في صيف عام 1930 أعلن فيصل الأول؛ ملك العرب الشاب، رغبته في أن يصبح طياراً، فظهر في رسمة كاريكاتورية في صحيفة النيويورك تايمز وهو يطير على بساطه السحري، القادم من ألف ليلة وليلة، مسافراً من دمشق إلى بغداد، كناية عن تكسّر حلمه في أن يصبح ملكاً للعرب، واقتصار حدود مملكته على وادي الرافدين. بعد ذلك بست وعشرين سنة، تعود الصحيفة إلى استخدام عبارة «البساط السحري» في أمر يتعلق بالملوك الهواشم، فنشرت خبراً عن تدشين بث التلفزيون في العراق عنوانه: «الملك الصغير يحتفل بعيد ميلاده على البساط السحري»، وكان مضمون الخبر أن الملك فيصل الثاني سيظهر من خلال أول بث للتلفزيون في بغداد ليحيي شعبه في عيد مولده البهيج، فالبساط السحري كان رمزاً دعائياً، لوغو، تطلقه شركات التلفزيون لأغراض الترويج لذلك الصندوق العجيب؛ الذي ينقلك من بلاد إلى أخرى وأنت في مكانك، ليس لأنك علي بابا، بل لأنك من اليوم وصاعداً سيكون اسمك «عزيزي المشاهد». ويروي هالاك فينيس، المخرج التلفزيوني الذي وظفه الملك ليدير الإرسال ويدرّب العراقيين؛ أن في بغداد وقتها ما لا يقل عن ٣٠٠ تلفزيون موزعة في المقاهي والمنشآت العامة وبعض بيوت الموسرين، والبشوات.
أول لقطة لتلفزيون العراقيين ظهر فيها الملك اليافع، ابتسامات ميكانيكية لكنها بريئة، وتاج طريّ غير ملتفت للفتوق التي تأكل بساط جده السحري، تلت كلمته أغنيات عن الجيش والوطن وفواصل عن التربيّة المنزلية وشؤون ربّات البيوت، وصار يعرض مسلسلاتٍ تنفذ على الهواء مباشرة، كلها بالأبيض والأسود، ثم جاء الأحمر بعد سنتين، وتناوبت بعد التاج والفيصلية، البيرية والعقال والخوذة والقلنسوة والعمامة وليس انتهاء بالعرقجين والحدرية ورؤوس الأفندية التي تعتمر الفراغ.
كانت المسلسلات تؤلفها حساسية الرقيب لا حواس المؤلفين وبراعتهم، ظهرت الكثير من الأعمال النوعية وأكثر منها الأعمال التي لا تزعج أحداً، لا المشاهد العزيز ولا الرفاق الأعز منه، والكلام عن دراما تلك الحقبة يمكن تتبعه في حوارات ومذكرات ومقالات أهل تلك الصناعة في ذلك الوقت إذا كان الغرض هو الحديث عن تأريخ الدراما مع رقباء السلطة، ولعلّ الخلاصة هنا؛ أن الحريات المستلبة في التأليف والإنتاج قد قصرّت عمر الدراما العراقيّة وجعلتها تبدو حديثة العهد بلا تجارب وأخطاء حتى! كانت تعرض كلها على البساط السحري الوحيد الذي تحتكره الدولة، ويحدث أن يفرّخ البساط سجادة صغيرة جانبية مثل أن يفتتح ابن الرئيس بساطه السحري الخاص في التسعينات، أو أن يتوسع البساط قليلاً ويغزل خيوطاً جديدة، لكن البساط المركزي ومن يظهر عليه سيظل مؤشراً على التغييرات الكبيرة، الملك قد أصبح حقيقياً فقط حينما ظهر لرعاياه في التلفزيون، وفي حرب الاحتلال الأخيرة، لم يصدّق كثيرٌ من العراقيين سقوط نظام صدام إلا بعد مشاهدة الرئيس بنسخته الإسمنتية في التلفزيون، يتدحرج في ساحة الفردوس، رغم أنهم كانوا يشاهدون جيوش التحالف تذرع الشوارع.
يروي شيخ الدراما العراقية عمانوئيل رسام هذه الحادثة من أيام أحمد حسن البكر، كان رسّام يشغل منصب قسم الدراما، سأله مدير الرقابة إن كان شاهد المشهد الذي أدّاه الممثل طه سالم في إحدى حلقات المسلسل ليلة البارحة وكيف أنه طقطق حبّات المسبحة أربع مرّات، فأجاب رسّام أنه شاهده ولا يجد في طقطقة السبحة مشكلة، فامتعض المدير واتهم رسّام بعدم الأهلية، قائلاً ما معناه: «أنت غشيم، كيف لك أن لا تدرك إشارة الممثل الخفيّة، الحبات الأربعة تعني، وطن حرٌ وشعب سعيد»، ملمّحاً أن الفنان الراحل طه سالم يغمز بشعار شيوعي!.
