاقتها من غيبوبة المخدّر التي تلت أربع عمليات جراحية خطيرة، همس لها تميم ومريد أن مبارك قد رحل، وأن ثورة مصر التي اندلعت كشرارة كونية في ميادين تحريرها العريضة قد نجحت في إزاحة وجه ذلك النظام الشرس والبليد، وأن حلقة من حلقات ذلك النضال المستمر والدؤوب من أجل زحزحة الاستبداد عن مواقعه قد نجحت أخيراً.
تفحص لبعض ملامح "يناير 2011"
22-01-2021
كان يا ما كان .. عرقٌ وخبزٌ وياسمين
04-02-2021
في تلك اللحظة، أدركت رضوى ولا بد - كما كانت تدرك طوال الوقت - بأن النضال من أجل إزاحة ذلك الاستبداد قد سار عبر حلقات متوالية ومتتالية ودؤوبة، وبأن ما جرى في تلك الأيام البعيدة من سبعينيات القرن الماضي كان منمنمة دقيقة في اللوحة الكاملة التي رسمت صورة المقاومة ومحاولة الانعتاق من قبضة الديكتاتورية... ولكنها في الوقت نفسه كان لديها من الكرم ومن رحابة الصدر ما جعلها تُدرك أن هذه الثورة هي ابنة جيلها. تقول: "لا يشغلني موقعي من الإعراب في ثورة لم أخطط لها، ولم أشارك فيها بشكل مباشر، بل غبت اضطراراً عن كل نشاطاتها في شهورها الأربعة الاولى. وحين شاركت كانت المشاركة خافتة وهامشية لأنني لم أتعافَ تماماً من مرضي، ولأننى ستينية، قدراتي على الكر والفر محدودة، ولأن أداتي الأجدى والأكثر نفعاً - أعني الكتابة - بدت لي غير ممكنة لأنني هيّابة ولا أثق في قدرتي على إضافة جديد من خلالها. والأهم أنني كنت أتوجس من فكرة القفز أمام الشباب وإعاقتهم أو إرباكهم - وإن حسنتْ النوايا - برؤية قاصرة أو توجيهات تنتمي لجيل سابق وتجربة مغايرة " (6).
عادت رضوى من أمريكا إلى ميدان التحرير لتعاين ذلك الجيل الذي قام بالثورة. الجيل الذي قرأ لها ما كتبته عن تجربة الحركة الطلابية، والجيل الذي رأت بعضاً منه في قاعات محاضراتها الجامعية لسنوات عديدة.
عاشت رضوى كي تكتب وتقاوم وتقوم بإحكام توصيل الحلقات ببعضها البعض. ناضلت في قاعات التدريس في الجامعة عبر معركة الوعي التي راهنت عليها، وناضلت في ساحات الاحتجاجات ضد ممارسات السلطة التي حاولت إرهاب الأساتذة من أجل تحييدهم وتدجينهم. وكانت في الطليعة من "حركة 9 مارس"، وهي مجموعة العمل التي تأسست من أجل استقلال الجامعات. ظلت رضوى، فيما كان طائر الموت يحوم مقترباً منها، مدركة طوال الوقت بأنه ليس مهماً أن نبلغ غاية تبدو الآن مستعصية ومراوغة، بقدر ما هو مهم "أن نحاول" بقدر ما تسعنا المحاولة، قبل أن ترحل عن دنيانا في 30 تشرين الثاني/ نوفمبر عام 2014 .
أروى
"لذلك حين خرجنا للحياة أخيراً كان الحطام بالجملة مثل مومياوات اُخرجت للشمس فجأة فتهاوت تراباً". لا شيء يعبر عن مأزق أروى، ومن ثَمّ قطاع عريض من جيلها، أكثر من عنوان كتابها "المبتسَرون" (7) والذي يعني النقص أو عدم الاكتمال... أو الجنين الذي ولد ميتاً.
