إعداد وتحرير: صباح جلّول
ربّما لو اقترح أحدنا منذ سنوات قليلة فقط سيناريو يقول أن المقابر الأثرية في القاهرة القديمة ستنبشها الدولة لإتاحة المجال أمام جسور وطرقات خرسانية، لما صدّق أحد ذلك الاحتمال. نحن في آخر المطاف من مجتمعات تهاب المساس بعالم الموتى وتُعامِل القبور والمدافن والرفات البشرية بكثير من الحيطة والحذر... والاحترام. لكنّ حملة شعواء تضرب عرض الحائط كل ما ألفناه من تلك الممارسات. صارت الآثار ذات القيمة الثقافية والتاريخية والهندسية مجرد عقبة في طريق الأسفلت، وأكثر من ذلك، صارت عظام الأموات مشاعاً للجرافات.
في شهر أيار/ مايو 2023، عادت العلامات الحمراء الى الظهور على منشآت وهياكل مقابر الإمام الشافعي والسيدة نفيسة في القاهرة. علامة X أو دائرة تتوسطها نقطة أو كلمة "إزالة" رُشّت بالبخاخ الرخيص على عدد معتبر من حيطان جبّانات تحوي قبوراً جاوز عمر بعضها مئات الأعوام (وأحياناً الألف عام، كما وجد بعض الباحثين!). إنها مرحلة جديدة من خطة بدأت في 2021، حين أعلنت محافظة القاهرة نيتها إزالة نحو 2700 مقبرة في القاهرة القديمة من أجل خطة "لتطوير شبكة الطرق". بالفعل، ومنذ ذلك الإعلان، أزيلت ورُصِدت للهدم مساحات من المقابر وعلى مراحل عدة. تُمسح الآن مئات القبور القديمة ومن بينها مقابر شخصيات تاريخية وأعلام سياسية وأدبية ودينية، مثل قبر محمود سامي باشا البارودي (أحد أبطال الثورة العُرابية ومقاومة الاحتلال الإنجليزي)، وقبر شاعر النيل حافظ إبراهيم، والكاتب يحيى حقي وغيرهم. ونذكر الضجة التي أثيرت العام الماضي حول إزالة قبر عميد الأدب العربي طه حسين ثمّ تراجُع السلطات عن ذلك عندما طلبت عائلته نقل الرفات إلى فرنسا.
في معمعة هذا العدوان اللامبالي على آثار مصر وتاريخها، ثمة مَن يُبالون. خرج وسط الأزمة أشخاص أخذوا على عاتقهم مهمّة حفظ هذه الآثار المهمة بالصور والفيديو، فينزلون يومياً إلى المقابر – خصوصاً تلك التي تأكدت نيّة إزالتها ووُضعت عليها العلامات – ليتجوّلوا بين المدافن ويصوّروها بتفاصيلها وطرُزها المعمارية التي تتغير مع تبدل أزمانها، وزخارفها ونقوشها وكتاباتها، مع توثيق التواريخ المنقوشة عليها وهويات أصحابها المتوفين.
تهديد التراث عندما يطال الأهرامات
10-03-2023
يهتم الطبيب المصري مصطفى الصادق بالتراث دون أن تكون تلك مهنته الأساسية، لكن استشعاره أهمية ما يتمّ محوه دفعه وزملاءه إلى أخذ الأمر بكثير من الجدية وتحويل مقابر الإمام الشافعي إلى ورشة توثيق وموقع أبحاث فورية، يتوخون فيه السرعة والدقة بنقل وتصوير كل ما تقع عليه العين. هؤلاء حرفياً يسابقون الجرافات إلى المكان لحماية ما قد يندثر كلياً لو لم يقوموا هم أنفسهم بالعمل على منع اندثاره.
في حديث لـ"بي بي سي عربية"، يقول الصادق: "إذا هُدمت هذه المقابر، لن يكون لدينا ما نريه للأجيال القادمة سوى هذه الصور أو المقاطع التي نصوّرها". وأشار إلى أنه ورفاقه اكتشفوا أثناء تجوالهم بين المدافن المهددة بالإزالة، شاهد قبر يبلغ عمره نحو 1200 عام، فسارعوا إلى إخطار السلطات ليتمّ الحفاظ عليه. لكن، لماذا آصلاً تترك السلطات أثراً بهذا القدم والدلالة رهناً لصدفة تجعل المواطنين المبادِرين هم وحدهم من يسعون لحمايته؟ وفي إشارة ذات دلالة، يذكر الصادق أن مدفن رئيس وزراء سوريا الأول حقي العظم موجود في مقابر القرّافة، رغم أن صفحات الانترنت تشير لدفنه في سوريا، لكنّ وجود الشاهد ونقوشه هو الدليل المادي على مكان دفن الرجل، فكما يشير الصادق، اختفاء هذا الدليل يعني أن المعلومة التاريخية قد تتعرض للتغيير أو الضياع. ضياع هذه القبور ليس فقط تفريطاً بقيم جمالية وأثرية مهمة، وإنما تخريباً لدلائل التاريخ دون إتاحة بديل رسمي لتوثيقها، وما في الساحة إلا هذه المبادرات التي تتخذ طابعاً فردياً أو تكون على نطاق مجموعات صغيرة يدفعها الشعور بالمسؤولية، فتأخذ بإمكاناتها المتواضعة مكان السلطات.
وداعاً لعوّامات النيل...
07-07-2022
في الصورة الأعمّ، يتخوّف كثر من كون مشروع "تطوير شبكة الطرقات" مجرّد شماعة لمشروع أكبر قوامه تحويل المقابر إلى مساحات مسطحة تقدَّم للمستثمرين ومشاريعهم الربحية. هذا في حين يمكن لتطوير المقابر نفسها أن يكون جاذباً للباحثين والسياح، نوعاً من المتاحف المفتوحة، كما هو الحال في مقبرة "بير لاشيز" في باريس أو مقابر أبي أيوب الأنصاري في تركيا... ومصر نفسها وفخرها السياحي الأبرز هو الأهرامات، مقابر المصريين القدامى!... إلا أن الإزالات تحدث بدون أي نقاش أو حوار مع المعماريين والمهتمين بالآثار، حسبما كتبت صفحة "الموقف المصري" على فيسبوك، "بدون أي اعتبار لخطورة الموضوع وتأثيره، وكإن اللي بيتهدّ بيرجع تاني!"