الصوفية في اليمن.. ملاذ روحي ووعاء لثقافة التنوع الديني

اتّسم التصوف في اليمن بنهجين حظي كلٌ منهما بأقطابه ومريديه: الأول أعطى للفكر الصوفي شمولية الاعتقاد بـ"علم الشريعة والحقيقة" والإيمان بالروحانيات "مع مسايرة الحياة المتجددة"، وعُرف روّاد هذا النهج بـ"علماء الشريعة"، أما الثاني فوضع أقطابه إيمانهم بـ"علم الحقيقة والسمو الروحي" فقط، ووضعوا لمريديهم قواعد لجعل التصوّف وطقوسه التعبّدية أكثر أهمية من الفرائض.
2023-05-25

لطف الصَّرَاري

قاص وصحافي من اليمن


شارك
ضريح أحمد بن علوان في يفرس، تعز - اليمن.

كما في جميع البلدان الإسلامية، نشأت الصوفية في اليمن على الزهد في ملذات الحياة وأهوائها، والعزلة المرادفة للانقطاع الكامل عنها من أجل التعبّد. تُجمع المصادر التاريخية على أن نشأة الصوفية في الإسلام بدأت من العراق. بعد حوالي قرنين انتقلت إلى اليمن وبقيت قرابة القرن في حالة سكون، إذ لا يوجد في مصادر التاريخ الإسلامي في اليمن ما يشير إلى أنشطة صوفية خلال القرن الثالث الهجري، لكنها بعد ذلك انتشرت في البلاد، لا سيما الأجزاء الغربية والشرقية والجنوبية منها. وعلى مدى 1200 سنة، تغلغلت الصوفية في المجتمع اليمني حتى صارت بمثابة مذهب ديني ثالث يحمل طابع الفقه السُّنّي والشيعي، وإن كان في الغالب أقرب إلى الأخير نظراً للتبجيل الإضافي الذي يحظى به أقطاب الصوفية المنتمون إلى الأسرة الهاشمية - "آل البيت" بحسب التداول الشعبي.

التأسيس وظروف الانتشار

 يذكر المؤرخ عبد الرحمن عبد الله الحضرمي (1933-1993م) أن دخول الصوفية إلى اليمن كان في سنة 237هـ، على يد المتصوف الشهير ذي النُّون المصري (توفي سنة 245 هـ الموافق 859 م) واسمه الحقيقي ثوبان ابن إبراهيم. تعود أصوله إلى أسرة نوبية في صعيد مصر. أسس ذو النون مدرسة للتصوّف في مصر متأثراً بالحركة الصوفية التي نشأت في البصرة والكوفة، ونشر طريقته في التصوّف إلى وهران والقدس وأنطاكيا، ثم اليمن التي زارها لأول مرة خلال حكم الدولة الزيادية (205-402هـ/ 821- 1012م) ونزل في عاصمتها زبيد.

وبحسب الحضرمي، كان أبرز عوامل ظهور الصوفية في المجتمعات العربية الإسلامية، التحول الذي رافق انتشار الفكر الديني فيها في القرن الأول الهجري وانتقالها من حياة التقشف إلى البذخ، إضافة إلى تعدد الفرق الدينية بتأثير الأحداث السياسية التي غلب عليها طابع الصراع المتقطع المرافق عادةً للانتقالات السياسية في دولة الخلافة.

على مدى 1200 سنة، تغلغلت الصوفية في المجتمع اليمني حتى صارت بمثابة مذهب ديني ثالث يحمل طابع الفقه السُّنّي والشيعي، وإن كان في الغالب أقرب إلى الأخير نظراً للتبجيل الإضافي الذي يحظى به أقطاب الصوفية المنتمين إلى الأسرة الهاشمية - "آل البيت" بحسب التداول الشعبي. وعلى امتداد اليمن، لا تخلو منطقة من ضريح لـ"ولي" صوفي...