ولدت أروى صالح عام 1951 وتفتّح وعيها السياسي بينما مصر تستقبل هزيمتها الثقيلة، وتجرعت مع ملايين المصريين مرارة تلك الهزيمة. سرعان ما التحقت بالجامعة وكانت في طليعة الحركة الطلابية، وواحدة من أبرز كوادرها في بداية سبعينيات القرن الماضي. كانت قبلها قد انضمت إلى "حزب العمال الشيوعي المصري"، أحد أكثر التجمعات اليسارية راديكالية في ذلك الوقت، وآمنت إيماناً لا يتزعزع بقدرة اليسار على التصدي لكل الأسئلة العسيرة. وانخرطت في الحركة الطلابية بكل ما تحمله من أحلام ويقين بالخلاص.
في لحظة ثورة يناير 2011، ومع سقوط مبارك، أدركت رضوى ولا بد (كما كانت تدرك طوال الوقت) بأن النضال من أجل إزاحة ذلك الاستبداد قد سار عبر حلقات متوالية ومتتالية ودؤوبة، وبأن ما جرى في تلك الأيام البعيدة من سبعينيات القرن الماضي كان عبارة عن منمنمة دقيقة في اللوحة الكاملة التي رسمت صورة المقاومة ومحاولة الانعتاق من قبضة الديكتاتورية...
كان لديها من الكرم ومن رحابة الصدر ما جعلها تُدرك أن هذه الثورة هي ابنة جيلها. تقول: "لا يشغلني موقعي من الإعراب في ثورة لم أخطط لها، ولم أشارك فيها بشكل مباشر، بل غبت اضطراراً عن كل نشاطاتها (...) والأهم أنني كنت أتوجس من فكرة القفز أمام الشباب وإعاقتهم أو إرباكهم - وإنْ حَسنتْ النوايا - برؤية قاصرة أو توجيهات تنتمي لجيل سابق وتجربة مغايرة".
كانت، كما أخبرتنا عنها رضوى على لسان بطلتها ندى عبد القادر، "تحكي عن تمرد ذلك المجموع من الأولاد والبنات الذين خرجوا في مهمتهم النبيلة ذات صباح مستجيبين لنداء التاريخ راغبين في عدل ميزانه، رافعين لواء حلم الخلاص الجماعي، موقنين أنهم جماعة تشارك في المسيرة الكبرى التي تمشي قدماً عبر العصور باتجاه الأخوّة والمساواة والعدالة والسعادة".
في "المبتسَرون"، تسعى أروى إلى إبراز ملامح ذلك الجيل الذي انخرط في الحركة الطلابية كجيل استثنائيّ ومتميز عمّن سبقه وعمّن لحق به، وكيف عاش تلك التجربة وتشكّل بها، فتقول: "لقد مسه سحر الحلم مرة، وستبقى تلاحقه دوماً ذكرى الخطيئة الجميلة - لحظة حرية، خفة لا تكاد تُحتمل لفرط جمالها - تبقى مؤرقة كالضمير، وملهمة ككل لحظة مفعمة بالحياة والفاعلية، ومؤلمة. فالواقع أن سكّة "اللي يروح ما يرجعش" ليست سكّة ثالثة إنما هي كامنة في قلب اللحظة التي تقامر فيها بوجودك لتتبع الحلم ".
ولكنها – أروى أيضاً - تحاول محمومة طوال الوقت وهي تنظر خلفها وحولها بغضب، أن تبحث عن تلك الأسباب التي أدت إلى ابتسار هذه الحركة وتهاويها السريع. في الوقت نفسه الذي رأت فيه استثنائية تلك اللحظة وفرادتها، انتقدت ذلك الجيل الذي لم يستطع أن يقبض على تلك الثمرة اليانعة للقطاف، ورأت أنه أضاع الفرصة لأسباب تخصه أكثر مما تخص ألاعيب النظام ومناوراته. رأت أروى أن الحركة الطلابية التي كان يجب أن تصبح "ثورة على الثورة" والتي فجرها الشباب بإرادتهم الذاتية وحيويتهم الفائقة، قد خضعت في النهاية لعوامل تحللها الذاتية عندما فرض شيوعيو زمن عبد الناصر وصايتهم وأبويتهم على جيل لم ينضج بعد ولم تتوافر له مؤهلات القيادة أو تكامل الرؤية.