اليوم لكل فرد تقريباً بساط سحري، ولم يعد بساط الدولة سحرياً جداً، وبعد كلبشة الرقيب الحكومي كان على الدراما العراقية أن تضع الكلبشات في نفسها لنفسها. صارت دراما ملساء تدخل البيوت دون أن يشعر بمرورها أحد، لأنها تتوخى عدم إزعاج أحد، فصرت تسمع عن تلك الحساسية الاجتماعية والأيديولوجية البالغة من مضامين الدراما والمؤامرات السريّة التي تحاك خلفها، تجد دائماً ذلك الصوت الذي يعلن عن تعرضه للإساءة من قصة ما أو شخصية درامية ما، وهناك من يحسب المسلسلات مثل العراضات والهوسات ينبغي أن تنفخ في أناه وتُعدِّد مناقبه وأمجاده، إذا صحّ أن الكتابة الدرامية والروائية تستأهل المنع لأنها تلوث سمعة المجتمع الذي تعيش فيه، لصحّ أن يمنع الروس دستويفسكي لأنه أدان البيروقراطية فيه والفساد، وتضييق الحريّات الاقتصادية.
ولصح أن يشمئز الشعب الكولومبي من ماركيز، لأنه فضح غياب العدالة الاجتماعية في مجتمع أمريكا الجنوبية، وقدّم المرأة أحادية البعد؛ لا يمكن تعريفها إلا بواسطة علاقتها بالرجل، والأمثلة تفوق الإحصاء.
الفن مطرقة وليس مرآة، كما يقول بريخت.
والمطارق أنواع، بعضها بروباغندا، وبعضها بروباغندا أيضاً، وبعضها الآخر بروباغندا أيضاً، البروباغاندا هنا مجاز عن هموم المؤلف المسالمة أيضاً، مثلما قد تكون فرضيات اجتماعية مغلوطة يريد مؤلف آخر تطبيعها، وبعضها حكايات تتداخل مع ذواتنا وأمزجتنا وتمتعنا، قد تشبهنا وقد لا تشبهنا، البروباغاندا الأعظم هي أن تمنع حكاية من أن تروى، أن تنتشر رائحة جلدك المكشوف المتحسس للنقد، فلن يروي عنك وعن حكاياتك أحد، ويهاب الجميع استلال ملمح من تاريخك أو جغرافيتك ومجتمعك؛ لأنك تمنع أن يراك أحد، أو ترى في كل شيء استهدافاً طائفياً أو تعريضاً بالدين والقيم المجيدة، المجيدة جداً.
وإذا كان المطلوب من المسلسلات أن تكون مرايا تعكس صورتنا وتبرز جمالنا، فالمرايا لا تقول شيئاً ولا تتحاور، ولا تتحدث إلا للساحرات حينما يسألن: مرايتي يا مرايتي منو أحلى الحلوات؟ إذ يطيب لهن أن يقال عنهن فاتنات حتى لو كانت الحقيقة غير ذلك، المرايا مفرّغة من المعنى ولا تتخاطب مع المشاهد، كما هي أغلب الفنون التي تخاف الرقيب، الاجتماعي والإنتاجي، إذ عليها أن تتحاشى المحذور وإلّا ستكسرها مطرقة المشاهدين، الباحثين عن مرايا كاذبة تقول لهم: أنتم أحلى مشاهدين.
أول شاشة تذكرها الأساطير هي صفحة الماء، إذ ساقت الآلهة الإغريقية صياداً وسيماً معروفاً بغروره إلى النهر وهناك جعلته يحدق في صورته، فوقع الصياد نرسيس في غرام نفسه، واشتعل به الهيام بحب ملامحه لدرجة أنه توقف عن الإحساس بكل ما حوله، ومات وهو يحدّق في الشاشة.
المشاهد الأول مات باكراً، وكانت هذه أول علامة على براعة الإخراج بميزانية قليلة!
لكن عباس كياروستامي يقول إن الشاشات مثل المرايا وظيفتها أن ترعبنا وتضاعف إدراكنا لهمومنا.
كان التوهج الملحوظ في دراما هذه السنة العراقية يقول لنا أسبابه بوضوح:
الاقتراب قليلاً من تقاليد صناعة الدراما.
الاقتراب من أنماط مختلفة عن تقاليد الأسلاف في الأداء التمثيلي، رشة خفيفة من الواقعية الجديدة وسينما البمبل كور، أو الحوارات ذات النزعة اليومياتية.
الاقتراب «قليلاً» من الأدب.
الاقتراب «قليلاً» من السينما.
وكل ذلك لأنها تتأثر أيضاً بما يدور حولها في دراما العالم، لكنها تتأثر متأخرة كالعادة. خرجت على المشاهد وآثار لكمة الرقيب على وجهها، تستطيع أن تلاحظ كم الموضوعات التي تجنبتها حتى لا تعكر صفو أحد، وصديق الجميع صديق لا أحد كما يقولون.
الاقتراب من الأدب سيجعلها مبتكرة وليست نسخة مقلدة من عمل آخر، دون الأدب، ستبدو بعض النصوص كما لو أنها بلا مؤلف، وقد قام المشاهدون بتأليفها حسب الطلب والرغبة، وهذا لأن علاقة الدراما العراقية بالمؤلف الأدبي شبه منعدمة، أو قلّ، الجسر الواصل بينهما لا يتسع للعبور، والحال في السينما العراقية غير ذلك، ولهذا تجد أن سينما المهرجانات العراقية -نسبياً- متقدمة بمراحل إذا ما قورنت بالدراما التلفزيونية. لأن السينما مدركة أن منجم الحكايات لا يخرج من الشاشة نفسها، كما تؤمن أن الأرانب لا تخرج من القبعات، بل من رأس المؤلف، وقديما قال أهل هوليود: «الكتابة للتلفزيون تشبه كتابة رواية مع فواصل إعلانية!».