  وعلى الرغم من خلو القرن الثالث الهجري من ذكر أي نشاط تاريخي للتصوف في اليمن، فقد شهد النصف الثاني من القرن نفسه نشوء "الحركة الزيدية" بمجيء يحيى ابن الحسين الرسّي إلى صعدة سنة 284هـ، وهي الحركة التي ما لبثت أن تحولت إلى مذهب ديني لغالبية سكان شمال وشمال غرب اليمن. تأسس المذهب الزيدي على مبدأ التشيّع وما ينطوي عليه من طابع سياسي يشترط على معتنقيه التأييد الكامل للحاكم/ الإمام، المنحدر بالضرورة من أسرة النبي محمد، بينما نشأ التصوّف على مبدأ الزهد والورع والعبادة في العزلة. في الواقع، اتّسم التصوف في اليمن بنهجين حظي كلٌ منهما بأقطابه ومريديه: الأول أعطى للفكر الصوفي شمولية الاعتقاد بـ"علم الشريعة والحقيقة" والإيمان بالروحانيات "مع مسايرة الحياة المتجددة"، وعُرف روّاد هذا النهج بـ"علماء الشريعة"، أما الثاني فوضع أقطابه إيمانهم بـ"علم الحقيقة والسمو الروحي" فقط، ووضعوا لمريديهم قواعد لجعل التصوّف وطقوسه التعبّدية أكثر أهمية من الفرائض. من هنا نشأ الخلاف بين "علماء الحقيقة" وبين "علماء الشريعة" الذين كانوا غالباً من معتنقي المذهب السُّني، كما كان لجولات الصراع السياسي دور في إذكاء هذا الخلاف أو فضّه عندما يتطور إلى نزاع.

كانت مدينتا زبيد (على الساحل الغربي) والجَنَد (وسط اليمن) أكثر الأماكن التي انتشر فيها التصوّف، إضافة إلى مدينة تَريم ومناطق أخرى في حضرموت، وبالمثل، محافظة لَحْج القريبة من عدن التي لم تخلُ هي الأخرى من النشاط الصوفي في مساجدها. لا يمكن القول إن الصوفية كممارسة لم تمتد في انتشارها إلى مناطق الشمال والشمال الغربي، لكن هذه المناطق بقيت متأثرة بالمذهب الزيدي الذي لا يحتاج أعلامه إلى سلوك طرق التصوف ليحظوا بالمكانة الدينية والدنيوية، إذ كونهم من "آل بيت النبي" فهذا يكفي ليواليهم الناس ويسبغوا عليهم المعجزات، سواءً كانوا علماء دين بارزين أو حكاما.

بين "الولاية" الصوفية و"الإمامة" الشيعية

يبدو هذان المصطلحان مترادفين في الفكر الزيدي/ الشيعي، حيث تكتسب "الإمامة" صفات "الولاية" بمفهومها السياسي التقليدي، لكن "الولاية" بالمفهوم الصوفي هي مرتبة عليا للمتصوِّف الذي بلغ درجة القطبية. فـ"الولي" لدى المتصوفة هو الشيخ العارف بالله وأسرار "العلم الباطن"، "علم الحقيقة"، بينما "الولي" لدى الزيدية هو "الإمام" الحاكم أو المؤهل للحكم باستحقاق النسب إلى الأسرة النبوية.

كان أبرز عوامل ظهور الصوفية في المجتمعات العربية الإسلامية، التحول الذي رافق انتشار الفكر الديني فيها في القرن الأول الهجري وانتقالها من حياة التقشف إلى البذخ، إضافة إلى تعدد الفرق الدينية بتأثير الأحداث السياسية التي غلب عليها طابع الصراع المتقطع المرافق عادةً للانتقالات السياسية في دولة الخلافة.

يرى الصحافي والباحث محمد العلائي أن "الولاية" عند الصوفية تقابلها "الإمامة" عند الشيعة، وهو ليس تقابلا بمعنى الضدّية لأن المفهومين يلتقيان في نهاية المطاف. وما حدث في اعتقاده هو أن "الصوفيون الأوائل" استعاروا هذا اللفظ "من الشيعة الذين كانوا أول من استخدمه لوصف علي بن أبي طالب استناداً إلى "حديث الغدير" المشهور، ثم بحث الصوفيون لهذا اللفظ عن أسانيد إضافية من آيات في القرآن". ويخلص في استنتاجه إلى أن "الولاية" الصوفية هي استمرار للنبوة والوحي مثلما أن "الإمامة" الشيعية استمرار للنبوة والوحي". وفي ما يخص المذهب الزيدي الذي كان بعض الباحثين حتى وقت قريب يصفونه بـ"سنّة الشيعة" نظراً لاعتداله، يجادل العلائي بأن "فكرة وراثة النبوة تعبّر عنها الزيدية بطرق ملتوية بعض الشيء، فالإمام عند الزيدية - بالمفهوم المعياري القياسي - هو "عَلَم الهدى" و"قرين القرآن" و"وارث النبوة". إضافة إلى ذلك، "يؤمن المتصوفة بعصمة "الولي" وشفاعته إيمان الشيعة بعصمة "الإمام" وشفاعته، وينسب المتصوفة إلى "الولي" الكرامات مثلما ينسب الشيعة إلى "الإمام" المعجزات. وعلى اختلاف اللفظ بين "الكرامة" و"المعجزة"، فالمعنى المُراد منهما لا يختلف".