"لذلك حين خرجنا للحياة أخيراً كان الحطام بالجملة مثل مومياوات اُخرجت للشمس فجأة فتهاوت تراباً". وُلدت أروى صالح عام 1951 وتفتّح وعيها السياسي بينما مصر تستقبل هزيمتها الثقيلة، وتجرعت مع ملايين المصريين مرارة تلك الهزيمة. سرعان ما التحقت بالجامعة وكانت في طليعة الحركة الطلابية، وواحدة من أبرز كوادرها في بداية سبعينيات القرن الماضي.
"كان قادة الحركة الطلابية شبابا في أوائل عشرينياته. يتلعثم بعضه بكلمات ماركسية وملأته قيادة الجماهير غروراً ساذجاً سرعان ما دفع ثمنه غالياً، فقد صنع التقاؤه بالقادة الماركسيين القادمين من زمن عبد الناصر – وكانوا منتهَكين منه – مهزلة من الضحك ومن النفور، ولكنها تركت في ضحاياها شعوراً بالخزي والمرارة قضى على كثيرين حتى لم يعودوا يصلحون لشيء" (8).
أدركت أروى أن الشيوعيين القادمين من زمن الهزيمة محاصَرين بظروفها، قد أرضعوا جيلها "اللبن المسموم" دون أن يتركوه ليخوض تجربته بنفسه ويفرزها ليعرف يسارها من يمينها، ثم يقرر كيفية استكمال ما بدأه بلا وصاية أو توجيه أو مزيد من اللبن المسموم.
اليسار في مصر: حدوده وآفاقه في عالم 2011
04-01-2019
هل مات اليسار بينما ما زال لبه يُحرِّك الناس؟
17-12-2018
أطلقت أروى صرختها الأخيرة قبل أن تتهاوى في وجه مثقفي جيلها ورموزه من اليساريين وهي تحاول أن تستوعب ما جرى بين لحظة الخروج المتمردة العفوية لتحقيق حلم الحرية، ولحظة تهاوي الحلم تحت مطارق كثيرة ومتتابعة، فكان "الحطام بالجملة" وكان ذلك الجيل المبتسر الذي لم يستطع أن يستكمل عوامل نموه. كانت المعضلة من وجهة نظر أروى تتمثل في عدم قدرة اليسار على طرح الأسئلة المعنية بالعدالة الاجتماعية ونقد السلطة والتخلص من الوصاية الأبوية للأجيال السابقة.
"لقد مسه سحر الحلم مرة، وستبقى تلاحقه دوماً ذكرى الخطيئة الجميلة - لحظة حرية، خفة لا تكاد تُحتمل لفرط جمالها - تبقى مؤرقة كالضمير، وملهمة ككل لحظة مفعمة بالحياة والفاعلية، ومؤلمة. فالواقع أن سكّة "اللي يروح ما يرجعش" ليست سكّة ثالثة إنما هي كامنة في قلب اللحظة التي تقامر فيها بوجودك لتتبع الحلم".
تحاول أروى أن تستوعب ما جرى بين لحظة الخروج المتمردة العفوية لتحقيق حلم الحرية، ولحظة تهاوي الحلم تحت مطارق كثيرة ومتتابعة، فكان "الحطام بالجملة"، وكان ذلك الجيل المبتسَر الذي لم يستطع أن يستكمل عوامل نموه. كانت المعضلة من وجهة نظرها تتمثل في عدم قدرة اليسار على طرح الأسئلة المعنية بالعدالة الاجتماعية ونقد السلطة والتخلص من الوصاية الأبوية للأجيال السابقة.
وعلى الرغم من أنها قد وضعت أصبعها على جرح الأزمة، وانتقدت جيلها وتجربتها أكثر مما فعل أيٌّ من المنتمين إلى ذلك الجيل، وقدمت نقداً ذاتياً كان يمكن أن يؤسس لما بعده من تجارب، إلا أنها لم تكن قادرة بعد ذلك على الصمود أمام تداعيات الانكسار والخيبة. لم يحتمل أبناء جيلها هذا التشخيص الحاد الذي استخدم مشرط الجراح أكثر مما لجأ إلى تعاطي المسكنات، فتهاوت أروى مع حلمها ذات يوم من صيف 1997، ملقية بنفسها من الدور العاشر في إحدى البنايات العالية في قلب القاهرة، بعد أن التهمها الاكتئاب قبل أن تتم عامها السابع والأربعين لتغادر عالمنا مجيبة بالنفي على السؤال الذي طرحته ذات يوم على نفسها "هل أفلحتُ بعد كل هذه الرحلة الطويلة الشاقة، في أن أصبح كائناً صالحاً للتعامل مع العالم الواقعي، دون أن يفقد إما توازنه وإما حلمه".
***
الآن.. وفيما تمر "ثورة يناير" بمأزق أكثر حدة وأشد ألماً مما جرى لتجربة صعود وانهيار الحركة الطلابية في السبعينيات الفائتة، يبدو أننا أمام نتائج متشابهة لما آلت إليه تلك الحركة. فقد ظل فريق من أبناء الثورة يؤمن بأن ما جرى هو حلقة في سلسلة نضال مستمرة وطويلة يجب أن تنضج وتختمر وتدفع ضرائبها المستحقة التي دفعتها أمم عديدة قبل أن تصل إلى مرافئها الآمنة.
كما تهاوى فريق عريض من أبناء تلك الثورة في مزالق الاكتئاب الجماعي والملل والشعور بفقدان الجدوى التي قادت إلى سلبية مفرطة في كل ما يخص الشأن العام وعدم الرغبة في خوض أي نقاش هادئ ومعقول لتفسير المآلات وأسبابها...
الخيال السياسي للمجتمعات قبل خيال الثوار
08-04-2023
الخلاصة، الباحث عن أسباب ذلك المصير الذي آلت إليه "ثورة يناير" يجب أن يتخلص سريعاً من تلك الراحة التي يستشعرها البعض عندما يندفع مطمئناً بأن كل أسباب الفشل جاءت من تغول السلطة وتوحشها، دون الالتفات إلى الأسباب التي تخص الثوار أنفسهم والذين ربما ارتفعت أسقف أحلامهم إلى الحد الذي لم تكن قدراتهم تسمح به. علاوة على دراسة الأسباب التي أدت إلى تشرذم وتنافر الكثير من القوى الثورية وتحلل لُحمة الميدان بالتدريج وهي واحدة من أهم الأسباب التي عرف النظام كيف يستغلها ويصنع بها ثغرات ينفذ بسهولة من خلالها.
"يناير" تحتاج إلى النقد الذاتي (وهو يمثل مقاومة بحد ذاته) وهو الذي يستطيع أن يكشف ما جرى بلا خجل وأن يضع أصابعه على مكامن الخلل التي ابتسرت التجربة بتلك السرعة. النقد الذي يعيد وصل الحلقات وإنعاش الذاكرة ومراكمة الدفاتر بشرط أن تظل مفتوحة ومتاحة للقراءة.
1 - يقول شريف يونس في دراسته عن الحركة الطلابية أنها كانت " ذلك البطل الذي خرج من قلب المحنة ليحمي الوطن ويواجه المؤامرات ويمنع الاستسلام، ولكنها من الجانب الآخر "الموضوعي" إفراز المجتمع في لحظة معينة كي يقوم بمهام التمثيل أو التعبير عن المجتمع - الوطن أو الشعب - ومطالبها إنما نسجتها الظروف التاريخية العامة لهذا المجتمع في لحظة الهزيمة وتهديد الأعداء وتخاذل النخبة وغياب الديمقراطية. نص منشور في "الحوار المتمدن" / العدد 339 – 16 / 12 / 2002. https://www.ahewar.org/debat/show.art.asp?aid=4407
2 - "أثقل من رضوى، مقاطع من سيرة ذاتية" - دار الشروق، مصر، الطبعة الأولى 2013، السطرين الأخيرين من المذكرات
3 - "الرحلة، أيام طالبة مصرية فى أمريكا"، دار الآداب، بيروت، الطبعة الاولى 1983. ص 35
4 - "فرج"، دار الشروق، مصر، الطبعة الاولى 2008 - ص 166
5 - "فرج" المصدر نفسه
6 - "أثقل من رضوى.." مصدر مذكور سابقاً
7 - "المبتسَرون"، دار النهر للنشر والتوزيع، مصر، الطبعة الأولى 1996 - ص 54
8 - "المبتسرون"، مصدر مذكور سابقاً، ص 49