سريان الاعتقاد في المجتمع

على الرغم من أن 1200 سنة من اعتناق اليمنيين للطرق الصوفية كمذهب ديني تُعدّ كافية لتغلغل المعتقدات الصوفية في فكر المجتمع وتكوينه الروحي، فهناك على الأرجح عوامل مساعدة لهذا الرسوخ الثابت إلى عصرنا هذا. فإضافة إلى الظواهر المتجاوزة للفهم البشري التي يتم توظيفها لإقناع الناس بـ"الكرامات" و"المعجزات" الممنوحة إلهياً لـ"الولي" أو "الإمام"، ساعدت الظروف السياسية والاقتصادية والاجتماعية المحيطة بنشأة الصوفية والإمامة في ترسيخ هذه المعتقدات. وهي معتقدات لا تقتصر على الروحانيات فقط، بل تتعدى ذلك إلى لجوء عامة الناس، وبخاصة البسطاء والمستضعفين، إلى "الأولياء الصالحين"، طلباً للغوث والمساعدة في درء الشرور واستجلاب الخير.

لا تزال الطقوس سارية إلى الآن، أو على الأقل كانت سارية إلى ثمانينيات القرن العشرين الفائت، ثم اندثرت مع تصاعد التيار السلفي الذي يعتبر مثل هذه الممارسات "شِركاً بالله" أو "بِدَعاً" زائدة على التعاليم الأساسية للإسلام، وبالتالي فهي محرّمة دينياً.

على امتداد اليمن، لا تخلو منطقة من ضريح لـ"ولي" صوفي، خاصة مناطق الغرب والجنوب والشرق والمناطق الوسطى. ومع تعاقب الزمن أصبحت هذه الأضرحة تعدّ بالمئات إن لم تكن أكثر، سيما أن هناك "أولياء" اندثرت أضرحتهم، لكن أسماءهم أو ألقابهم، صارت محفوظة في التداول الشفاهي للناس. من أبرز هؤلاء "الأولياء"، أحمد ابن علوان (الباهوت)، الذي عاصر فترة الدولة الرسولية (626-858هـ/ 1229- 1454م) وجزءاً من زمن الدولة الطاهرية (858-933هـ/ 1454-1526م)، ولا يزال ضريحه قائماً في قرية "يَفْرُس" غرب مدينة تعز. ارتبط توسّل الناس بهؤلاء "الأولياء" بالعجز عن مواجهة صروف الدهر وتقلّب الأقدار، خاصة في أوقات الشدة وجور الحكّام ونضوب موارد المعيشة. وإلى تعدد صيغ التوسل والتماس العون من "أولياء الصوفية"، يطلّ الموروث الثقافي الضارب في القدم للمجتمع اليمني برأسه من ملامح بعض الممارسات الشعبية للمعتقدات ذات الطابع الصوفي.

معلوم أن الأوضاع السياسية في اليمن لم تشهد استقراراً طويل الأمد منذ القرن السابع الميلادي، حين انهارت أخيراً مملكة "حِمْيَر" التي توحدت في إطارها كافة الأقاليم اليمنية تحت اسم "مملكة سبأ وذي ريدان وحضرموت ويمَنَت والطَّود وأعرابهم" (115 ق.م- 630م). ومعلوم أيضاً أن الفترة الإسلامية المبكرة في اليمن لم تشهد استقراراً سياسياً على الرغم من اعتناق اليمنيين للإسلام طواعية. ذلك أن تشظي البلاد على إثر تفكك الممالك التي كانت موحدة، والصراع على السيادة والموارد الاقتصادية، لم يُتيحا لولاة الدولة الإسلامية الوليدة حينها فرض الأنظمة الجديدة لفترات طويلة. كما أن الصراعات السياسية بين أجنحة الدولة الإسلامية المركزية عكس نفسه على الأوضاع في اليمن، فكان انتشار الدين الجديد يتأثر بما يحدث في البلدان الإسلامية الأخرى، إضافة إلى تأثره باستمرار اليمنيين في الخلط بين شعائر العبادة الإسلامية والطقوس والشعائر الدينية الموروثة من اليهودية والنصرانية والحنيفية أو حتى من الديانات الوثنية الأقدم. والثابت تاريخياً في اليمن، أن دعاة وفقهاء الإسلام واجهوا صعوبات مزمنة في حمل الناس على التخلي عن بعض الممارسات التعبّدية القديمة، كمناجاة النجوم والكواكب عند انقطاع أو تأخر المطر كما لو أنها آلهة أو تجسيد للإله: "سُهيل" على سبيل المثال. ويمكن أن تُختزل السلوكيات التالية أوجه الشبه بين طقوس التعبّد السابقة للإسلام وتلك المرافقة لانتشاره عبر الممارسات ذات الطابع الصوفي:

- تقديس الأماكن المرتفعة في الديانات القديمة، وتفضيل أولياء الصوفية الانعزال للتعبّد في أعالي الجبال،

- النذور وتقديم القرابين للمعابد في الديانات القديمة، مقابل النذور وتقديم القرابين لأضرحة أولياء الصوفية، ومن أمثلة ذلك، إضاءة الأضرحة بالشموع أو الفوانيس، أو إقامة الموالد والحَضَرات التي يذبح فيها الأغنياء من حيواناتهم ويدعون الناس إلى العشاء عادةً، ثم الاستمرار في الذِّكر وترديد القصائد الصوفية إلى بعد منتصف الليل،

- موائد الذباحة في المعابد القديمة، والتقرب بالذبائح في طقوس صلاة الاستسقاء، حيث يخرج سكان قرية ما أو محلّة إلى مكان بعيد عنها نسبياً ويؤدون صلاة الاستسقاء، وبعد فراغهم من الصلاة يذبحون ثوراً جوار ضريح "الولي" الصوفي ويتركون الدم يسيل إلى حفرة مخصصة لهذا الغرض، مع الاعتقاد بأن امتلاء الحفرة بالدم يدل على قبول الله لقربانهم وعلى نسبة أمطار غزيرة على أرضهم، والعكس في حال عدم امتلاء الحفرة.

إضافة إلى الظواهر المتجاوزة للفهم البشري التي يتم توظيفها لإقناع الناس بـ"الكرامات" و"المعجزات" الممنوحة إلهياً لـ"الولي" أو "الإمام"، ساعدت الظروف السياسية والاقتصادية والاجتماعية المحيطة بنشأة الصوفية والإمامة في ترسيخ هذه المعتقدات. وهي لا تقتصر على الروحانيات فقط، بل تتعدى ذلك إلى لجوء عامة الناس، وبخاصة البسطاء والمستضعفين، إلى "الأولياء الصالحين"، طلباً للغوث والمساعدة في درء الشرور واستجلاب الخير.

ارتبط توسّل الناس بهؤلاء "الأولياء" بالعجز عن مواجهة صروف الدهر وتقلّب الأقدار، خاصة في أوقات الشدة وجور الحكّام ونضوب موارد المعيشة. وإلى تعدد صيغ التوسل والتماس العون من "أولياء الصوفية"، يطلّ الموروث الثقافي الضارب في القدم للمجتمع اليمني برأسه من ملامح بعض الممارسات الشعبية للمعتقدات ذات الطابع الصوفي.

هذه الطقوس وغيرها الكثير، لا يزال بعضها سارياً إلى الآن، وبعضها ظلّ سارياً إلى ثمانينيات القرن العشرين الفائت على الأقل، ثم اندثر مع تصاعد التيار السلفي الذي يعتبر مثل هذه الممارسات "شِركاً بالله" أو "بِدَعاً" زائدة على التعاليم الأساسية للإسلام وبالتالي فهي محرّمة دينياً.

وعلى الرغم من محاربة التيار السلفي للطقوس والممارسات الصوفية في البلاد، لا تزال الصوفية ملاذاً روحياً لأولئك الذين يقررون اعتزال الحياة العامة بملذاتها ومشقّاتها، وبالمثل، لأولئك الذين يبحثون عن الأتباع والمريدين لتعزيز حضورهم في واقع فوضوي أفرزته الحرب وتفكك أو ضعف سلطة الدولة الواحدة على الجغرافيا اليمنية عموماً.

______________________

تمت الاستفادة في كتابة هذا النص من كتب:

• "تهامة في التاريخ"، عبدالرحمن عبد الله الحضرمي، المعهد الفرنسي للآثار والعلوم الاجتماعية، صنعاء 2005،
• الفن المعماري والفكر الديني في اليمن القديم (1500 ق.م- 600م) منير عبدالجليل العريقي، مكتبة مدبولي 2002،
• الأبعاد الصوفية في الإسلام وتاريخ التصوّف، آنا ماري شيمل، دار الجمل 2006. 

مقالات من اليمن

للكاتب نفسه